العَلمانية والديمقراطية جناحان لطائر الحرية
    الأربعاء 11 ديسمبر / كانون الأول 2006 - 21:36:31
    د. شاكر النابلسي
    ساهمت معظم الأنظمة العربية المحافظة واللاديمقراطية في اعاقة التطبيق العَلماني. ولكن من ساهم في ذلك كان نصيبه أن جاءت الطامة الكبرى على رأسه, نتيجة لظهور ونمو الحركات الإرهابية الناتج عن اضعاف التيار العَلماني.
    فنرى أن الدول الأكثر علمانية (لبنان مثلاً قبل الانسحاب السوري) هي أكثر الدول ابتعاداً عن الإرهاب. أما "حزب الله" المصنف من قبل أوروبا وأميركا بانه حزب ارهابي, فهو ليس حزباً لبنانياً, وانما هو حزب طائفي شيعي قاصر على الشيعة فقط. وهو إيراني المنشأ سوري التربية.
    وإيراني المال والسلاح وسوري الدعم السياسي والعسكري والتدريب. و"حزب الله" رُقعة قماش سياسية دينية في الثوب اللبناني العَلماني, مقصوصة من الثوب الخميني ومن الأصولية الدينية والقومية المتمثلتين بالثورة الخمينية وحزب البعث, أي السلفية والعَلمانية المزيفة ولا تليق بلبنان العَلماني والحداثي. لذا نرى "حزب الله" مثلاً كالرقعة القديمة النشاز في الثوب اللبناني الحداثي العصري.
    أما لماذا اختارت كثير من الأنظمة العربية التحالف مع بعض التيارات الإسلامية الارهابية عوض التحالف مع العَلمانية السلمية المسالمة فذلك يعود لأسباب سياسية ومرحلية معينة.
    فالسعودية مثلاً تحالفت مع الإخوان المسلمين في الستينات نكاية بعبد الناصر, ووقوفاً في وجه التيار "القومي الاشتراكي" الذي كان يمثله عبد الناصر آنذاك. ولكن ما لبث هذا التحالف أن تفكك بعد حرب الخليج الثانية 1991 عندما وقف الإخوان المسلمون إلى جانب صدام حسين في غزوه للكويت والسعودية, وبرروا ذلك أن لا حباً بصدام ولكن نكاية بأميركا! فأصبح الإخوان بلاءً على السعودية بعد أن كانوا عزاءً لها, كما وصفهم وزير الداخلية السعودي (سبتمبر 2003, جريدة "السياسة" الكويتية).

    أهمية وضرورة العَلمانية للمجتمعات العربية
    هناك أهمية كبرى لتحقيق العَلمانية في العالم العربي, وذلك لأن مستقبل العالم العربي يكمن في تحقيق الديمقراطية, ولا مستقبل زاهراً للعالم العربي بدون الديمقراطية.
    ولقد رأينا بأم أعيننا ماذا جرت الديكتاتورية الحزبية والعسكرية والعشائرية على العالم العربي من مصائب وكوارث, وفساد سياسي ومالي, وتنكيل بالمعارضة, وتعطيل للقوانين ومواد الدستور, وتزييف للحقائق وتعمية للرأي العام.
    وتحقيق الديمقراطية في العالم العربي لن يتم إلا بالعَلمانية وفصل الدين عن الدولة, وعدم اقحام الدين في السياسة. لأن الدين لم يعرف الديمقراطية بمعناها الحديث. ومعظم رجال الدين هم ضد كافة آليات الديمقراطية الحديثة المختلفة كالانتخابات وغيرها. ولنا من الانتخابات البلدية السعودية التي جرت بالأمس المثال القريب الحي.
    فقد كتب محمد موسى الشريف - أحد المزكين - للمرشحين الدينيين في جدة - يتحدث عن الديمقراطية على أساس أنها »قائمة على اللادينية العَلمانية«.
    وهي كذلك »تتحكم في حياة الشعوب بما يريده بعض الشعب, وهو المختار في البرلمان فقط وهم بضع مئات. فإذا أراد هؤلاء المئات, إباحة اللواط فعلوا . وإذا أرادوا إباحة زواج المرأة بالمرأة والرجل بالرجل أقدموا وشرعوا وسنوا, وإذا قرروا أي أمر واجتمع عليه أكثريتهم صار قانوناً, بقطع النظر تماماً عن الأديان وموقفها من هذا الأمر«. (أحمد عدنان, لماذا أصدر الدعاة تزكيتهم وكيف سقط الليبراليون ? جريدة "المدينة", 1/5/2005).
