الدين والديمقراطية ـ ثانية
    الأحد 14 أغسطس / آب 2011 - 07:08:50
    د. جابر حبيب جابر
    ما أحوجنا اليوم لنقاش هادئ وعقلاني ومنقطع عن الانحيازات المسبقة. فبمواجهة هذا الزلزال الذي يعم المنطقة ويجر بلدانها واحدا بعد الآخر نحو مواجهة أسئلة وجودية كبرى، ما زال البعض يفضل أن يحتمي بخندقه الصغير، مكتفيا بشعارات ومفاهيم محدودة بدلا من محاولة فهم ما يجري والاستجابة لتحديات هي أكبر من كل الآيديولوجيات السابقة والخنادق الصغيرة التي يلوذون بها.

    أسهل طريقة للانقطاع عن العالم هي عدم فهمه، وأسهل وسيلة لعدم الفهم هي التعايش مع مفاهيم وتصورات ملتبسة وإنكار لكل إشكاليات الماضي عبر إعادة روايتها بطريقة مختلفة. هنالك مثلا من يصر بإطلاقية ويقينية يحسد عليها على أن الإسلام والديمقراطية لا يلتقيان، ويمتلك مفهوما ملتبسا عن العلمانية والديكتاتورية، متصورا أن الأولى قرينة بالديمقراطية دائما. لا يسأل هؤلاء أنفسهم سؤالا بسيطا في التاريخ القريب: ألم يكن حزب البعث الذي حكم العراق وسوريا طويلا هو حزب علماني، ألم يكن حزب بن علي الدستوري علمانيا، وحزب مبارك الوطني الديمقراطي علمانيا؟ هل أنتجت تلك الأحزاب أنظمة ديمقراطية وتعددية وغير إقصائية؟ أفترض أن هنالك جوابا واحدا لهذه الأسئلة، وهو أن تلك الأحزاب والأنظمة العلمانية لم تنتج ديمقراطية، لأن الديمقراطية لم تكن من بين اهتماماتها، لا سيما لأنها كانت ستقود في الغالب إلى إخراج هذه الأنظمة من السلطة.

    يقودنا ذلك للتساؤل، هل من المنطقي أن نستنتج مسبقا ديمقراطية العلمانيين وديكتاتورية الإسلاميين، أم أن الإشكالية هي أكبر من أي تيار سياسي؟ ألم يقد حزب العدالة والتنمية الإسلامي في تركيا بلاده إلى ديمقراطية أكبر ونظام أكثر استقرارا في نفس الوقت؟

    جميع القوى العلمانية والإسلامية التقليدية في المنطقة العربية بلورت شعاراتها حول قضايا مثل العدالة الاجتماعية، أو التقدم، أو الوحدة العربية، أو الهوية الإسلامية، أو حكم الشريعة، ولكن أيا منها لم يجعل الديمقراطية مطلبه الرئيسي، فكل تلك القوى والأحزاب تنتمي للعصر التأسيسي للدولة، حيث القضية الأساسية تتعلق بهوية الدولة وتعريف مجتمعها. معظم تلك القوى ظهرت كرد فعل على الواقع الجيوسياسي الذي أسسته المرحلة ما بعد الاستعمارية، ومعظمها حمل نبرة معادية للاستعمار وللحدود التي رسمها، واضعة نصب عينها تغيير تلك الحدود، إن لم يكن فعليا فعقائديا. في الغالب كانت تلك القوى مشغولة بالجواب على السؤال: ما هي الأمة؟ هل هي الأمة الوطنية بحدودها التي رسمها الاستعمار، أم الأمة القومية، أم الأمة الدينية، أم الأمة الطائفية، أم أمة البروليتاريا العالمية؟ تلك أسئلة لا تجيب عليها صناديق الاقتراع، لأن شرعية الأمة تسبق شرعية الدولة في ذهن تلك القوى، فلا بد أولا من إعادة صياغة الهوية الجمعية قبل البحث في النظام السياسي. كان طبيعيا عندها أن جميع هذه الأحزاب تحولت إلى قوى شمولية تسعى للتغيير الجذري لواقع لا تعترف بشرعيته.

    التحدي الذي تواجهه هذه القوى اليوم - وفي مقدمتها الإسلاميون لأنهم الأقوى في هذه اللحظة - هو أنه حيثما اندلعت الاحتجاجات في المنطقة فإنها كانت تميل إلى رفع المطالب الاقتصادية والاجتماعية وإلى عدم مساءلة الدولة الوطنية القائمة. هي لم تنشغل كثيرا بسؤال الهوية بقدر ما انشغلت بالتحرر السياسي والاجتماعي ومحاربة الظلم وإقامة العدالة. لذلك انتقل النقاش في البلدان التي جرى تغيير النظام فيها أو تغيير جزء من النظام ليس إلى مساءلة هوية الدولة، بل البحث في كيفية إقامة نظام سياسي جديد بعدالة أكبر ومؤسسات أرسخ.

