عندما تُكتب الوفاة على أب حيّاً
    الأحد 8 أبريل / نيسان 2012 - 22:02
    د. جاسم العبودي
        في 19 من آذار (مارس) عام 1948، قررت معلمة اسمها Manuela Vicente Ferrer (ت 1996) في مدرسة إبتدائية في حي فقير أسباني، بناء على طلب آباء الطلبة الغيورين من "عيد الأم"، أن تحتفل بيوم "الأب". وقد اختارت لهذا اليوم، يوم "القديس يوسف"، كأب مثالي، ومعيل أسرة مسيحية متواضعة وعاملة. كما صادف هذا اليوم "يوم أول دستور أسباني" والذي كتب في مدينة قادس عام 1812.
        وفي عام 1949 نشرت هذه المعلمة فكرتها في أحدى الصحف المحلية، ولم تعمم في جميع ربوع أسبانيا حتى عام 1951، فانضمت أسبانيا إلى دول كثيرة تحتفل بيوم الأب الذي يختلف من بلد إلى آخر. وهو عطلة رسمية فيها، يكرم فيه الآباء، وتغدق عليهم الهدايا، عرفانا وشكرا لدورهم.
        ويقال أن أصل هذا العيد ينحدر إلى ما قبل 4000 سنة في بابل القديمة، عندما عبّر شاب اسمه Elmesu عن حبه الجارف لوالده لرعايته له، فكتب له أمنياته له على لوحة مصنوعة من الطين، وأهداها له.
        ترى لنرى هل لهذا الأب حقوق مصانة في التنور العربي؟.. وبالتالي عيد أو يوم في مدن العرب المبعثرة ؟
        لا يختلف اثنان في قدسية منزلة الأب دينياً، لكن الواقع الاجتماعي العربي الذي يعتمد على النظرة الدينية ظاهريا المطعمة بالقبلية قلبا، يعكس عموما صورة مغايرة مرّة وأليمة.
        لنكن أكثر دقة، نأخذ العلاقة الزوجية في بلدين: الأول عربي وليكن العراق (ولو أن أكراده لا يقرون بذلك)، والثاني أوروبي: أسبانيا، نجدها في الأول تتحكم بها العلاقة الدينية العشائرية على حساب قوانين الأحوال المدنية، بينما في الثاني قانونية مدنية صرفة. ترى.. ماذا يعني هذا ؟
        إن معايشة الواقعين، تقودك إلى حقيقة مدهشة ومؤلمة، أن حقوق الزوجية (بما فيها الأبناء) واضحة وحقانية كعين الشمس في الحالة الأسبانية، بينما في الحالة العراقية سائبة غامضة وغير عادلة.
        خذ مثلا الطلاق، فإن شروطه تتم بالإتفاق بين الزوجين في لائحة قانونية أمام محام، لتقدم فيما بعد للقاضي للموافقة عليها. هذه اللائحة تتضمن حقوق الزوجين والأبناء: نفقة الأبناء والزوجة إن لم تكن عاملة، الحضانة، أوقات الزيارة، واقتسام الأملاك وغيرها.
        والأملاك تكون مناصفة بين الزوجين عند الزواج، لأن الاثنين – في الغالب – عاملان، إن لم يكن إتفاق مسبق على انفصالها، في أغلب مقاطعات أسبانيا.
        بينما في الجانب العربي، السائد هو انفصال الملكية.. والمصيبة التي دعتني لكتابة هذا المقال، أن ملايين من العرب ممن هُجِّروا أو هاجروا من أوطانهم للغرب لظروف اقتصادية أو سياسية.. فإن حدث طلاق شط زوج أو طغت زوجة.. وإليك مثال حقيقي، من بين أمثلة كثيرة:
        زوج وهو في الخارج منح زوجته تفويضا لتسجيل أملاكه باسم أولاده لظرف سياسي معين، ولكنها سجلتها باسمها، وعند الطلاق ادعت أن البيوت هي أملاكها مقابل ذهبها الذي باعته وصرفته، وهي لم تعمل قط في حياتها، ما عدا عمل البيت، وأن حاضر مهرها 150 دينارا، ومثله غائبها، الذي استلمتْ مقابله 2000 دولار؛ أكثر من قيمته بكثير. كما أن أخوتها على غناهم، لم يتركوا لها مترا واحدا من أرث أبيها الواسع.
