الخراب البشري في العراق (1-2)
    الثلاثاء 30 مايو / أيار 2006 - 10:40:10
    "مستحيل أن يتصرف شعب مضطهد بلياقة" (فردريك إنجلز)
    الشعب العراقي متهم ومنذ زمن بعيد، بأنه شعب شقاق ونفاق وإنه يختلف عن غيره من الشعوب في ممارسته للعنف بإفراط. وأنه متطرف في كل شيء، في الحب والكراهية، في الوفاء والغدر، في القسوة والرأفة والمبالغة في الكرم والانتقام، سريع الغضب...الخ... كما ويقال في هذا الخصوص أن الاسكندر المقدوني عندما احتل وادي الرافدين في القرن الرابع قبل الميلاد، عانى كثيراً من شعبه، فقرر إبادته ونقل أناس من مناطق أخرى من العالم للسكن فيه ليغير طباع شعبه بتغيير ديموغرافيته. فاستشار أستاذه أرسطوطاليس الذي رد عليه أنه حتى لو عمل ذلك، فبعد جيل أو جيلين سيعود الناس الجدد إلى ذات السلوك، طالما عاشوا في نفس البيئة الجغرافية. ويقصد بذلك أن البيئة العراقية، الهواء والماء والمناخ، هي المسؤولة عن سلوك العراقيين.

    كما ويعزي أستاذ علم الاجتماع الراحل علي الوردي تطرف العراقيين إلى تطرف البيئة أيضاً، فالمناخ حار جفاف صيفاً وبارد قارس شتاءاً، كذلك إلى شدة درجة انحدار نهري دجلة والفرات من الشمال إلى الجنوب بمعدل 5 أقدام لكل ميل، حيث الفيضانات الغاضبة المفاجئة، مقارنة بانحدار نهر النيل التدريجي، قدم واحد لكل ميل، فتسير مياهه هادئة وفي شهور مناسبة للاستفادة من الفيضانات. لذلك فالشعب المصري أقل تطرفاً من الشعب العراقي. إضافة إلى نظرية الوردي حول صراع البداوة والحضارة في الإنسان العراقي. أعتقد أن كل هذه العوامل صحيحة وما تعرض إليه من مظالم، جعل هذا الشعب يتسم بالعنف طوال التاريخ.

    وقد ألف الكاتب العراقي الدكتور باقر ياسين، كتاباً بعنوان (تاريخ العنف السياسي في العراق) فتتبع جذور العنف السياسي من عهد السومريين والبابليين مروراً بالفتح العربي-الإسلامي، ولحد انقلاب 8 شباط 1963 الدموي الرهيب الذي قتل فيه نحو 20 ألف من الوطنيين العراقيين في غضون أيام قليلة والذي كان أسوأ على العراق من غزو المغول عام 1258م.

    وبعد كل هذه الكوارث والفظائع التي نزلت على العراقيين، خلال العقود الماضية والتي بلغت الذروة في عهد نظام البعث، اعتقد أنه حان الوقت، بل ومن الضروري أن نترك ما درج عليه المثقفون في تجنب نقد الشعب واعتباره فوق النقد والمساءلة. فالشعب يتكون من أفراد، ولكل شعب طابعه وشخصيته المتميزة ومعدل سلوك الأفراد هو انعكاس للثقافة الاجتماعية الموروثة. ولا شك فإن العراق اليوم يحتاج إلى مئات الباحثين في علم النفس وعلم الاجتماع من أمثال علي الوردي، لتشريح هذا المجتمع والكشف عن أمراضه الاجتماعية ومعالجتها بالوسائل العلمية، لا بالمديح الرخيص والنفاق الاجتماعي والتستر على هذه الأمراض.

    نماذج من الخراب البشري في العراق:
    سأنقل هنا بعض الأمثلة على الجرائم التي ارتكبت ومازالت تركب في العراق من قبل أبناء العراق وضد بعضهم البعض، وهي أعراض وعلامات مباشرة تدل على حجم الخراب البشري في هذا البلد والذي ظهر للعيان بكل بشاعته وعنفوانه بشكل مفاجئ بعد سقوط الفاشية البعثية، أي بعد سقوط القناع الذي كان قد غطى هذه العيوب لفترة طويلة من الزمن. فهذه الشروخ في جدران البيت العراقي، كما وصفها الصديق الروائي إبراهيم احمد، كانت موجودة منذ مئات السنين، ولم تجلبها القوات الأمريكية معها، كما يدعي البعض من أيتام النظام الساقط. إذ كلما عملته أمريكا أن أسقطت هذا الطلاء الزائف الذي كان يغطي هذه الشروخ، فبانت للعيان بكل وضوح.

