بصراحة، ردّ على استفسارات 1-6
    (في ست حلقات)
    الأحد 9 ديسمبر / كانون الأول 2012 - 22:56
    أ. د. شموئيل (سامي) موريه
    يا سَاكِـنَي العِـراقِ هَلْ مِـنْ عَـوْدَةٍ   أحْيَا بِهَا، يَا سَاكِنِي العِراقِ ِ
     وَا لَهْفـَتِي، ضاعَ الزّمَانُ وَلـَمْ أفـُزْ   مِنْكُمْ، أهَيْـلَ مَوَدّتِي، بِعِناق ِ

    (معارضة ابن الفارض، لموريه)

    تمضي الايام والحنين الى العراق ِ يزداد "يا أهيل اشواقي"، وأنا اعلل النفس بقرب اللقاء، والاسئلة تنهال علي من الأصدقاء الصحفيين بين مشفق ومواس ٍ، لِمَ كل هذا الحنين بعد كل هذه السنين، التي نيفت على الستين، وها أنا اليوم وأنا اقترب من السن التي يحتاج فيها المرء الى ترجمان، فأقول: "إن الثمانين وبلغتموها"، والقلب يتمزق مع كل مفخخة ومجزرة ينقل انباءها المفجعة الراديو والتلفزيون، أكاد اقول يا "اهيل مودتي"، كل عام وانتم بالف خير، ولكن الشر يستطير، في بلادي بلاد الأنبياء، بلاد التاريخ وكنوز قارون، بلاد الطغاة الظالمين، والشعب جائع "وفي كل عام وفي العراق جوع". اريد اليوم وقد اخذني الاسى لِما يجري في هذا العالم الذي يتأرجح بين العلم والجهل، بين التعصب والتسامح، بين الحق والباطل. بين الحب والكراهية، بين فهم لرسالة الأديان وبين تزويرها، والقلب لا يطاوعني سوى ان اجيب بصراحة على استفسارات السائلين.
    اصدقائي الأعزاء، شكرا على رسائلكم واقتراحاتكم لاجراء مقابلات صحفية معي، أعترف بأن رسالئلكم توقعتـني فيما كنت أتجنبه واحذره، من ان أنكأ الجرح الذي ظننته قد التأم، كما كان عاشق عاتكة "يتجنب دارها حَذَرَ العِدى، وبها الفؤادُ مُوكـّل".  فقد كنت أخشى أن تنهال علي رسائل العذل إذا استجبت لعقد مقابلات أدبية عن العراق لاحدكم دون الآخر. والسبب في تفضيل كاتب عراقي على غيره هو بأنني اعلم علم اليقين، وكما قلتُ مرارا لأصدقاء عراقيين، راسلوني في الماضي، بأني عندما تصلني رسالة من أخ عراقي، "تنشق المرائر مني، وتتقطع النياط ويبكي لها في حنايا الصدر عربيد"، شوقا لايام الطفولة والصبا:
    ويا للشباب الحلو في التصابي   روائح الجنة في الشباب
     فلا استطيع أن أتجاهلها ولا يطاوعني وجداني ألاّ أن أرد عليها بالرغم من ضيق وقتي. ولكنني اليوم بعد أن قرأت ردود قراء جريدتي "إيلاف" و"الأخبار" الالكترونيتين، أدركت أن لكتاباتي محورين أساسيين جعلاها "رهينة المحبسين"، كما كان الأمر مع فيلسوف الشعراء العرب، أبي العلاء المعري، وكم اخشى ان تدك طائرات الاسد ودباباته، قبر فيلسوف الشعراء وشاعر الفلاسفة، في معركته لاحتلال معرة النعمان. المحبس الأول الذي تعاني منه ذكرياتي هو، "حب العراق والحنين إليه"، "وما الحب إلا للحبيب الأول"، وهو محور يشكك فيه بعض القراء؟ لأن الكاتب هو يهودي من العراق هاجر إلى إسرائيل، وغـيّر اسمه من سامي إلى شموئيل، وهو ينوح على الفردوس المفقود فيها، ولكنه لا يسب إسرائيل صباح مساء كما عودهم بعض الكتاب الذين كانوا مدللين في العراق، لذلك فيجب التشكك في نواياه، مثلما كان أدباء الأندلس المسلمون يشككون في إسلام الشاعر والوشّاح الكبير إبراهيم بن سهل الإسرائيلي الأندلسي، هذا الذي ابدع في وصف غرقه احد الادباء الاندلسيين، في وصفه لـ"غصن الاندلس الرطيب"،  بقوله بتورية رائعة: "عاد الدرّ الى قعره". فإذا أراد أحدهم القول "هذا أمر مشكوك فيه"، كانوا يضيفون إليه "كإسلام الشاعر إبراهيم بن سهل الإسرائيلي". حتى أصبحتُ أخشى أن يقول القومجية العراقيون والعرب عامة، من الآن وصاعدا، عن الأمور المشكوك فيها "هذا أمر مشكوك فيه كحنين شموئيل موريه الإسرائيلي إلى العراق!"، والعياذ بالله.
