نشأة مفهوم المجتمع المدني وتطوره من المفهوم المجرد إلى المنظومة الاجتماعية والدولية
    الأربعاء 11 ديسمبر / كانون الأول 2006 - 21:44:08
    برهان غليون
    ما هو مصدر هذا التعارض الذي نشعر به اليوم بين الدولة والمجتمع المدني، وما هو مضمونه التاريخي والسياسي؟

    1- المفهوم، أصله واستخداماته
    ليس هناك مفهوم ثابت وجامد وناجز وقابل للاستخدام في كل زمان ومكان، حتى تلك المفاهيم التي تبدو لنا كذلك. فالمفهوم مرتبط بتاريخ نشأته، أي بالمشكلات التي كانت مطروحة في وقت نشوئه، كما هو مرتبط بالاشكاليات النظرية التي رافقت هذه المشكلات أي بنوعية المناظرة الفكرية التي دارت من حول المشاكل المطروحة والطريقة التي حاول واجهها بها المثقفون. فهو بالضرورة ابن بيئة تاريخية اجتماعية محددة وهو ابن فكر محدد أيضا. ثم إن المفاهيم لا تولد في النظرية فقط وعبر التفكير أي لا يستل واحدها من الآخر بصورة منطقية ورياضية ولكن ظهورها وتطورها يرتبطان بالصراع الاجتماعي، أي بنوع من الاستخدام الاستراتيجي. وليس هناك مفهوم تنطبق عليه هذه العوامل الثلاث التي تجعل منه مفهوما ديناميكيا جدا ومتحولا وملتبسا في الوقت نفسه أكثر من مفهوم المجتمع المدني.
    لكن لتقريب الموضوع من الأذهان يمكننا اختصار هذه الاستخدامات المتعددة وجمعها في أربعة استخدامات متميزة رافقت هذا المفهوم منذ نشوئه حتى اليوم.
    الاستخدام الأول هو الذي كان يجعل منه مناقضا لمفهوم الطبيعة والمجتمع الطبيعي، الذي هو بالنسبة للبعض المجتمع الحيواني أو المجتمع الأبوي أو المجتمع التقليدي أو مجتمع الحرية الأولى. وقد نشأ هذا الاستخدام في سياق تحلل النمط التقليدي للمجتمع الاقطاعي أو الدولة مابعد الاقطاعية القائمة على البديهة الدينية أو العرفية ونمو الشعور بأن السياسة صناعة أي نشاطا عقليا وتابعا لعمل الانسان والمجتمع، ومن خلف ذلك ظهور النظرية السياسية الحديثة. وكانت الحاجة ضرورية لمفهوم جديد يعكس النزوع المتزايد لاكتشاف ما سوف يسمى بالسياسة المدنية، أي السياسة التي تعبر عن حقيقة الانسان وطبيعة اجتماعه المدني (إقرأ الصنعي) وخصوصيته مقابل ما كان سائدا في الحقبة الوسيطة من انعدام السياسة كمجال عام ومشترك ومن ارتباط السياسة بالدين أو بالإرث الارستقراطي أو بالاثنين معا. فبنية المجتمعات ما قبل الحديثة كانت تقتصر على ثلاث مراتب أساسية من الوجهة السياسية، رجال الدين والكنيسة، طبقة النبلاء أو ملاكين الأرض والإقطاعيين، ثم عامة الشعب. ولم يكن لعامة الشعب أي اعتبار في أي موضوع يخص ما نسميه اليوم موضوعات سياسية.
    لقد كانت المشكلة الرئيسية المطروحة على مثقفي القرن السابع عشر والثامن عشر الذين رافقوا تحلل هذا النظام الاجتماعي التقليدي وتطور البرجوازية كطبقة جديدة تطمح إلى إعادة بنائه من منظورات مختلفة تلغي المراتبية الجامدة وتفتح المجال أمام هيمنة سياسية حديثة، هي إعادة بناء السياسة على أسس غير دينية وغير ارستقراطية، أي لا ترتبط بتكليف إلهي ولا بإرث عائلي، ولكن بالمجتمع نفسه، تنبع منه وتصب فيه. ومن هذه النقطة سوف ننتقل تدريجيا من نظرية لا سلطة ممكنة إلا إلهية أو ملكية وراثية، إلى النظرية المناقضة تماما وهي لا سلطة شرعية إلا تلك التي تعبر عن السيادة الشعبية والإرادة الجمعية. وهذا هو أصل الانتقال نحو الحداثة السياسية.
    ومن الواضح أن مفهوم المجتمع المدني لا يعني هنا شيئا آخر سوى مفهوم الرابطة الاجتماعية العادية كأساس للاجتماع مقابل الرابطة الدينية أو الارستقراطية التي يمكن ربطها بالعرف والتقليد واعتبارها طبيعية. ولذلك سيرتبط مفهوم المجتمع المدني منذ ذلك الوقت بمفهوم القانون والعقد الاجتماعي كتعبير عن هذا القانون المختلف عن العرف، وبالسيادة الشعبية. إنه يجسد مفهوم السياسة الحديثة بوصفها سياسة نابعة من المجتمع البشري كما هو، وليست مسقطة عليه من قبل عالم آخر. ولذلك فإن كلمتي دولة ومجتمع مدني تتطابقان تماما هنا ولا وجود لأي فصل بينهما.
    ويمكن تلخيص هذه الاشكالية بجملة واحدة : السياسة الحديثة هي سياسة مدنية. ومن هذه السياسة المدنية، عكس الدينية والعرفية، سوف تتطور جميع المفاهيم الحديثة الأخرى مثل المواطنية والديمقراطية والدولة القانونية. وهنا تصب اسهامات الكتاب الكلاسيكيين الكبار للقرنين المذكورين مثل هوبز، لوك، توكفيل، مونتسكيو، روسو وسبينوزا. وأفضل تجسيد لهذا الاستخدام الخاص للمفهوم الذي يشير أكثر من أي شيء آخر إلى السياسة الجديدة وليس إلى تناقض بين المجتمع المدني والدولة كما نستخدمه اليوم هو كتاب جون لوك الشهير "رسالة في الحكم المدني”. ويمكن أن نترجمها اليوم برسالة في ماهية السياسة الحديثة في تعارضها مع الحكم الذي يعتمد مصادر دينية أو عرفية ارستقراطية
    أما الاستخدام الثاني للمفهوم فقد جاء في القرن التاسع عشر بشكل خاص، وكانت البرجوازية قد حققت ثورتها ونقلت السياسة فعلا من ميدان الديني والعرفي إلى ميدان الاجتماعي، أي جعلتها حقيقية إنسانية تعاقدية. ولم تعد المشكلة المطروحة هي تحرير السياسة عن الدين والعرف الارستقراطي ولكن إعادة بناء مفهوم السياسة الحديثة ذاته والتمييز فيه بين مستوياته المختلفة. فالسياسة الحديثة التي ألغت المراتب الطبقية التقليدية جعلت من الشعب كلية واحدة أي افترضت وحدته في الوقت الذي هو كثرة وأفراد عديديون. والثورة الصناعية التي نقلت المجتمع من نمط العلاقات الحرفية والاقطاعية حيث كانت العلاقات السائدة التي تربط بين الأفراد علاقات عائلية، داخل المشغل الحرفي، أو أبوية داخل الاقطاعة بين سيد وأتباعه، طرحت أيضا مسائل جديدة على المجتمع من حيث هو عدد كبير من الأفراد يتعاملون مع بعضهم البعض ويعتمدون بعضهم على بعض، وهو معنى المجتمع المدني بالضبط. فقد أدت تصفية الحرفة ونشوء الاقتصاد البضاعي وتحلل الملكيات الاقطاعية وتراجع الارستقراطية إلى انخلاع الأفراد عن رحم علاقاتهم القديمة، مما طرح بقوة مشكلة إعادة بناء هذه العلاقات، أي إعادة بناء المجتمع المدني وفهم حقيقته الجديدة في مواجهة وبموازاة الدولة الحديثة معا. وعلى هذه المشاكل والاشكاليات النظرية سوف يرد فلاسفة القرن التاسع عشر الكبار، وفي مقدمهم هيجل وماركس الذين سيسيطرون عمليا على فكر القرن التالي السياسي.