    1-عمليات الفرهود (النهب) الجماعي
    لقد شمل الفرهود بعد سقوط النظام البائد مؤسسات الدولة مثل المعامل والسيارات والمواصلات وشبكة الاتصالات والمنشآت الاقتصادية والتعليمية، ولم يسلم من النهب حتى أجهزة المستشفيات التي لا فائدة مها للناهبين، ولكن فقط بدافع الرغبة الجامحة في تخريب ممتلكات الدولة التي لا يشعر المواطن بالانتماء إليها.
    2- عصابات الجريمة المنظمة
    وبعد أن انتهى الغوغاء من نهب ممتلكات الدولة، تشكلت عصابات الجريمة المنظمة، لتقوم بنهب ممتلكات الناس وخطف الأطفال والنساء والرجال، ومن جميع الأعمار، رجالاً ونساءً مقابل الفدية للإثراء السريع، حتى أصبحت حرفة لشريحة واسعة من قطاع الطرق وغيرهم من المجرمين. كما لجأ الإرهابيون إلى هذه الوسيلة القذرة لتمويل منظماتهم الإرهابية لشراء المزيد من الأسلحة والمتفجرات لتدمير العراق.
    3-القتل على الهوية الطائفية
    تصاعد عمليات الإرهاب والقتل على الهوية العرقية والطائفية والتي راح ضحيتها عشرات الألوف، والمجازر مازالت مستمرة وبوتيرة متصاعدة يندى لها الجبين، وسوف تبقى وصمة عار في تاريخ الشعب العراقي إلى مستقبل غير منظور.
    4- تخريب قبور الأولياء
    لم يسلم من هذا التخريب حتى قبور الأولياء والرموز الدينية والآثار التاريخية بل تم حرق حتى المكتبة الوطنية التي كانت تضم أكبر كمية من الوثائق التاريخية النادرة من مختلف العصور وبذلك تم حرق الذاكرة العراقية.
    5- شمول رجال الدين بالتخريب
    هذا التخريب لم يتوقف على الشباب المغرر بهم والمحرومين من متع الحياة فحسب، بل شمل حتى رجال الدين المفترض بهم أن يقدموا النصيحة ويأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر ويحافظوا على اخلاق العامة، وإذا بهم جزء من هذا الخراب الشامل. وعلى سبيل المثال لا الحصر، أنقل هذا النموذج من فساد "العلماء" بعد أن فسد " الأمراء" إلى حد النخاع. وهذا مقتطف من خطبة الجمعة لإمام شيعي (الشيخ كاظم العبادي الناصري) في المسجد الرئيسي بمدينة الصدر إذ قال: «الغرب يحاول أن يلهيكم بشعارات فضفاضة مثل الحرية والديمقراطية والثقافة والمجتمع المدني... ضلال الكفرة دخل إلى مجتمعنا من خلال هذه المفاهيم». ويصف الأميركيين الذين حرروه من ظلم صدام بـ«المستعمرين الكفرة» وأجاز قتل النساء غير المحجبات اللواتي يرفضن الالتزام بتعاليمه، إضافة إلى دعوته لقتل المسلمين وغير المسلمين الذين يبيعون الخمور. («الشرق الأوسط» ، 26/5/2003 عن «نيويورك تايمز»). كذلك ما قام به "رجل الدين الشاب" السيد مقتدى الصدر من أعمال التخريب وآخر ما سمع الجميع به هو إصداره فتوى حرم بموجبها لعبة كرة القدم، بينما لم يصدر أي من هؤلاء فتوى لتحريم اللطم والتطبير الذي صار وصمة عار في المذهب الشيعي.

    6- نموذج متطرف من التخريب
    يقول زيد قيس محمود صالح الهلالي، (ولد عام 1983): "حين سقط النظام كنت طالبا في كلية الإمام الأعظم أبي حنيفة، لا أدخن، ولا أحتسي الخمر، كنت شابا عاديا، أبي كان شيخ جامع منطقة ألبوعيثة. (زيد يحمل وجها طفوليا، غادرته طفولته مبكرا، وجد نفسه فجأة بين جدران يتردد صوت القرآن بينها " ويضيف زيد: "قتلت أكثر من 1000 عراقي، لم أحزن على أي أحد منهم، ولم أفكر ولو لمرة واحدة إن عملي يضر أحداً ! ... كنت مجاهداً وتحولت الى مجرم يقتل بإسم الإسلام !... لم أستغفر الله على أية قطرة دم أسالتها بندقيتي ومسدسي". (سفاح الدورة يعترف لـ كتابات - حاوره / وجيه عباس، 25/3/2006). والسؤال الملح هو، كيف تحوّل هذا الشاب البريئ إلى سفاح يقتل ألف عراقي ودون أي تأنيب للضمير؟

