العلمانية و التسامح
    الجمعة 24 أكتوبر / تشرين الأول 2008 - 01:33:29
    د. صلاح نيّوف
    إن الحديث عن العلمانية، هنا، لا يهدف لتعريف أو تحليل العلمانية نظرية وممارسة، بل، من جهة، محاولة توضيحها كأداة في التفكير، ومن جهة أخرى، فهمها من خلال مقارنتها مع مفهوم التسامح. لكن، لا بد من الاعتراف ،بداية، أنه في حياتنا الاجتماعية/السياسية يوجد خيارات متعددة للآراء والمعتقدات، وخيارات روحية مختلفة، وأيضا فلسفية ودينية. الخطوة الأولى أمام الإنسان الذي يعيش في "جماعة سياسية" أو في "دولة"،هي أن يبذل جهده للتعايش مع هذه الخيارات وفي مجتمع متنوع من غير أن يكون لأحد امتيازات يتمتع بها ،فقط، لأن لديه اختيار معين (ديني أو سياسي) يختلف عن الآخرين.

    لقد عرف التاريخ الإنساني قضايا كبيرة تتعلق بحريات الإنسان، أهمها حرية التعبير،الاعتقاد والحرية الدينية، وقد طُرِحت مسألة الحريات من خلال طريقة عيش الإنسان في جماعة وماهية علاقة الأفراد مع جماعتهم (الطائفية،القبلية..الخ) ومجتمعهم.وعندما نتحدث عن الحرية الدينية إن أول ما يجب التفكير فيه هو "التسامح"، لأنه يسمح لنا بممارسة أي اختيار روحي من غير خوف أو قلق منه. والمفردة الأولى لهذا التسامح هي "ما من أحد مفروض عليه الأخذ بدين ما من غير أديان أخرى"،وهذا بدوره يقودنا لتثبيت كل ما يتعلق بحرية التفكير وإلا نكون في مجتمع عنصري لا مجتمع متسامح.أيضا، التسامح يجعلنا نؤمن أنه ما من أحد ينتمي لطائفة أو دين تحت الإرغام و الإكراه (أي لا يمكننا معاقبة أو "قتل" من خرج من معتقد ما ليدخل في آخر أو يبقى بغير معتقد)،فالانتماء العقيدي "الديني أو السياسي" من أهم صفاته الاختيار الحر وأن يكون نابعا من قناعة داخلية.

    إن مبدأ " الاحتمال أو الجواز في الانتماء" الديني لديه نتيجة طبيعية فلسفية، وهي فكرة الانتماء "المبني" وليس الانتماء "الفجائي"،أو ما يسمى انتماء في الزمن أو المرحلة الثانية، هذه المرحلة تأخذ وقتا وتعطي للحرية دورا كبيرا في الاختيار. أما الارتباط الديني فيأخذ قوته وشرعيته من إمكانية أن يكون مطعونا بك مسبقا أو مهزوما منذ البداية، لأن الانتماء "الارتباط" هو في شكله الأول وليس (المرحلة الثانية)،بمعنى آخر، هو الانتماء المُؤسس تحت ضغط عوامل خارجية وليست قناعة داخلية. إذن،حتى يتم الانتماء الديني في (المرحلة الثانية) لا بد من الانتماء الإرادي لا القسري.

    نأتي للقول،هنا، أن استقلالية التقييم لعملية الانتماء لا يمكن فصلها عن المبدأ الحديث للتسامح "فالمعتقدات ليست كالمال،أو الأرض أو حتى قطعان الماشية تنتقل من يد الأجداد إلى الأبناء والأحفاد. والإنسان ليس بالفطرة مرغم ليكون جزءا من طائفة أو معتقد، بل ينتمي لمجتمعه العقائدي بعفوية يمارس من خلالها قناعته التي يحبها، لا القناعة التي يجبر على حبها". ومن وجهة نظر تنظيم المجتمع السياسي، فإن التسامح في الانتماء الإرادي والحر يحتاج إلى "قانون" يحميه، ويحمي الممارسة المستقلة للمعتقدات والعبادات. هذا القانون هو فصل "الفضاء العام" عن "الفضاء الخاص"،فليس من حق القانون (بتجلياته الوضعية و الدينية) التدخل في الفضاء الخاص للفرد إلا فيما يتعلق بالمصالح المشتركة و المنفعة العامة.

    التسامح هو الذي يضمن الحرية الدينية ليس فقط من وجهة نظر عقلية وأخلاقية،ولكن أيضا من وجهة نظر تجلياته في الفضاء العام. فعندما يمنع القانون بعض الممارسات الدينية،يجب ألا يمنعها من باب ديني،بل لأنها تؤثر على الحقوق المشتركة داخل المجتمع السياسي. والتسامح لا يمكن أن يتوافق مع وجود دين للدولة، أو مع اختيار روحي يُمَارس "رسميا" ـ دستوريا مثلا ـ من قبل المجتمع السياسي، فحتى يتحقق التسامح، على الدولة ألاّ ترتدي عباءة طائفة أو دين بعينه،لذلك كان عنوان مقالنا "العلمانية والتسامح". وحتى إذا أعلنت الدولة اصطفافها خلف شكل من أشكال الانتماء الديني، فمن واجبها تحقيق البقاء حيادية أمام جميع مواطنيها؛ وإذا كانت قوانين الدولة تستند على أسس دينية وروحية محددة،فإن القوانين نفسها لا يمكنها أن تعلن أو تُقر أو تفرض واجبات لها طابع ديني أو تتدخل في حرية الاختيار الروحي.

    إن التسامح ليس،فقط، حقنا في اختيار الدين الذي نريد،ولكن أيضا في حقنا ألاّ نختار دينا.وبالتالي من يدعي أن إيمانه الروحي أو عقيدته قائمة على التسامح، عليه ألاّ يقضي وقته في تقييم الآخرين، من المنتمين أو اللامنتمين إلى عقيدة معينة. وأخيرا، لا يمكن نهائيا أن نقول عن مجتمع أنه متسامح،وبشكل خاص متسامح دينيا،إلاّ إذا آمن بتطبيق المبادئ الثلاثة الأساسية للتسامح : احترام استقلالية الإنسان في اختياره، عرضية الانتماء لمعتقد،و فصل الفضاء العام عن الفضاء الخاص.أما الدولة فليس من حقها التدخل في معتقدات مواطنيها واختياراتهم الروحية.
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media