    فالبنسبة لهيجل ليس المجتمع المدني باعتباره مجموع الروابط القانونية والاقتصادية التي تنظم علاقات الناس الأفراد فيما بينهم وتضمن تعاونهم واعتمادهم بعضهم على البعض الآخر سوى لحظة في صيرورة أكبر تجد تجسيدها في الدولة ذاتها، وهي في الواقع الدولة القومية. فالمجتمع المدني بوصفه كما ذكرت مجموع هذه الروابط يمثل تقدما نوعيا بالمقارنة مع الطبيعة الخام، لكنه لا يجد مضمونه الحقيقي إلا في الدولة التي تجسد ما هو مطلق، أي الحرية والقانون والغاية التاريخية في أجلى تجلياتها. فالمجتمع يظل على مستوى المجتمع المدني مجتمع المصالح الفردية والمشاريع الخصوصية، أي مجتمع الانقسام والتملك الفردي والصراع، ولا يجد خلاصه إلا في الدولة. ومن هذه النزعة الهيجلية إلى رفع الدولة إلى مستوى الحل والمفتاح معا للمجتمع سوف تتغذى الحركات والفلسفات القومية التي تضع الدولة فوق المجتمع والتي قادت إلى إضفاء صفة سلبية على مفهوم المجتمع المدني أيضا لصالح تقديس متزايد لمفهوم الدولة كما سوف نرى.
    أما ماركس فقد نظر إلى الموضوع من منظار التناقض الذي كشف عنه في مسيرة الحداثة البرجوازية ذاتها ومشروعها التحرري نفسه. ففي نظر ماركس إن مشروع التحرير السياسي الذي قامت به البرجوازية بالفعل عندما نقلت المجتمعات من النظام القديم إلى النظام الحديث ليس في العمق إلا مشروع استلاب جديد. بل إن السياسة هي في قلب هذا الاستلاب وهي تجسد أعظم أشكال هذا الاستلاب. ففي اللحظة ذاتها التي خلقت فيها برجوازية الدولة كمجال للعام، خلقت أيضا مجال الخاص. وبذلك قضت على الفرد بالتصدع أو الانشقاق في ذاته وهويته نفسها بين ماهيتين متنابذتين ولا يمكن التوفيق بينهما، ماهيته كمواطن، وماهيته كمنتج. فالعام (المواطنية وما تعنيه من حق المساواة) فيه يعيش حالة صدام ونزاع مستمر مع الحقيقة الانتاجية الاجتماعية الفعلية التي تعني التفاوت والتباين الشديدين في شروط الحياة والعيش والممارسة. لذلك سوف يقول إن الحرية التي تعكسها المواطنية التسووية هنا شكلية تماما، ولن يكون هناك تحرر حقيقي للفرد إلا عندما تتوافق شروط الحرية السياسية مع شروط الحرية الاجتماعية. وهذه هي غاية الشيوعية وبرنامجها، أي المطابقة بين العام والخاص، بين الدولة إطار الحرية لكن الشكلية والمجتمع المدني إطار المصالح لكن البرجوازية الخصوصية فحسب، وذلك بتجاوز الدولة والمجتمع المدني البرجوازي الطبقي في الوقت نفسه. فكلاهما الدولة والمجتمع البرجوازيان مجال للاستلاب. وليست الشيوعية سوى برنامج التجاوز التاريخي هذا للدولة الديمقراطية الشكلية وللمجتمع المدني البرجوازي الرأسمالي معا، ومثالها أن تأتي بنظام مجتمعي تكون حرية الفرد فيه شرطا لحرية المجموع، أي يتحقق فيه الانسجام المطلق بين العام (الدولة- النظام، الحرية) والخاص (المجتمع المدني-الفردية، المصلحة) وتتعانق فيه الفردية والجمعية معا. إن الصدع الذي أحدثته البرجوازية بين العام والخاص في كل فرد هو أصل السياسة التي يوجه إليها ماركس نقدا قويا باعتبارها أكبر تجسيد للاستلاب البرجوازي. ولذلك فقد تصور المجتمع الشيوعي من دون دولة ومن دون سياسة، أي مجتمعا متحررا من هذا الصدع منبع الاستلاب.
