جدران الدين و العصر الحديث
    الأثنين 5 مارس / أذار 2012 - 22:33
    د. سداد جواد التميمي
    استشاري الأمراض النفسية و النفسية العصبية - المملكة المتحدة
    المقدمة
    لم تكن علاقة المعتقدات الدينية مع النظام السياسي لأي مجموعة بشرية في العصر الحديث علاقة خالية من الازمات. رغم ان بلاد الغرب المتحضر لديها انظمة علمانية و لكن ازمات المعتقدات الدينية و علاقتها بالنظام السياسي تتصدر الحدث الاعلامي بين فترة و اخرى. على سبيل المثال صرح كبير أساقفة المذهب الكاثوليكي في إنكلترا  بداية شهر أذار عن خيبة أمله في تشريع الزواج بين المثليين و تعارضه مع معتقدات الدين المسيحي. اما مرشحي الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة فتراهم يتبادلون اللكمات بين الحين و الاخر حول دور المعتقدات الدينية في الحياة العامة املاً بالحصول على تأييد الناخبين،  و لا شك بان اعتناق مت رومني لمذهب يعتبره بعض الغلاة متطرفاً و لا علاقة له بالدين المسيحي، سيكون له دوره أيام الانتخابات الرئاسية نهاية العام.

    لكن هناك حقيقة لا تقبل الشك و هي ان  المعتقدات الدينية لا تأثير لها على السياسة و التشريع في انحاء أوربا الغربية و دورها في الولايات المتحدة لا وجود له منذ ايام الرئيس الأمريكي  توماس جيفرسون قبل أكثر من 200 عاماً رغم تهافت زعماء البيت الابيض على مظاهر التدين كما يفعله اوباما و قبله بوش الابن و الرئيس كلنتون الذي اعلن طلبه الغفران على شاشة التلفزيون تحت ارشاد رجل دين اثبت بعد ذلك ان خطاياه الجنسية لا عد لها و لا حصر.

    بعبارة أخرى شيد العالم الغربي جداراً حول المعتقدات الدينية و منعها من التدخل في التشريع و الحياة السياسية. لكنه ايضاً لم يقضي على المعتقدات الدينية و لم يحاربها علنياً و ترك للناس حرية التمسك بها و لكن ضمن حدود الجدران التي بناها المشرعون غربي و شرق الأطلسي.  ترى بعض الاحيان هناك ثقوب تنفذ منها السوائل الدينية، و لكن سرعان ما يتم سدها و ان كانت تنفتح مرة بعد أخرى.

    تحديات العالم العربي
    واجهت العالم العربي منذ سقوط الدولة العثمانية حتى يومنا هذا ثلاثة تحديات. التحدي الاول كان وحدة العالم العربي. هذا المشروع انتهى يوم انتهت وحدة مصر و سوريا في عام 1962 و لا أحد يتطرق اليه اليوم حتى في أروقة الجامعة العربية. لا أحد يراهن على و حدة اقتصادية في المستقبل القريب و لا أحد يذكر وحدة سياسية.

    أما التحدي الثاني الذي يواجه العالم العربي فهو علاقة النظام السياسي الاجتماعي بالإسلام. لا يزال الاسلام يمثل الركن الاساسي لما يسمى بالدستور الوطني في الاقطار العربية و يتم الاشارة اليه بانه مصدر التشريع.  يضاف الى ذلك تميز الإسلام  في عصرنا هذا بالتطرق أليه في جميع مجالات الحياة. في المجال الاجتماعي تري الوصفة الإسلامية تتصدر وصفات علاج المشاكل الاجتماعية البشرية. في الحياة السياسية يتصدر دعاة النظام الإسلامي قائمة المرشحين لقيادة العالم العربي بعد مرحلة الثورات العربية الحديثة رغم أن دورهم في قيام هذه الثورات في بادئ الأمر لم يكن له و جود يذكر، و لكن رغم ذلك نجحت التيارات الإسلامية في الفوز في تونس بأغلبية الناخبين، و بالغالبية المطلقة في مصر، و لا احد يتجرأ على أن يراهن ضد فوز الإسلاميين في ليبيا و اليمن و سوريا مستقبلاً. بعبارة أخرى بدأ الجدار الاسلامي المبني حول الشعوب العربية بالارتفاع مما يثير القلق حول التحدي الاخير الذي يواجه العالم العربي.