    وحدها القوى الإسلامية أو بعض منها تريد إعادة طرح سؤال الهوية، ربما كمهرب من التعامل مع القضايا الجديدة التي لم تعتد التعامل معها. فجأة بات على الإسلاميين أن يعطوا أجوبة أكثر صراحة حول موقفهم من الديمقراطية، وتعريفهم لها. «الإخوان المسلمون» الواثقون بقدرتهم كقوة وحيدة منظمة على استحصال قوة انتخابية كبيرة، يميلون إلى جواب يسير وسهل: الديمقراطية هي حكم الأغلبية. ولكن ماذا لو لم يكونوا هم القوة الأكبر، ماذا لو كان المزاج الشعبي يتجه للتصويت إلى الليبراليين أو اليساريين أو أي قوة أخرى، هل سيكون لديهم نفس الجواب؟

    هنالك اعتقاد بأن المرحلة القادمة ستشهد صعود قوى وأحزاب إسلامية إلى السلطة أو في الأقل سيكون لها دور مهم في تشكيل السلطة أو قيادة المعارضة. هنالك من يرى أنه حتى الغرب لم تعد له تحفظات مهمة بخصوص وجودهم في السلطة، ومؤخرا مثلا لم تتحمس الإدارة الأميركية لمحاولة أعضاء في الكونغرس إصدار قرار يلزمها بقطع المعونات عن مصر إذا ما فاز الإسلاميون بالانتخابات. ومرد هذا الموقف الغربي هو اعتقاد مفاده أن العودة للسياسات القديمة القائمة على دعم ديكتاتور علماني ما عادت ممكنة، أولا لأن شعوب المنطقة دخلت مرحلة الاحتجاج السياسي وأخذت تقطف ثماره، وما عاد بالإمكان العودة للأنظمة الأمنية القمعية التي تستمد شرعيتها من الدعم الخارجي فقط، خصوصا أن تلك الاحتجاجات يمكن أن تتطور إلى اتخاذ موقف عدائي من الغرب على غرار ما انتهت إليه الثورة الإيرانية بسبب الفشل في التعاطي مع مقدماتها. والاعتقاد أيضا أن القوى الإسلامية بوصفها الأكثر تنظيما والأقدر على حشد الدعم الاجتماعي سيكون بإمكانها أن تلعب دورا حاسما في تقوية الاحتجاج أو في إضعافه، وتحييدها سيكون مفيدا لتحييد التيارات الأكثر راديكالية في المعسكر الثوري. كما أن الإسلاميين وبسبب ما يواجهونه من توجس خارجي وداخلي سيكونون مضطرين إلى التصرف بمحافظة وإثبات حسن النية، لا سيما عن طريق مشاركة الآخرين بالسلطة وقبول منهج التسويات. ويلوح سيناريو مستقبلي لمصر مثلا (وهي ستكون لزمن قادم المؤشر الرئيسي لتطور الأحداث) يقوم على تكليف الجيش ذي البنية العلمانية والتحالف الوطيد مع الغرب بمهمة تشبه تلك التي قام بها الجيش التركي، أي حماية النظام وخياراته الاستراتيجية في مقابل السماح للإسلاميين بالعمل السياسي، بل وصياغة تركيبة الحكومة وتحديد توجهاتها، لا سيما على صعيد السياسات الداخلية.

    بالطبع سيفرز ذلك ديناميكية سياسية مختلفة عن الماضي، حيث ستكون الحكومات أكثر استقلالية في اتخاذ قراراتها وتجاوبا مع ضغوط الرأي العام. في الغالب سيكون هنالك قدر كبير من السياسات الشعبوية التي يحاول بها الإسلاميون تعبئة الشارع لصالحهم، لكن التحدي الأساسي سيكون في قدرتهم على صياغة قواعد الديمقراطية الجديدة، وهو أمر لم يقدموا رؤية واضحة له حتى اليوم لأنه سيتطلب منهم مراجعة الأسس التي قامت عليها آيديولوجيتهم، وهو أمر قد لا ينجحون فيه.

    رابط ذو علاقة
  • الدين والديمقراطية - المقالات (د. جابر حبيب جابر) 07/08/2011

  • "الشرق الأوسط"
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media