    والاستخدام الثالث هو الذي نشأ في النصف الأول من القرن العشرين وذلك في إطار احتدام الصراع الثوري وفي سياق إعادة بناء الاستراتيجية الثورية في مجتمعات أوربة الصناعية. وكان أكبر مسؤول عن تطوير هذا الاستخدام الجديد المفكر الايطالي الشيوعي أنطونيو غرامشي. وغرامشي هو الذي ترك أكبر الأثر على المفهوم كما يستخدم اليوم، بعد استبعاد عناصر فلسفية وعقائدية كثيرة منه. لقد حاول غرامشي أن يطرح موضوع المجتمع المدني في إطار نظرية السيطرة والهيمنة الطبقية ويستخدمه لإعادة بناء استراتيجية الثورة الشيوعية أو التحررية. وبالنسبة لغرامشي سواء أكان ذلك في كتابه الأمير الحديث أو دفاتر السجن هناك مجالان رئيسيان يضمنان استقرار سيطرة البرجوازية ونظامها. المجال الأول هو مجال الدولة وما تملكه من أجهزة، وفيه تتحقق السيطرة المباشرة، أي السياسية، والمجال الثاني هو مجال المجتمع المدني وما يمثله من أحزاب ونقابات وجمعيات ووسائل إعلام ومدارس ومساجد أو كنائس إلخ. وفيه تتحقق وظيفة ثانية لا بد منها لبقاء أي نظام هي الهيمنة الايديولوجية والثقافية. ولذلك لا يكفي للوصول إلى السلطة في نظر غرامشي والاحتفاظ بها السيطرة على جهاز الدولة ولكن لا بد من تحقيق الهيمنة على المجتمع، ولا يتم ذلك إلا من خلال منظمات المجتمع المدني وعبر العمل الثقافي بالدرجة الرئيسية. وفي هذا التحليل يبلور غرامشي للحزب الشيوعي الطامح إلى السيطرة استراتيجية جديدة تقول إن من الممكن البدء في معركة التغيير الاجتماعي المنشود، أي الشيوعي، من استراتيجية تركز على العمل على مستوى المجتمع المدني وتعبئة المثقفين لكسب معركة الهيمنة الايديولوجية التي ستعلب دورا كبيرا في مساعدة الحزب على عبور الخطوة الثانية وهي السيطرة على جهاز الدولة. وهي استراتيجية مباينة تماما للاستراتيجية البلشفية التي سودها لينين والتي تعتمد على التنظيم الاحترافي للثورة، والتي اعتمدت في الواقع شكل الانقلاب الذي تقوم به فئة منظمة قوية ومسلحة بهدف إحكام قبضتها على جهاز الدولة. ففي مقابل استراتيجية الانقلاب العسكري أو شبه العسكري يقترح غرامشي عملية التربية والتعبئة الشاملة للمجتمع، أي السيطرة التدريجية والفكرية على الأطر التي تنظم علاقاته اليومية. ففي منظور غرامشي المجتمع المدني هو المجال الذي تتجلى فيه وظيفة الهيمنة الاجتماعية مقابل المجتمع السياسي أو الدولة الذي تتجلى فيه وتتحقق وظيفة السيطرة أو القيادة السياسية المباشرة. ولأن الهيمنة مرتبطة بالايديولوجية فإن المثقفين هم أداتها. ومن هنا جاءت حاجة غرامشي لإعادة تعريف المثقف وتحليل دوره والرهان الكبير الذي وضعه عليه في التحويل الاجتماعي.
    لكن المراهنة على المجتمع المدني لم تلغ عند غرامشي دور الدولة ولا أهمية السيطرة عليها. فالعمل في إطار المجتمع المدني هو جزء من العمل في إطار الدولة وسياسة التحويل الدولوية. لذلك لا قيمة للمثقف عند غرامشي ولا ضمانة لفاعليته إلا إذا كان عضويا، أي إذا ارتبط بمشروع طبقة سياسي، تماما كما أن الهيمنة لا قيمة لها إلا كجزء أو مستوى من مستويات العمل لتحقيق السيطرة الاجتماعية. إنها ليست منافية للسياسة ولكن مكملة لها، وإن كانت متميزة عنها. فالمجتمع المدني والمجتمع السياسي أو الدولة يسيران جنبا إلى جنب ويجمع بينهما في كل نظام وحدة ديناميكية السيطرة الاجتماعية.
    وينطلق الاستخدام الرابع لمفهوم المجتمع المدني الذي أعيد اكتشافه في العقدين الأخيرين من القرن العشرين من تراث غرامشي لكن بعد تنقيته كما قلنا مما علق فيه من تراث الماركسية، كي لا يحتفظ منه إلا بفكرة المنظمات والهيئات والمؤسسات الاجتماعية الخاصة التي تعمل إلى جانب الدولة لكن ليس تحت إمرتها على تنظيم المجتمع وتنشيطه وتحقيق الاتساق فيه. وبهذا المعنى فالمقصود بالمجتمع المدني كما يستخدم اليوم تلكل الشبكة الواسعة من المنظمات التي طورتها المجتمعات الحديثة في تاريخها الطويل والتي ترفد عمل الدولة. وإذا شبهنا الدولة بالعمود الفقري فالمجتمع المدني هو كل تلك الخلايا التي تتكون منها الأعضاء والتي ليس للجسم الاجتماعي حياة من دونها. فليس هناك أي شكل من العداء بينهما ولا اختلاف في طبيعة الوظائف وإن كان هناك اختلاف في الأدوار.
    والواقع أن الاستخدام المعاصر لمفهوم المجتمع المدني قد مر هو نفسه بثلاث مراحل رئيسية. المرحلة الأولى هي مرحلة الانفتاح على المجتمع المدني من قبل الأحزاب والقوى والنظم السياسية بهدف ضخ دم جديد في السياسة وإضفاء طابع شعبي عليها بدأت تفقده مع بقرطتها وتقنرطتها. وقد تمثل ذلك بإدخال عناصر أو مسؤولين في حركات إنسانية وتنظيمات اجتماعية خيرية في التشكيلات الوزارية على سبيل تقريب السياسة من الفئات النشيطة في المجتمع ومن الجمهور الواسع الذي عف عنها في الوقت نفسه.
    أما المرحلة الثانية فهي مرحلة التعامل مع المجتمع المدني بوصفه منظمات مستقلة موازية للدولة ومشاركة في تحقيق الكثير من المهام التي تهم هذه الأخيرة بالتراجع عنها. وهذا المفهوم يتوافق مع انتشار مفهوم العولمة والانتقال نحو مجتمع يحكم نفسه بنفسه ويتحمل هو ذاته مسؤولية إدارة معظم شؤونه الأساسية. وقد استخدمت الدول الديمقراطية مفهوم المجتمع المدني في هذه الحالة للتغطية على عجزها المتزايد عن الايفاء بالوعود التي كانت قد قطعتها عن نفسها وتبرير الانسحاب من ميادين نشاط بقيت لفترة طويلة مرتبطة بها لكنها أصبحت مكلفة، ولا يتفق الالتزام بالاستمرار في تلبيتها على حساب الدولة مع متطلبات المنافسة التجارية الكبيرة التي يبعثها الاندراج في سوق عالمية واحدة والتنافس على التخفيض الأقصى لتكاليف الانتاج.
    أما المرحلة الثالثة فهي مرحلة طفرة المجتمع المدني إلى قطب قائم بذاته ومركز لقيادة وسلطة اجتماعية، على مستوى التنظيم العالمي بشكل خاص، في مواجهة القطب الذي تمثله الدولة-الدول المتآلفة في إطار سياسات العولمة والنازعة إلى الخضوع بشكل أكبر فأكبر في منطق عملها للحسابات التجارية والاقتصادية. وشيئا فشيئا يتكون في موازاة هذا القطب الدولوي والقيادة الرسمية للعالم، تآلف المنظمات غير الحكومية والاجتماعية التي تتصدى لهذه الحسابات الاقتصادية والتجارية من منطلق إعطاء الأولوية للحسابات الاجتماعية ولتأكيد قيم العدالة والمساواة بين الكتل البشرية. وفي هذه الحالة يطمح المجتمع المدني إلى أن يكون أداة نظرية لبلورة سياسة عالمية وبالتالي أيضا وطنية بديلة تستند إلى مجموعة من القيم والمعايير التي ينزع السوق الرأسمالي إلى تدميرها أو التجاوز عنها.