    أما التحدي الثالث و الاخير الذي يواجه العالم العربي فهو مسيرتها نحو التحديث. يستعمل هذا التعبير في عدة مجالات منها الاقتصادية، العلمية، الحرية الشخصية، و النظام الديمقراطي. قامت الثورات و الانتفاضات العربية في عام 2011 مناديه بالتحديث اولا. لا تزال هذه الثورات في أولها و لا احد يمكن ان يخمن ماهي طبيعة النظام السياسي العربي في السنوات القادمة و خاصة في ظل الظروف الاقتصادية العالمية.  و لكن ما يعنينا في هذا المقال  هو التطرق باختصار الى الجدار الاسلامي الذي هو مبني او بدأ بنائه حول الشعوب العربية اليوم.

    الجدار الاسلامي الديني
     عند الحديث عن الجدار الاسلامي حول الشعوب يستعمل الكثير مصطلح حدود في شتى مجالات الحياة الفردية و الاجتماعية  و الاقتصادية و القانونية و الجغرافية و غير ذلك.  كذلك  عند النطق بكلمة حدود في الإسلام يفهم الفرد بان هناك حدوداً معينة أن تجاوزها كان مخطئاً و منتقصاً لدينه.  لا يخلوا تعبير الحدود في الإسلام من الرهبة و الخوف و يستنتج الفرد دوماً بان العقاب قد و جب عليه في الدنيا و في الأخرة. أن منطق تجاوز الحدود في الإسلام ليس حصراً على الدين الإسلامي و إنما يشاركه في ذلك جميع الأعراف الدينية و غير الدينية و لكنك قلما تسمع استعمال هذا المصطلح و ربطه بدين آخر في العصر الحديث. بعبارة أخرى أذا تحدث احد عن الحدود في الإسلام فالحديث هو عن العقاب.

    يضاف ألي ذلك فان الإسلام لا يتوقف عند السياسة و الاجتماع و لكنه يتجاوزها الى محيط الحرية الشخصية و  العائلة، علاقة الزوج بزوجته، زينة الرجل و المرأة، طقوس الطعام، و مما لا عد له و لا حصر. ليس هناك من سلوك ألا و سمعت احد الدعاة يأتيك بفتوى لا يعرف أحد مصدرها  و يقول  هذا  في السنة النبوية الشريفة. معظم البشر لا يقوى على معارضة المفتي و الخبير في هذه الأمور رغم أن الغالبية العظمى من الفتاوى مصدرها ضعيف و أن حكمت العقل فيه و طبقت القواعد العلمية لتحري المصدر لوجدها أن لم تكن صادقة فهي من خيال الرواة علي مدى ألف عام من تاريخ الإسلام.

    هنالك ايضاً ظاهرة يشترك بها الاسلام مع بقية الاديان السماوية و غير السماوية و هو ولع بعض معتنقي الاديان بالبحث عن الاعجاز في الكتب المقدسة.  مولت اسرائيل مثلاً أكثر من دراسة للتعمق في التوراة و أثبات الاعجاز فيه. كذلك هناك من معتنقي الدين المسيحي  يتعمقون في البحث  عن اعجاز الكتاب المقدس. معظم هذه الدراسات تعرضت  للإعجاز  بالتفصيل و تعرضت هي كذلك للكثير من الانتقادات مع الوقت حول مصادر الكتب  و كتابها و غير ذلك و حتى رجال الدين انفسهم قلما يتطرقون اليوم الى الحديث عن الاعجاز و أثبات قدسية التوراة و الانجيل في حديثهم مع رعاياهم.