    7- مافيا تهريب النفط
    كشف تقرير لمكتب المفتش العام لوزارة النفط العراقية أنه تم الاستيلاء بشكل غير مشروع على ما قيمته مليار دولار شهريا من النفط ومشتقاته في العراق العام الماضي، من خلال بيعها في السوق السوداء. (الشرق الأوسط، 22/5/2006). وفضح هذا التقرير الرسمي العراقي عن عمليات تهريب النفط العراقي قوى دينية وسياسية بتشكيل (مافيا تهريب) تجني مبالغ طائلة تدخلها في دائرة الفساد الذي اصبح معه الكثير من المهربين والمنتفعين يغرون هذه القوى عن طريق الدعم وتقديم الأموال ليحتمون بها إضافة إلى استخدام آخرين لموارد التهريب في دعم العمليات الارهابية ... ونشر روح اليأس والإحباط بين المواطنين. (سامي مهدي، تقرير إيلاف، 19/5/2006).

    8- توأمان يفترقان دراسيا بسبب اسميهما «علي» و«عمر»
    هذا هو عنوان لتقرير نشرته صحيفة (الشرق الأوسط) اللندنية، فيقول: علي وعمر توأمان عراقيان عمراهما 14 عاما، من أب شيعي وأم سنية ويقطنان في حي العامل بجانب الكرخ من بغداد. حتى فترة قريبة كان التوأمان يذهبان الى مدرستهما المتوسطة معا او برفقة بقية زملائهما، لكن فجأة توقف عمر عن الذهاب الى المدرسة بينما استمر شقيقه متواصلا مع دراسته. والد التوأمين تحسين الجبوري قال لـ«الشرق الاوسط» عبر محادثة هاتفية، ان ولده عمر توقف عن الذهاب الى المدرسة لأسباب طائفية، وأضاف «لقد صار القتل والاختطاف في بغداد على الاسماء والهوية، فقد فوجئت ذات يوم ان ولدي عمر يخبرني بأن مدرس اللغة العربية يسألهم عن انتماءاتهم المذهبية، وطبعا فوجئ ولدي بهذا السؤال الذي لم يخطر على بالهما في يوم من الأيام لأننا في البيت نمنع الحديث عن مثل هذه المواضيع، وفوجئت أكثر عندما قال لي ولدي ان اسم شقيقه التوأم علي افضل بكثير من اسمه (عمر)، وطلب منه تغيير اسمه الى حسن او حسين». (معد فياض/الشرق الاوسط).

    9- محنة البصرة
    أهل البصرة أناس مسالمون معروفون بالطيبة والبساطة والألفة وكرم الضيافة ومساعدتهم للغريب..الخ، ولكن هذه البراءة تحولت إلى شرور بتأثير رجال الدين والمليشيات الإسلامية وتفشي وباء الطائفية واحتلال قوات حرس الثورة الإيراني للمحافظات الجنوبية. وقد بلغ العنف فيها هذه الأيام الذروة، وعلى سبيل المثال نقرأ ما يلي:
    "وحول سبب التدهور الأمني قال ماجد الساري مستشار وزير الدفاع العراقي ان البصرة تعيش منذ أكثر من شهر موجة اغتيالات بمعدل اغتيال شخص واحد كل ساعة. واتهم الساري في تصريحاته الحكومة المركزية، خاصة وزارة الداخلية بعدم الاهتمام وتجاهل النداءات للمساعدة في حل هذه الأزمة". والذي يقود هذه الفتنة في البصرة هم رجال الدين الشيعة. (من مقالة الشيخ علي القطبي، موقع: دروب، 18 مايو 2006).
    يقول الإمام جعفر الصادق (ع): "اثنان إذا صلحا صلح الناس، وإذا فسدا فسد الناس، العلماء والأمراء".

    10- فساد رجال الأمن
    في تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية BBC قبل شهرين، قال المراسل أن أخطر طريق في العالم هو طريق مطار بغداد الدولي. ففيه يقوم أفراد من الشرطة العراقية (أجل، من الشرطة العراقية)، باختطاف الأجانب وبيعهم على الإرهابيين بعدة آلاف من الدولارات للرهينة. والإرهابيون يفاوضون عليهم حكوماتهم وشركاتهم بالملايين. هذا لا يعني أن جميع شرطة العراق فاسدون، ولكن يكشف لنا هذا التقرير عن مدى الاختراق للقوات المسلحة، وأين وصل الفساد وحجم الخراب البشري في العراق.