    وهكذا بدأ التفكير منذ السبعينات في العديد من البلاد الأوربية بالاهتمام بهذا القطاع الهام من النشاط الاجتماعي. وكانت أول بادرة في هذا المجال تطعيم الطاقم السياسي الوزاري بعناصر ليست من محترفي السياسة أو مناضلي الأحزاب ولكنها قادمة مباشرة من المجتمع المدني، أي من الهيئات والمنظمات غير السياسية والعاملة في ميدان العمل الاجتماعي. وكان ذلك مخالفا للقاعدة التقليدية التي كان الاتفاق على توزيع المناصب الوزارية فيها هو القاعدة التي يتم عليها بناء التحالفات والتآلفات الحكومية. فقد عين أساتذة جامعة في مناصب سياسية كبيرة وأطباء ناشطين في ميدان أطباء بلا حدود، ثم جاء دور الفنانين والكتاب ليحتلوا بعض المراكز الحكومية أيضا.
    لكن الأمر لم يلبث حتى تجاوز ذلك وجعل من المنظمات غير الحكومية، المحلية والدولية، فاعلا رئيسيا إلى جانب الحكومات في تسيير الشؤؤن الوطنية والعالمية. وقد تبلور مفهوم المنظمات غير الحكومية من خلال الوضعية القانونية التي كرستها لهذه المنظمات الأمم المتحدة، والدور النشيط الذي أصبحت توليه لها لحل العديد من المشكلات والتحديات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. حتى ساد الاعتقاد اليوم أن هذه المنظمات هي الملجأ الوحيد في تنفيذ المشاريع الانسانية الخيرية وغير الخيرية في مواجهة عجز الدولة وشلل أجهزتها بسبب سيطرة البيرقراطية عليها.
    ومن الواضح أن الحالة ليست كذلك في البلاد الفقيرة والنامية. فلا ينبع الحديث عن المجتمع المدني والدعوة لإعطاء المؤسسات الاجتماعية مسؤولياتها في العمل الاجتماعي من نضح الدولة ولا من تطويرها لفكرتها عن دورها الانجع في المساهمة في تطوير النظام الاجتماعي، ولا عن نضج المجتمع وتوسع دائرة العمل والمبادرة والتنظيم عند أفراده ونشوء جمعيات ومؤسسات أهلية قادرة على التدخل لمعالجة الكثير من القضايا والمشكلات الاجتماعية ولكن ربما بالعكس من ذلك تماما. إن منبع الحديث المتزايد عن المجتمع المدني هو انهيار الدولة وفقدانها لأي دور مركزي على الطريقة الكلاسيكية، أي بناء الأمة، وعجزها عن بلورة دور جديد لها يتماشى مع حاجات المجتمع الذي يتطور بمعزل عنها منذ فترة طويلة في تصوراته ومطالبه. كما هو تفكك المجتمع نفسه وافتقاره إلى أي مؤسسات تسمح له بممارسة دوره أو تأكيد وجوده في وجه السلطة المتحولة إلى سلطة أصحاب المصالح الخاصة وفي وجه الفوضى والدمار الذين يتهددان مصيره ومستقبله. إن الاستخدام السائد اليوم في العالم الثالث المفقر لهذا المفهوم هو استخدام الشعار الذي يرفع للتغطية على غياب المضمون، أي على الفراغ الذي يسم الدولة والمجتمع المدني معا، ويلغي أي وجود فعلي للسياسة مهما كانت طبيعتها وشكل ممارستها، والذي يدفع النخب المعارضة في هذه البلدان إلى استخدام مفهوم المجتمع المدني كعقيدة جديدة في عملية إعادة تأهيل من الدرجة الثانية للسياسة أي كمصدر لمشروعية عمل سياسي جديد تريد النخبة أن يرتبط بها ويميزها عن النخب السياسية البيرقراطية الحاكمة [2] .
    لكن المهم في التطور الذي طرأ على مفهوم المجتمع المدني،
    1 - أن ما كان يستخدم كمفهوم مجرد للتمييز بين الطبيعي والمدني، وبين مجال العام ومجال الخاص، وبين السياسي والثقافي، قد أصبح مفهوما يدل على فاعل اجتماعي محدد، ومجسد في منظمات وهيئات تملك من القوة والموارد وامكانيات النفوذ ما يمكن أن يتجاوز بكثير ما تملكه العديد من الدول.
    2 0 أن هذا المفهوم قد شهد طفرة عميقة منذ القرن التاسع عشر الذي يشكل مرجعيته الرئيسية بالنسبة للعديد من الباحثين. فقد كان يشير إلى تلك النشاطات التي ترتبط بالمصالح الخاصة، والتي تشكل لهذا السبب مصدر التضارب والنزاع واللاعقلانية والفوضى الاجتماعية. وكان مبرر الدولة الحديثة ومشروعيتها هي ما تقدمه من اتساق في المصالح وتنظيم عقلاني لها يضمن السلام والاستقرار والمصلحة العامة، ومن هنا الوطنية، وبالتالي يضمن الأمن والنظام. وهذا هو الأصل في بناء مركزية الدولة منذ القرن التاسع عشر، بوصفها مركز الوحدة والانتماء والتواصل والتسويات والعقود المجتمعية الثابتة وبالتالي أداة التقدم والازدهار في جميع الميادين أيضا : في الحريات والحقوق وفي الخدمات المادية والادارية معا.




    2 - المجتمع المدني في الاستخدامات العربية

    1 - في أصل المفهوم المركزي للدولة :
    من الجماعة الأهلية إلى الدولة الأمة


    هكذا نشأ الرهان المكثف على الدولة والتمركز من حولها وتحويلها إلى مركز عبادة وتقديس منذ القرن التاسع عشر، في أوربة أولا ثم في جميع أنحاء العالم فيما بعد، بسبب الآمال والأوهام الكبيرة التي كانت تحيط بعمل هذه الدولة وقدراتها وإمكاناتها معا. فقد ساد الاعتقاد، منذ هيجل الذي نظر إلى الدولة القومية باعتبارها التعبير الأسمى عن وصول التاريخ إلى غاياته ومطابقة الوعي لذاته، حتى النظم الشمولية التي وجدت فيها الأداة المثلى للتحرر من جميع الإكراهات التاريخية والوصول بالمجتمعات إلى أعلى قمة في السيادة والتنمية والحرية. والعجيب في الأمر أن هذه الدولة التي بني ماركس نظريته في التحرر الانساني على فرضية تلاشيها الحتمي وإحلال إدارة الأشياء محل إدارة البشر (السياسة)، أي بمجتمع يقود شؤونه وينظمها بنفسه، سوف تصبح غاية في ذاتها في النظم الستالينية بقدر ما سوف تمثل إطار تنظيم الطبقة البيرقراطية الجديدة وأداة سيطرتها الرئيسية، وسوف تجعل من السياسة إدارة البشر بوصفهم أشياءا كما لم يحصل في أي حقبة أخرى.