    اما الظاهرة في الاسلام فهي اقوى بكثير اليوم من بقية الاديان. لا ترى اكتشافاً علمياً يتحدث به العلماء الا و بعد يوم أو يومين ترى مقلااً يتطرق الى و جود هذا الاكتشاف في القرآن الكريم. يتم ذلك بصورة خالية من أي تحليل علمي. على سبيل المثال تصدرت مراجعة نظرية سرعة الضوء و النسبية لأينشتين مؤخرا عناوين الاخبار، و رغم ان هناك أكثر من تجربة علمية يتم العمل فيها للتأكد من الانتقاد الموجه للنظرية الأخيرة ترى اكثر من موقع عربي و اسلامي يكتشف عن وجود هذا الاكتشاف في القرآن الكريم بمجرد ربط  بعض الكلمات و تفسيرها كما يشاء . ان مثل هذه الكتابات لا تسيء الا للإسلام و القرآن الكريم.

    كذلك ترى تدخل رجال الدين في تفسير الامراض الطبية و تعليل بعض الامراض بالجن و على راسها الصرع. اما في مجال الامراض النفسية فيبدوا ان لا تفسير لأي مرض نفسي الا ابتعاد المريض عن الصراط المستقيم في دنياه و لا علاج له غير ممارسة الطقوس الدينية بانتظام و الاكثار منها.

    ألاستنتاج:

    لكي نتجاوز الخوض بصورة أعمق في تأثير الإسلام على الحياة الشخصية و الاجتماعية يمكن أن نوجز الحديث بالقول بان تاريخ الإسلام القديم و الحديث يضع الخطوط العريضة التفصيلية لما يلي:
    1 كيف نفكر بوجودنا اجتماعياً و فردياً.
    2 ما هي المعاني التي يجب أن نستثمرها في الإسلام.
    3 وجوب معالجة الأزمات الاجتماعية من منظور الإسلام.

    هذه القواعد الثلاثة لم يحدث عليها تغيير يذكر عبر العصور و الأوطان.
    شيد الإسلام جدران واضحة حول  المجموعات البشرية لا يمكن أن يتسلق فوقها و يهرب منها أي أنسان. هناك ثغرات في هذا الجدار تتسرب منه دعوات للتحديث بين الحين و الاخر و لكن تراها تُغلق بأحكام بين فترة و أخرى. السؤال هل حان الوقت للإنسان المسلم سواء كان عربياً أو كردياً أو بربرياً أن يعيد تصميم هذا الجدار و يبدأ بتشييد جدران جديدة حول الشريعة الإسلامية نفسها. لا أحد ينادي بنبذ الاسلام  و التخلص منه فهذا  لن يحدث، و أثبت التاريخ بان البشر لها احتياجات روحية يلبيها الاسلام و غيره من الاديان و تقع في أطار الحرية الفردية التي من الوجب تقديسها.

    حدث تغيير هائل في الاتصال بين المجموعات البشرية في العشرين سنة الأخيرة و اصبح العالم مستقطباً بين الإسلام في قطب و العالم كله في قطب آخر. على سبيل المثال ترى الرئيس الأوغندي في نهاية شهر شباط هذا العام و أثناء زيارته للندن يصرح بكل وضوح بان الشريعة الإسلامية و القيم الإسلامية لا تتوافق مع القيم الأفريقية. أما في العالم الغربي فترى بان هناك فكرة معرفية أصبحت ثابتة الى حد ما تربط الإسلام بكل ما هو أجنبي و مرفوض إنسانياً و يتم التشبيه دوماً بطالبان و ممارسات الشريعة الإسلامية في السعودية و أيران و السودان.

    ان اعادة تصميم و بناء الجدار الاسلامي الديني ضرورة لمستقبل البلاد العربية و اتصالها ببقية حضارات المعمورة. ألاهم من ذلك رفاهية و حرية مواطنيها ليدفعوا الشعوب العربية نحو الابداع و مستقبل افضل.

    سداد جواد التميمي

    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media