    وبهذا المنطق الأعوج والأهوج يفهم الإسلامويون الديمقراطية ويروجون لها في أوساط الجهلة والمنغلقين الضالين. وكذلك يفهم الأصوليون القوميون - كالقذافي مثلاً - الديمقراطية الحديثة, ويطلب من الغرب أن يتبنى الديمقراطية الليبيبة بدلاً من الديمقراطية الغربية!
    ومن هنا, نؤكد أن لا ديمقراطية بدون عَلمانية, ولكن هناك عَلمانية بدون ديمقراطية كما شهدنا في مصر وسورية والعراق في عهود الديكتاتوريات (1952-2003) وفي ليبيا طوال أكثر من 35 سنة. وهي في هذه الحالة عَلمانية مزيفة لا تلبث أن تفضح نفسها.
    إذن, لا ديمقراطية بدون عَلمانية. وفي العالم العربي المعاصر لم يكن هناك ربط بين الديمقراطية والعَلمانية حتى الآن. بل إن العَلمانية ارتبطت في كثير من الأحيان بأنظمة ديكتاتورية عسكرية حيناً وبأنظمة ديكتاتورية ملكية حيناً آخر, وبأنظمة ديكتاتورية قبلية حيناً ثالثاً. وظلت الخطوات العَلمانية في العالم العربي عموماً - التي كانت لصالح الفئات الحاكمة - سابقةً ومتقدمةً على أية خطوة ديمقراطية لصالح الشعب. وهو ما يشير إلى أن العَلمانيات في العالم تبدأ بالديكتاتوريات وتنتهي بالديمقراطيات.
    كما رأينا في حال أوروبا والغرب عموماً الذي انتهى إلى "العَلمانية الديمقراطية" بعد الديكتاتورية العَلمانية النازية والفاشية والفرانكوية الاسبانية بينما العالم العربي ما زال في مرحلة "العَلمانية الديكتاتورية" التي كانت سائدة في الغرب, أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية.

    العَلمانية والديمقراطية جناحان لطائر الحرية
    إن العَلمانية والديمقراطية جناحان لطائر الحرية. وعلى ضوء ذلك, يمكن لنا أن نستخلص الحقائق والقواعد التالية, مع التحفظ بأن هناك استثناءً لكل قاعدة:
    لا ديمقراطية بدون عَلْمانية (الغرب مثالاً).
    هناك عَلْمانية بدون ديمقراطية (العرب مثالا).
    الديمقراطية تقود دائماً إلى العَلمانية (الغرب مثالاً).
    العَلمانية لا تقود دائماً إلى الديمقراطية (مصر, سورية, العراق, والجزائر مثالاً).
    العَلمانية في مراحلها الأولى هي دائماً عَلْمانية ديكتاتورية (تركيا مثالاً).
    العَلمانية في مراحلها المتقدمة هي دائماً عَلْمانية ديمقراطية (تركيا مثالاً).
    العَلمانية تبدأ بالديكتاتورية وتنتهي بالديمقراطية (تركيا مثالاً).
    العَلمانية التي تبدأ بالديكتاتورية ولا تنتهي إلى الديمقراطية, عًلمانية مزيفة (مصر, ليبيا, العراق, وسورية أمثلة).
    العلاقة بين الديكتاتورية والعَلمانية علاقة جنسية مثلية (مصر, سورية, العراق, والجزائر مثالاً).
    العلاقة بين الديمقراطية والعَلمانية علاقة جنسية سوية (تركيا مثالاً).
    العَلمانية الديمقراطية ثابتة وراسخة (الغرب مثالاً).
    عَلْمانية العالم العربي والإسلامي الآن عَلْمانية ديكتاتورية لأنها عَلمانية أولية.
    تصل آليات العَلمانية في ظل الديكتاتورية عند حد معين تتوقف عنده, ولا تتقدم دون إحراز تقدم ديمقراطي (مصر, سورية, العراق, والجزائر مثالاً).
    العَلمانية الاقتصادية (فصل الدين عن الاقتصاد) لا تقود بالضرورة الى العَلمانية السياسية (فصل الدين عن الدولة) (دول الخليج مثالاً).