    وفيما وراء التجربة السوفييتية، نشأت عبادة الدولة في العصر الحديث في جميع المجتمعات انطلاقا من الايمان بقدرتها اللامحدودة والاستثنائية على الانجاز والتحقيق، سواء أكان المقصود تحقيق إنجازات ذات طابع تقدمي كما تريد النظم والحركات التقدمية اليسارية أو ذات طابع رجعي وتسلطي كما كانت تريد النظم والحركات الفاشية. وقد استخدمت الدولة بالفعل خلال القرنين التاسع عشر والعشرين كأداة رئيسية للتغيير والتحديث وإعادة صوغ النظم بل والمجتمعات البشرية وتكوينها على هدى العقائديات والمنظومات النظرية المختلفة. وتعلق الجمهور بالدولة الحديثة التي ستتخذ بسبب هذا الموقع الاستثنائي الذي ستحتله في حياة المجتمعات المادية والرد على أحلامهم الانسانية بعدا رمزيا عميقا وتستقطب جميع الآمال التي خانتها النظم والمؤسسات العمومية التي سبقتها من قبيلة وعشيرة وإقطاعة وإمبرطورية وطائفة وكنيسة. وقد ارتبط نشوء الدولة الحديثة بالفعل بتنامي الوعود الاستثنائية بالحرية والعدالة والمساواة والأخوة البشرية. وتعمقت شرعية هذه الدولة وزاد الولاء لها والتمسك بها بقدر ما برهنت عبر التاريخ أنها قادرة على الوفاء بوعودها أو ببعضها على الأقل. فالدولة الحديثة القومية التي نشأت في الغرب وتوسعت نحو أمريكا واليابان هي الإطار الذي نمت فيه الحريات السياسية والفكرية وتعززت فيه مفاهيم الدولة القانونية والمساواتية، وارتبطت به قيم العدالة والتضامن الوطني والاجتماعي والأهلي معا.
    كما أن انبثق مفهوم التقدم وعقائدياته في حجر مفهوم هذه الدولة الحديثة. وكانت هذه الدولة من حيث هي دولة الأمة تجسيدا عميقا لمفهوم التقدم المجتمعي هذا وأخلاقياته الكبرى. فقد نجحت الدولة الحديثة في العديد من الحالات في توليد قوميات أو هويات سياسية قوية وراسخة من مجتمع أهلي شديد التنوع والتمايز مكون من جماعات وطوائف ومحليات قروية وحضرية مغلقة بعضها على البعض الآخر تعيد إنتاج العصبيات القرسطوية والاقطاعية. وهكذا صارت الدولة الحديثة أحد مفاهيم عقائديات التقدم التاريخي الرئيسية التي نمت منذ عصر الأنوار وتطورت مع النظريات التي نشأت عنها، في التاريخ والحضارة والمجتمع والفرد معا.
    وقد كان لفكرة الدولة الأمة، أي القومية، الدور الأول في الخروج من أنماط الاستبداد والحكم المطلق التي عرفتها حقبة القرون الوسطى في العالم أجمع وتدشين حقبة جديدة في الحياة السياسية للمجتمعات اتسمت بالفعل بالتحويل الديمقراطي لمؤسسات السلطة العمومية. وقد استغرقت عملية التحويل الديمقراطي للدولة أو بلورة نموذج السلطة العمومية الديمقراطية وتعميم نموذجها في العالم كله ثلاثة قرون منذ السابع عشر حتى العشرين. والمقصود بالتحويل الديمقراطي للدولة هنا هو إعادة بناء مؤسسات الدولة بما يجعلها تستجيب بشكل أكبر لإرادة المجتمع وتتفاعل معه وترد على طلباته، أي تنحو إلى الاقتراب منه بعد أن بقيت لقرون طويلة مستقلة تماما عنه وقائمة بالفعل فوقه ومواجهة له. وقد استدعى هذا التقرب من المجتمع قيام الدولة أو بالأحرى النخب الحديثة المسؤولة عن تسييرها بعملية معقدة تتضمن في الوقت نفسه ثلاث طفرات رئيسية: الأولى تتعلق بتأكيد السيادة الشعبية، أي حتمية صدور السلطة واتخاذ القرارات العامة عن المجتمع نفسه ممثلا بنوابه أو ممثليه الشرعيين. والثانية تغيير قواعد ممارسة السلطة العمومية وإدخال مبدأ التداول والشفافية والمحاسبة الشعبية، وبالتالي تشريع وجود المعارضة والتعددية السياسية، والثالثة تحقيق مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث الرئيسية، التنفيذية والتشريعية والقضائية، حرصا على منع مراكمة السلطة العمومية جميعا في يد فرد أو فئة أو مؤسسة واحدة، وقطع الطريق على الاستبداد والديكتاتورية، وموازنة السلطات فيما بينها. وقد نجم عن كل ذلك ضرورة إعادة بناء مؤسسات الدولة الجديدة التي أصبحنا نسميها الدولة الحديثة بما يحقق هذه الأهداف، أعني تمثيل السلطة السياسية للرأي العام وضمان مراقبته الدائمة لها، وخلق شروط تداول السلطة ووجود معارضة شرعية وإلغاء فرص تكوين سلطة مطلقة لا حدود لها، تخضع لإرادتها الخاصة جميع وسائل الإدارة والقضاء والقانون [3] .
    والواقع أن هذه التغييرات العميقة التي قدمتها النخب السياسية الجديدة أو البرجوازية للمجتمع بالمقارنة مع النخب التقليدية الارستقراطية لم تكن تهدف إلى شيء آخر سوى دمج الأفراد المنخلعين عن عصبياتهم الطائفية والقروية والإتنية في الكيان السياسي المدني الجديد، وتعميق ولائهم للدولة، بل ابتعاث هذا الولاء من العدم بعد أن كان الولاء الفعلي للملك أو السلطان أو الأسرة المالكة. إن دمقرطة الدولة وممارسة السلطة العامة الذي شكل جوهر رسالة النزعة القومية الكلاسيكية لم يكن يعني شيئا آخر سوى بناء مفهوم جديد للفرد بعلاقته بالمجتمع، أي كإنسان مدني، هو الفرد المواطن مقابل مفهوم الفرد التابع أو الرعية. فالمواطنية التي تمثل في نظري أساس وروح الفكرة القومية الحديثة كانت الثمن الضروري والحتمي لتكوين ولاء جديد يمحو الولاءات العصبوية السابقة ويسمح بإقامة مجتمعات مدنية كبرى قادرة على خلق شروط تطور الحضارة الصناعية والتقنية. وهذه المجتمعات أو الجماعات الجديدة المشتركة في ولاء واحد والمتضامنة في إطار الدولة وليس الكنيسة أو العصبية القروية والعشائرية ليست سوى الأمة بالمعنى الحديث للكلمة. وقد نجحت الأمة من حيث هي تجديد لقواعد الاجتماع المدني البشري في تكوين كيانات سياسية وبشرية كبيرة ومستقرة لا تخضع في استمرارها لقوة الشوكة ولا تحتاج من أجل ضمان استمرارها و» أو توسعها إلى شن الحروب الدائمة واستنزاف موارد المجتمع. وفي ظل هذه الكبانات السياسية الجديدة، أعني الدول القومية، سوف تتحقق أكبر عملية تراكم اقتصادي وتقني وعلمي وثقافي في التاريخ، وذلك بالرغم من الحروب والنزاعات العديدة التي سوف ترافق تكوين النظام القومي العالمي واستقراره.