        والمضحك أن ذهبها المزعوم هو هدايا رمزية من الزوج خلال 20 سنة من عشرتهما، 17 سنة منها هي مريضة بمرض عضال، لم يعرف الزوج خلالها طعم الزوجة، ومع ذلك لم يترك طبيبا إلا وأخذها إليه، وما من شيء إلا ولبّاه لها.. ثم تطالبه بنصف أملاكه في دار الهجرة على الطريقة الأوروبية، وهي لا تحمل إلا جنسية بلدها.. وحرَّمتْ عليه المبيت حتى ولو ليلة واحدة في بيت من بيوته في بلده، التي أسكنت فيها بنات أخوتها بالمجان لسنوات طوال، وقد رفضت بيع بعض هذه البيوت لتشتري لأولادها ملكا في دار الهجرة، بحجة أنها لا تُباع، كما رفضت أن تعطي ابنها توكيلا عنها، متعذرة أنها فوضت أخاها بذلك...
        مقابل هذا، نجد الزوج الذي أفنى عمره من أجلهم، قد اشترى وقت الطلاق فِللاّ في دار الهجرة باسم ولده الكبير وأشترط عليه أن تكون دار العائلة، وأول العائلة أمه معززة مكرمة وعليه رعايتها.
        البون شاسع بين الطرفين.. أب ضحى بكل شيء من أجل عائلته.. وزوجة حرمته من كل شيء، حتى من صور أبنائه، أما صوره فقد أحرقت أو في المزبلة، لقد شحنت أدمغة أولادها ضد والدهم، لطلاقه منها،حتى غدوا لا يعرفون عنه إلا صورا ظلامية.. وحولت أواصر الأسرة المقدسة إلى جهنم لا يطاق، فلم تعد هناك أواصر، سوى أوراق النسبة، أي أب في الهوية لا غير، لا يصلح هذا الأب إلا لدفع الأموال متى احتاجوا، أو لقضاء حاجاتهم، عندها شعر أنه الأب الحي الميت.
        ومع ذلك، كلما سِيق الحديث عنها، تراه يقول عنها "أنها أمّ عظيمة"، لأنها أمّ أولاده، ولا يسمح لأحد أن يمسها بمكروه، أو كلام جارح، ويردد أحيانا: لو أنها طلبتْ بالطيب والحسنى هذه الأملاك منه مقابل أنها أعطته أولاداً لم يتوانَ عن ذلك، جبراً لخاطرها، وحباً بأسرته، وهذا نادر بين صفوف الأباء العرب.
        ولم يقتصر الأمر على هذا، فقد مارست بكل دهاء التأثير على أولادها لمنع والدهم من الزواج ثانية، ولم يمر يوم يزورهم فيه، إلا واختلقت مشاكل ومصائب معه، حتى لا يفكر بالإقامة معهم، فقد تهدده، مرة، بالشرطة، ومرة أخرى بإخوتها، زاعمة أن المنزل في دار الهجرة هو لها ولأولادها، فلم تطق رؤية كثرة كتبه التي كلفته مالا كبيرا وهي أرث لأولادها، مرة تبعثرها، وأخرى تدفنها تحت الأسرّة، حتى وصل الأمر برمي العديد في الزبالة.
        وتمر أيام وسنين والأب وحيد في بيت متواضع، لأنه أعطى كل شيء لأولاده، في أغلب الأيام لا أحد يسأل عنه وهو قريب، ولا في يوم من الأيام - إلا ما ندر - لم يزره أحد من العائلة، ولم يقدم له حتى كأس ماء، يعمل مأكله بيده، ويلبس ملابسه بدون كوي، ويدخل المستشفى ويخرج ولا أحد يعلم به ولا يسأل عنه.
        ولما أُعلم بمرضه العضال، وشعر بدنو ساعة أجله، رفض أن يموت وحيدا لا يعلم به أحد، فقرر أن ينام في زاوية صغيرة على الأرض في منزل العائلة، حتى ولو بضع ساعات.. فانقلبت الدنيا.. واتصلت بالشرطة وبأبنائها.. وانهالت عليه التهديدات من كل حدب وصوب.. وكانت رصاصة الموت من ابنته الكبيرة حين قالت له في عيد الأب: لا يحق لك البقاء في المنزل لا قانونيا ولا شرعيا.. فنهض بعد نصف ساعة بعد أن استرد أنفاسه.. وذهب ولم يعد.
        وتبقى القضية للمناقشة... هل يحق للزوجة أو غيرها أن تصادر حقوق الأب ؟ ..وهل الربيع العربي قادر على إعادة استعادة أبنائه من بلاد المهاجر؟!..

    الدكتور جاسم العبودي
    31/3/2012

    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media