    والملاحظ المُستغرب أن رجال الدين لا يقاومون العَلمانية الاقتصادية (فصل الدين عن الاقتصاد) بقدر ما يقاومون العَلمانية السياسية (فصل الدين عن السياسة), ودول الخليج هي المثال الأبرز حيث تنتشر البنوك الربوية, وتُطبق أنظمة الاقتصاد الغربي العَلماني. بل إن السعودية ترفض حتى الآن التصريح ل¯ "البنوك الإسلامية" بالعمل في السعودية, في حين أنها صرحت مؤخراً بإنشاء بنك جديد "ربوي" هو بنك »البلاد«.
    والإصرار على ربط الدين بالسياسة ومقاومة العَلمانية السياسية على هذا النحو, مبعثه حرص رجال الدين الحفاظ على مكتسباتهم ومكانتهم كمشرعين وناشطين سياسيين - في ظل تغييب وسجن الليبراليين العَلمانيين - وكقوة وحيدة داعمة للحكم القائم, والاستفادة المالية والاجتماعية من هذه المكانة.

    الأنظمة العربية بين العَلمانية والديمقراطية
    ربط بعض المفكرين العرب في النصف الثاني من القرن العشرين بين العَلمانية والديمقراطية. وهؤلاء الذين ربطوا بين تقدم العَلمانية وبين تقدم الديمقراطية قد أخطأوا في هذا الربط في الحالة العربية. فلربما كان هذا الربط في أحوال الدول الغربية صحيحاً وشرطاً لازماً للديمقراطية والعَلمانية في مراحل معينة.
    ولكنه في الحالة العربية مختلف, بحيث تقدمت العَلمانية في العالم العربي ولم تتقدم الديمقراطية, وهو وض¯ع طبيعي حصل قبل ذلك في الغرب. وسبب ذلك في زعمي أن الهوامش العَلمانية لم تكن خطراً على السلطات الحاكمة بمقدار خطورة الهوامش الديمقراطية. فزيادة الهوامش العَلمانية من قبل السلطات الحاكمة هو اكتساب مزيد من السلطة المأخوذة من رجال الدين لصالح هذه السلطات.
    في حين أن زيادة الهوامش الديمقراطية معناه إعطاء مزيد من السلطات من قبل الحاكم للشعب وممثليه. وهو ما يهدد مصالح الحكم ويضع مراكبه في مهب الرياح الجديدة غير المحبوبة ولا المرغوبة.
    ومن هنا نرى أن المشهد العربي السياسي الآن في العالم العربي الاقتراب من العَلمانية لن¯زع مزيد من الأسلحة من أيدي الجماعات والأحزاب الإسلامية, والابتعاد عن الديمقراطية لن¯زع مزيد من الأسلحة من أيدي الجماعات والأحزاب الليبرالية.

    ماذا نختار: العَلمانية المعتدلة أم الراديكالية ?
    العَلمانية واحدة وقوانينها واضحة. لا يوجد هناك علمانية معتدلة وعلمانية راديكالية. ربما كانت هذه في النظرية, أما في التطبيق فهناك علمانية واحدة بحلوها ومرها. فإما أن نأخذها كلها وإما أن لا نأخذها. وهي كالدواء الذي على المريض أن يأخذه حتى آخر قطرة لكي يُشفى تماماً ونهائياً.
    ولو أخذ المريض نصف الدواء وترك النصف الآخر, لتراجعت وارتدت صحته ثانية واعتلَ من جديد. وهذا هو السبب الرئيسي لاعتلال صحة الدولة العربية واعتلال صحة المجتمعات العربية, وهو أنها أخذت من العَلمانية ما يخرجها من مرحلة آنية صعبة فقط, أي كانت العَلمانية دواءً مُسكناً وليست دواءً للشفاء. ولم تأخذ الدولة العربية دواء العَلمانية حتى آخر قطرة لكي يُنجيها من موت محتوم.
    وهذا هو حال الدولة العربية الآن التي تموت ببطء موتاً سريرياً. وهي لم تمت نهائياً ولم تُعلن وفاتها بعد, بفضل الأجهزة البوليسية التي تبقيها على قيد الحياة. ولو تمَ فصل هذه الأجهزة عن جسدها لتم اعلان موتها رسمياً, وأقيمت لها سرادقات العزاء!
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media