    بيد أن هذا المسار لا ينطبق في الواقع إلا على الأمم التي تكونت في الموجة الأولى والثانية لتشكيل الأمم الدول، وبشكل خاص في أوربة وأمريكا واليابان. إنما يختلف الأمر في بقية بقاع العالم. فقد بقيت الحركة القومية في الكثير منها فكرة أو دعوة فكرية ولم تنجح في خلق شروط تعمل على تعميق الولاء وتحويل الانتماء القائم على العقيدة إلى انتماء قائم على ممارسة فعلية للمواطنية، وبالتالي إلى ولاء للدولة ومؤسساتها الحديثة. ولذلك لم تستطع الدولة الحديثة هنا أن تنجز شيئا من المهمات التي انجزتها الدولة الأمة في المجتمعات الغربية، لا فيما يتعلق بالتغيير العميق في تمثل الفرد لدوره ومكانته وموقعه في السلطة العمومية ولا فيما يتعلق بتجاوز الولاءات والانتماءات ما قبل القومية. ولذلك أيضا لم تتكون روح المواطنية التي تعني في الوقت نفسه الدفاع القوي عن الحق في المشاركة في القرارات العامة والشعور العميق بالمسؤولية والواجب الوطني، أي تجاه المصالح العامة والكيان الكلي. كما لم تتكون أمة بالمعنى الحديث للكلمة، أي جماعة جديدة يتجاوز فيها التضامن من أجل المصلحة العمومية التضامن من أجل مصالح جزئية ويتغلب عليه. وكانت النتيجة في الواقع أن القومية هنا ولدت شجرة ضعيفة واصفرت أوراقها قبل أن تؤتي ثمارها [4] .
    وقد كان لإخفاق الفكرة القومية هنا أو إجهاضها عواقب وخيمة. فقد نشأ عن هذا الإجهاض تمركز متزايد للنخب السياسية حول الدولة كوسيلة رئيسية بل وحيدة لاحداث التقدم وتحقيق شروط الحداثة، في مواجهة المجتمع وضده. وحلت عبادة الدولة عمليا في العديد من بلاد العالم محل عبادة الأمة التي تطورت في أوربة بما تتضمنه من تقديس الفرد المواطن وصون كرامته وحرياته والاهتمام بتحسين شروط حياته والمراهنة على نشاطه ومبادرته وتعاونه وانخراطه في العمل العمومي. وعملت عبادة الدولة هنا كتعويض عن غياب هذه الأمة وإرادتها الواحدة والدافعة للتقدم. وربما كانت التجربة السوفياتية هي الأهم من بين هذه التجارب التي أدى فيها إجهاض القومية إلى نزعة دولوية مبالغة وإلى سلب المجتمع إرادته وروحه وتحييده تماما تجاه الدولة والنخبة المسيطرة عليها. لكن هذه التجربة سوف يعاد إنتاجها بصورة أو أخرى، أقل أو أكثر عنفا، في جميع البلاد غير الأوربية وغير المركزية. وسوف تنتهي جميعا إلى إخضاع كلي للمجتمع من قبل الدولة وسحقه ماديا ومعنويا باسم التغيير والتقدم السريع والتصنيع واستكمال مهام الثورة الوطنية والقومية. وحتى في هذه الحالة التي كان المجتمع مغيبا فيها تماما عن السياسة أو مخرجا منها، بقي التصور السائد على المستوى الذهني يدمج بين الدولة والمجتمع. فقد كان الاشتراكيون والشيوعيون يعتقدون بعمق أنهم هم الذين يمثلون حقيقة المجتمع وإرادته، ذلك أن قرونا من الجهل والتجهيل وسيطرة الاقطاع والاستبداد ورجال الدين قد شوهت، في نظرهم، وعي هذا المجتمع أو أغلبيته الساحقة، وأن من واجبهم وواجب الدولة القهرية التي طوروها أن تأخذ بيد هذا المجتمع فتجعله على الصورة التي تتطابق مع قيمها ورؤيتها التاريخية. وهذا هو معنى الحكم الثوري. فهو مرحلة انتقالية لا تتطابق فيها إرادة المجتمع مع إرادة النخبة المسيطرة على الدولة ومع الدولة الحديثة التي أنشأتها، لكن عدم هذه المطابقة ليس مطلقا في هذه النظرية ولكنه نسبي ومؤقت. ذلك أن هدف الدولة الثورية هو بالضبط تحقيق هذه المطابقة ولو جاء ذلك بالقوة. إن الفرق بين سلوك النخب البرجوازية التقليدية التي أنشأت الدولة الليبرالية والنخب البرجوازية الجديدة التي اعتمدت الثورة مشروعا للتحديث والنهوض بمشروع الأمة هو أن الأولى سعت في سبيل الحصول على ولاء الأفراد والمجتمع إلى تحسين طريقة عمل الدولة وأسلوب ممارسة السياسة، وهو ما أدى إلى بناء الديمقراطية السياسية الشكلية، في حين أن النخبة الثانية أرادت أن تحقق هذا الولاء من خلال تحويل المجتمع ذاته وتحديثه بما يتفق مع الدولة الحديثة التي أتت بتصورها ومفهومها من خارج المجتمع وفرضتهما عليه. ومن هنا فإن المشروع نفسه والغاية ذاتها ، أعني المطابقة بين المجتمع والدولة، قد أنتج، بحسب العلاقة مع المجتمع، أسلوبين مختلفين تماما ومتناقضين للممارسة السياسية وولد نموذجين متناقضين للدولة: الدولة الديمقراطية والدولة الشمولية.