    11- فساد الإخلاق ونكران الجميل
    في تقرير لصحيفة أمريكية، كتب ضابط أمريكي شارك في تصليح بعض المدارس في جنوب العراق. فقال بينما كان الجنود الأمريكان منهمكين في تصليح أبواب وشبابيك المدارس وطلاء جدرانها، كان الأطفال يرموننا بالحجارة والكبار يتفرجون ويضحكون علينا بدلاً من ردع الأطفال. ويسأل الضابط، هل هذه هي مهمتنا التي جئنا من أجلها، أم نحن جنود مقاتلون في ساحة الحرب؟ وهل هذا هو جزاء الإحسان؟

    12- سلوك رجل الدين مرة أخرى
    قرأنا في الأيام الأولى من تحرير العراق عن رجل دين برز في مدينة الثورة يدعى الشيخ محمد الفرطوسي. هذا الرجل من أوائل ناكري الجميل. إذ قام بتحريض الناس ضد الأمريكان وكان يصرح للصحف ومنها صحيفة (الشرق الأوسط) اللندنية، بأن الأمريكان أسوأ من نظام صدام حسين وخلق لهم مشاكل كثيرة في تلك المدينة في تحريض العوام ضدهم. وبعد أشهر اختفى من الأضواء، وعلمت أن الأمريكان أسكتوه بأن أسندوا إليه وظيفة تنظيف شوارع مدينة الثورة ببالغ مغرية، فسكت وأراح الجميع. فأين وصلت الاخلاق؟

    13- لا أبالية الناس
    تفيد تقارير أن الجنود الأمريكان وكمحاولة منهم لإزالة آلاف الأطنان من القمامة المتراكمة في مدينة الثورة، وزعوا أكياساً خاصة على البيوت لهذا الغرض وطلبوا منهم وضع نفاياتهم فيها ليمروا عليهم في وقت معين لجمعها، فرفض الناس التعاون واستمروا على عادتهم بإلقاء نفاياتهم في الشوارع. وأخيراً قام الجنود بشراء هذه النفايات مقابل مبلغ. ومع ذلك فالأمريكان كفرة محتلون ومستعمرون يجب محاربتهم!!

    14- تحويل الأعراس إلى مآتم
    سمعنا عن تفجير حفلات الأعراس واستغلال هذه المناسبة من قبل الإرهابيين لقتل الناس بالجملة. ولكن آخر مأساة نشرتها وكالة (رويترز) للأنباء نقلاً عن الشرطة العراقية، ان عريسا عراقيا اقتيد من حفل زفافه وعثر على جثته في وقت لاحق مقطوعة الرأس في حقل بعد ان اقتحم عرسه ضيوف غير مدعوين في بغداد. كما ذكرت الشرطة ان مسلحين اقتادوا التاجر خضير التميمي (26 عاما) ووالده وعمه وابن عمه وضيفا من الحفل (عرس أيضاً) يوم الخميس في المقدادية على بعد 90 كيلومترا شمال شرقي بغداد. وعثر على جثثهم يوم الجمعة مقطوعة الرؤوس وملقاة في ارض زراعية شمالي البلدة. وتجمعات الشيعة في مناسبات مثل حضور حفل عرس المقدادية اكثر عرضة لحملة تفجيرات واطلاق للنيران يقول مسؤولون عراقيون وامريكيون انها جزء من محاولة تنظيم القاعدة لاشعال فتيل حرب أهلية مع السنة.(رويترز، 26/5/2006).
    15- اغتيال بسبب سراويل قصيرة
    اغتيال مدرب المنتخب الوطني لكرة المضرب (التنس) ولاعبين بعد أيام من تحذير أصولي من ارتداء السراويل القصيرة. ورجح الشاهد ان يكون الدافع وراء عملية القتل ارتداء الرياضيين الثلاثة السراويل القصيرة، مشيرا الى «قيام جماعة مسلحة قبل أيام بتوزيع منشورات في السيدية/بغداد، تدعو أبناء الحي الى عدم ارتداء السراويل القصيرة». (الشرق الأوسط، 27 مايو 2006 ).
    هذه مجرد نماذج عن بشاعة الجرائم وحجم الخراب البشري الذي أصاب قطاعاً واسعاً من العراقيين، وهي بالتأكيد الجزء المرئي من الجبل الجليدي وما خفي منه أعظم. في مقالنا القادم، سنحاول معرفة أسباب هذا الخراب وتفسير هذه الظاهرة الخطيرة.
    يتبع
    مقالات أخرى للكاتب
    http://www.sotaliraq.com/Dr-Abdulkhaliq-Hussein.html

    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media