    هذا التصور الذي سيطر على تفكير المثقفين والسياسيين والرأي العام خلال القرن الماضي والذي يرى التواصل والتطابق بين الدولة والمجتمع أمرا بديهيا وضروريا أيضا هو الذي بدأ يفقد كثيرا من بداهته وصدقيته في العقدين الماضيين. فلم تعد الدولة تبدو دولة المجتمع أو الدولة المطابقة له والقريبة منه. وازدادت التشكيكات في مقدرة هذه الدولة التي كانت تظهر حتى وقت قريب على أنها المحرك الأول للمجتمع والضامن الوحيد لاستقراره واتساق حركته وازدهار اقتصاده على تلبية احتياجات هذا المجتمع ومطاليبه. بل لقد بدأ الشك يطرق مفهوم الدولة الأمة ذاتها ويمس المبدأ النظري الذي قامت عليه. وأخذت الانتقادات للدولة ذاتها تتزايد في البلاد الصناعية، تلك التي شهدت أفضل تطور للدولة سواء من حيث ما أنجزته من مهام اجتماعية وفي مقدمها بناء كيان اجتماعي جديد هو الأمة، أو من حيث ممارستها للسلطة وما طورته بالفعل من تقاليد وأعراف وممارسات ومؤسسات ديمقراطية. ولا يمس النقد الراهن فكرة الدولة الأمة ذاتها، أو مفهوم الأمة الحديث، ولكنه تجاوز ذلك ليشكك في مفهوم الدولة كأداة للتقدم البشري، بل ذهب فيما وراء ذلك إلى التعريض بمفهوم السياسة ذاتها بوصفها انتاجا لهذه الدولة. فما هو سبب هذا الانهيار في مركزية الدولة والمكانة التي كانت تحتلها في تقرير مصائر المجتمعات في العقود الطويلة السابقة؟

    2 - الديمقراطية الناجزة
    أو في أسباب انهيار مركزية الدولة

    عندما يثير الباحثون اليوم مسألة تراجع مكانة الدولة في الحقبة الراهنة بالمقارنة مع موقعها من العملية الاجتماعية، الاقتصادية والسياسية والثقافية، في الحقبة الكلاسيكية لبناء الدولة الحديثة، فأول ما يشيرون إليه كمصدر لهذا التراجع هو العولمة. فبما تخلقه العولمة من فضاءات تتجاوز سلطة الدولة القومية، وبما تستخدمه من تقنيات تضعف إن لم نقل تلغي سيطرة هذه الدولة على مواطنيها وتربطهم بشبكات للاتصالات والمعلومات والتبادل الثقافي والاقتصادي معا تتعدى كثيرا الإطار الوطني التقليدي للدولة، تنشيء هذه العولمة وضعية جديدة تجد فيها الدولة نفسها فاعلا صغيرا وضعيفا مقابل الفاعلين الجدد الكبار الذين يحتلون اليوم، أكثر فأكثر ميادين النشاط الانساني في كل المجتمعات ويتحكمون به، أعني الشركات العالمية العابرة للحدود والقوميات والمؤسسات الدولية القائمة فوق الدول والأوطان. ويبدو الأمر كما لو أن العولمة التي تطور فضاءات معولمة أو عالمية للنشاطات البشرية ما فوق الوطنية تعمل بمثابة إسفين يدق بين الدولة والمجتمع، وتعمل بالتالي على زيادة الصدع والتباعد بينهما.
    والحال أن العولمة لا تزال وستبقى مفهوما واسعا ومشوشا لا يكفي لتفسير ما يطرأ على المجتمعات التي لا تزال إلى حد كبير مجتمعات وطنية، أي تخضع لقواعد وآليات التنظيم القومي للسلطة والحدود والسياسات بصرف النظر عن التراجع الذي تلقاه سياسات الدولة المركزية نفسها داخل هذا الاطار الوطني. فالعولمة بمعنى تبني سياسات الفتح الواسع والمطلق للحدود أمام التبادل التجاري والثقافي والبشري بما يجعل من البشرية مجتمعا واحد أو بالأحرى سوقا حرا واحدا، ليست سوى أسطورة أو عقيدة سياسية تريد أن توهم الناس بوجود عكس ما هو قائم في الواقع. فلم تسقط الحدود على الإطلاق بين الدول والمجتمعات، خاصة بين المجتمعات الفقيرة والغنية، ولن تسقط أبدا في المستقبل، بل إنها سوف تزداد قوة وعمقا. وحماية هذه الحدود وتعزيزها هو الضمانة الرئيسية للتشغيل الناجع من وجهة نظر الدول الصناعية، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، لسياسات العولمة. وفي هذه الحالة لاتستخدم العولمة بمعنى الزوال الفعلي للحدود ولكن بمعناها الحقيقى وهو إجبار الدول الضعيفة على فتح الحدود أمام الدول الصناعية الكبرى وتكوين سوق اقتصادية حرة بالنسبة للكبار فقط لأنهم قادرين بسهولة على اختراقها، لكنها سوق مغلقة تماما بالنسبة للدول الصغيرة التي ليس لديها أي أمل في منافسة الدول الصناعية الكبرى في عقر دارها. ولا ينبغي أن ننسى أنه في الوقت الذي تتحدث فيه الدول الصناعية عن العولمة وتفرض على العالم جدول أعمال قائم على تحرير التجارة وإلغاء التعرفة الجمركية وتحييد الدولة في عملية التنمية الاقتصادية، أن هذه الدول تعمل المستحيل في الوقت ذاته من أجل ضمان تفوقها الاقتصادي ونفوذها السياسي والثقافي، سواء أكان ذلك من خلال الاسراع في بناء التجمعات الاقليمية أو من خلال الضغط في إطار مفاوضات منظمة التجارة الدولية للحفاظ على ميزات ومصالح تحرم منها الدول والمجتمعات الفقيرة والصغيرة. وفي الوقت الذي تدعوا فيه هذه الدول الكبرى لنبذ السياسات الوطنية والتنديد بالانتماءات القومية، فإنها لا توفر فرصة كي تعزز من مواقعها الوطنية في المؤسسات العالمية، وفي مقدمها مجلس الأمن الذي يضمن من خلال حق النقض السيطرة المطلقة لمجموعة صغيرة من الدول القومية المنتصرة منذ أكثر من قرن على مصائر السياسة الدولة.
    وهناك أخيرا العولمة من وجهة نظر تطور التقنيات الاتصالية والمعلوماتية وما يحدثه هذا التطور بالفعل من إعادة توزيع للموارد والقوى والطاقات البشرية داخل كل مجتمع على حدة وعلى صعيد علاقة المجتمعات فيما بينها. وهذه حقيقة موضوعية لا شك فيها. فهذه التقنيات الجديدة تعيد توزيع الموارد بشكل أكثر تفاوتا من أي حقبة سابقة، وهي تهدد بالاستنزاف العميق والواسع لموارد العديد من المجتمعات التي تخفق في استيعاب آليات العولمة وفي ابداع الاستراتيجيات التي ترد عليها. فبقدر ما تبدو العولمة عن حق حاملة لامكانات وفرص كبيرة وعديدة بالنسبة للمجتمعات التي تملك رساميل مادية ومعنوية قادرة على استثمارها في الفضاءات الاقتصادية والثقافية المعولمة، فهي تبدو بالعكس من ذلك حاملة بالدرجة الأولى للكثير من المخاطر والتهديدات بالنسبة للمجتمعات الفقيرة ماديا وتقنيا وتنظيميا وإداريا [5] .
    وإذا كانت العولمة تستطيع أن تفسر بعض ما يجري بالفعل في البلدان الفقيرة من تباعد متزايد بين الدولة والمجتمع، فليس الأمر كذلك بالنسبة للبلدان الكبيرة والغنية. ذلك أن العولمة تشكل هنا بالعكس مصدرا لزيادة الموارد التي تساعد الدولة على التقرب أكثر من المجتمع وتقديم مكاسب جديدة له تتجاوز المكاسب التي حصل عليها في عصر الدولة القومية الصاعدة. ولا يستطيع أحد أن ينكر أن الطبقات والفئات الشعبية قد عرفت في عهد الحكم الديمقراطي في الولايات المتحدة أفضل عقودها ونالت من المكاسب ما لم تكن تحلم به من قبل، كما شهدت البطالة تراجعا كبيرا. وبالمثل تنزع الدولة في أوربة الاتحادية أكثر فأكثر لتقديم الرعاية عن قرب للفئات الأكثر فقرا، وتعمل على معالجة ظواهر الفقر والتهميش التي سيطرت على ضواحي المدن الكبرى وتم تجاهلها لزمن طويل كما لم تفعل في أي حقبة سابقة. إن روحا جديدة من الجدية والمسؤولية تجاه المجتمع على مختلف فئاته وتكويناته وجماعاته، ورؤية جديدة لواجب الدولة تجاه هذه الفئات تدب في البلدان الصناعية، وتدفع إلى تعزيز الحماية الاجتماعية والتأمين الصحي بالنسبة للجماعات الضعيفة. إن ما نحن بصدده هنا ليس كما يشاع تراجع دور الدولة أو انهيار مكانتها، ولكن تبدل نظرتها لدورها في المجتمع ونوعية الخدمات والمكاسب الجديدة التي تستطيع وينبغي أن تقدمها له وأسلوب عملها. فهي تنسحب من بعض المواقع لتحتل مواقع جديدة، وتنبذ دورها البلدوزري الثقيل الظل الذي كان يجعل من السلطة العمومية مركز وصاية على المجتمع لتتبنى دور المنظم والمدير والمرشّد والمنسق بين نشاطات المجتمع وفئاته وقواه الفعالة المتعددة. وهذا يعني أن الدولة أصبحت مركزية في ترشيد النشاطات الاجتماعية المختلفة لا في القيام بها كما كان عليه الحال في السابق.
    يرجع هذا التبدل في دور الدولة والتحول في ميادين مركزيتها في نظري لعاملين رئيسيين مرتبطان بنجاح الدولة الأمة ذاتها وتحقيقها لفكرتها، وهما يفسران في الوقت نفسه نشوء العولمة ذاتها، أي نزوع المجتمعات والدول والنخب السياسية والاقتصادية العالمية إلى تبني سياسات محلية وعالمية مختلفة عن تلك التي سادت في الحقبة السابقة. العامل الأول هو بقرطة الدولة، والثاني هو تنامي قوى المجتمع بالفعل بفضل نضج الدولة الديمقراطية أو اكتمالها والشروط التي خلقتها من حريات فكرية وتنظيمية.
    فبقدر ما نجحت الدولة في فرض نفسها وإقناع الأفراد بفعاليتها وعملها الايجابي، وبقدر ما ارتبطت نشاطاتها بالفعل بالاستجابة إلى حاجات الناس وخدمتهم زادت حاجتها إلى طبقة من الاداريين النشيطين وبقدر تعقد آليات عملها وأساليب التنظيم والإدارة فيها زاد اعتمادها على أصحاب الكفاءة والاختصاص. وشيئا فشيئا سوف يتقاسم الاداري مع رجل السياسة الوجاهة والاعتبار العموميين. بل إن الكثير من المسؤولين السياسين الكبار والناجين سوف يخرجون من صفوف الطبقة البيرقراطية ومدراء الأقسام والإدارات في الإدارة العامة. وسوف يتراجع بشكل متواصل مفهوم السياسة التقليدية القائم على الزعامة ومعرفة مخاطبة الجمهور والحنكة والمناورة لصالح مفهوم يعتمد الخبرة والقدرة على تقديم رؤية واضحة وحلول ناجعة للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية المطروحة. وسوف يتحول السياسي ذاته إلى تقني إدارة عامة أو عليا (سياسة) بعد أن كان تقني خطاب وبيان. ومعظم رجال السياسة المعاصرين الكبار في الدول الديمقراطية هم في الوقت نفسه خريجي المعاهد العليا لتخريج الاطارات والكوادر أو من الجامعيين. وقد تطورت هذه النزعة بموازاة تراجع الصراعات السياسية والايديولوجية العميقة. وهو ما حققه التقدم والازدهار الاقتصاديين وتطبيق السياسات الاجتماعية التي أضعفت التوتر بين الطبقات وجعلت من الممكن تحويل السياسة من صراع حربي على السلطة، أو سياسة للسلطة وللسياسة، إلى سياسة ملتزمة بالقضايا الاجتماعية، وبالتالي إلى قدرة على قيادة وتنظيم ودفع المفاوضات والحوارات والمساعدة على بلورة التسويات بين الأطراف الاجتماعية المختلفة. بيد أن هذا التحول ذاته هو الذي نشر الشعور عند المواطنين بأن السياسة لم تعد تتضمن رهانات كبيرة وخطيرة، وصار الابتعاد عنها يعادل المشاركة فيها، فالنتيجة ستكون على جميع الأحوال واحدة أو متقاربة. وقد أضعف هذا من روح الشعور بالمسؤولية الفردية تجاه المشاركة في اختيار رجال السياسة وبلورة البرامج السياسية. لقد أصبحت السياسة وظيفة ذوي الاختصاص، فتتقرطت وفقدت جاذبيتها بالنسبة للعوام. وهذا ما يفسر تراجع نسبة المشاركين في التصويت للانتخابات في هذه البلاد. فلا يدل هذا على إخفاق السياسة بقدر ما يدل على ربح السياسة لرهاناتها وبالتالي على تناقص وجود رهانات أساسية تدفع إلى الانخراط فيها، باستنثاء أولئك الذين يطمحون إلى احتلال مواقع المسؤولية.
    ومن الجهة الثانية، عمل مناخ الحريات والاستثمار في الفرد وتشجيع مبادرته في إطار هذا الازدهار وارتفاع مستويات المعيشة واستقرار القيم والمعايير الاجتماعية على تحرير المجتمع شيئا فشيئا من التسليم والاستسلام للدولة. وشجع قيام جماعات وهيئات ومنظمات تعمل من أجل المجتمع وتجسد إراداته المختلفة بعيدا عن وصاية الدولة وأحيانا بمساعدتها. وصار الفود بالرهانات داخل هذه المنظمات يقدم من الرضى عن النفس أكثر مما يقدمه الانخراط في لعبة السلطة وما تتسم به من مناورات وصراعات ثانوية. وشيئا فشيئا نمت فكرة العمل بموازاة الدولة وفي سبيل تنظيم جماعات المصالح الجزئية التي لم تنجح في ايصال صوتها للدولة أو لم تستفد كثيرا منها. وكان الدفاع عن الأقليات والجماعات الهامشية والفقيرة القاعدة التي نشأت عليها العديد من المنظمات غير الحكومية العاملة في سبيل النفع العام. وساعدت القوانين التي سنتها النخب السياسية اليسارية والاجتماعية على دفع هذه الحركة إلى الأمام سواء بإطلاق حق تكوين الجمعيات من دون ترخيص، أو بإخضاعها إلى إشراف رسمي قانوني دقيق يضمن للأفراد المنتمين لها عدم تعرضهم للتلاعب أو النصب.
    وهكذا نشأ ونما في البلاد الديمقراطية في العقود الثلاث الما
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media