     ومن خلال نشر ذكرياتي بأسلوب "تيار الوعي" وتداعي الذكريات، أدركت أن الغرض من كتابة ذكرياتي هو المحافظة على الاجواء العراقية واللهجتين الاسلامية واليهودية العراقية، وما يحز في نفسي من نكران الجميل في "فرهود اليهود" عام 1941 وحرب انقاذ فلسطين عام 1948، والنكبة التي اصابة الفسطينيين ويهود البلاد العربية سواسية. فتدوين الذكريات عامة غرضها "فتح دفاتر عتيقة" لمحاسبة الماضي والفترة التاريخية التي عاشها المؤلف وعتاب الأهل والأصدقاء والسياسيين والأعداء، فهو حساب عسير مع التاريخ والزمن والعائلة والمدرسين والأصدقاء بل محاسبة النفس عن الأخطاء التي ارتكبها المؤلف في حياته والتي ارتكبها الآخرون في حقه، كما يظن، كل ذلك للعبرة والاعتبار بها وليتجنبها الكاتب ولتتجنبها الأجيال القادمة لأجل مستقبل أفضل. وبما أن العراق هو قدري الذي يلاحقني الى كل مكان اذهب اليه، واصبح "سجن العمر"، وما يزال جزءا حيا من حياتي وكياني، في الماضي والحاضر، والحنين الذي يقض مضجعي ليل نهار، فأنا أرجو أن تساهم هذه الذكريات في تلافي الأخطاء في المستقبل لأجل عراق أجمل، عراق الخير والبركة والإخاء والوفاق الوطني، عراق دار السلام، وإن كان السلام ابعد ما يكون، وهل يستطيع النقد البناء، وهو أضعف الإيمان، بناء عراق المستقبل، وليس كما قال أحد القراء في تعليقه على فصل رقم 29 من سلسلة ذكرياتي عن يهود العراق، في "ايلاف" و"الأخبار" وفي كتابي "بغداد حبيبتي" (حيفا، مكتبة كل شيء، 2012)، معلقا في 29 أكتوبر 2007، معلنا للقراء على رؤوس الأشهاد ومحذرا: "أدعوكم أن تمعنوا في مذكراته كلها ستجدون خطا دراميا يروي لكم قصة سوء قوميتكم وديانتكم، فلا تدافعوا عن الباطل بحسن نيّة!". وقد شك بعض القراء في وجود سوء نية من قبل الكاتب المعلق بإقحامه النعرات الدينية لإثارة الكراهية والحقد والبغضاء، وأساء تفسير رسالة الأدب في النقد البناء وإصلاح ما يمكن إصلاحه لخير المستقبل.
    أصدقائي الاعزاء، يخاطبني بعض قراء ذكرياتي "بشموئيل"، هذا أمر فيه مغزى. وقد سألني أحد المشاركين في ندوة نادي الرافدين في برلين، التي ترأسها البروفيسور كاظم حبيب، كيف أريد أن يخاطبني، هل باسم "سامي" أو "شموئيل"؟. قلت له نادني كيفما تشاء، لأني سأعلم موقفك مني. فإذا دعوتني "سامي" فسأعلم بأنك تراني أخا لك من العراق، أما إذا دعوتني "شموئيل" فسأعلم أنك تعتبرني "يهوديا إسرائيليا" يجب الحذر من "كلامه المعسول ونواياه الغادرة!" (كما ذكر أحد المعلقين على ذكرياتي رقم 29  والذي نعته القراء النابهون "بالقومجي التكريتي")، فقرروا مناداتي باسم "سامي"، فأدركت أن نواياهم صافية، وهكذا كان والحمد لله.
        ثم كان القاء التاريخي في جامعة كمبردج في مؤتمر يهود البلاد العربية بمبادرة سمو الامير الحسن بن طلال ووقوفي على آرائه الرائدة الجريئة نحو السلام والتفاهم بين الشعوب والاديان، جعلني افكر مرة أخرى في موقفي الرافض من المقابلات الصحفية التي عرضها علي بعض الأدباء التي اتشرف بصداقتي معهم عبر الانترنيت والتي وصلتني أسئلتهم عن طريقه العابر للقارات والرقابات السياسية والحدود المغلقة والاسلاك الشائكة، فاصبحنا والحمد لله "أصدقاء بلا حدود"، ولكن معزة العراق والدالة الكبرى عليّ، للعاصمة عمان مقر الأمير المبجل الحسن بن طلال، وعاصمة عاهلها جلالة الملك عبد الله الثاني، والتي تشبه بقصورها الرخامية والصخرية الملونة العامرة، مدينة ذات العماد التي شادها عاد بن شداد، عمان المحروسة برعاية الله وأحفاد بيت رسوله الغرّ الميامين، مما اثار قريحة صديقي الشاعر الكوفي الوفي الدكتور جبار جمال الدين بقصيدة عصماء في "أمير الفكر" كبّر لها كبار المثقفين العرب. والدالة الكبرى لعمان عليّ الى جانب اطلاعي على آراء سمو الامير الحسن الرائدة في الإخاء الانساني وحل المشاكل الى تعترض طريق السلام ورفاهية الشعوب عامة في العالم، هي دعوة السفارة الإسرائيلية لي عندما كان السيد السفير يعقوب روزن، وهو تلميذي سابقا، السكرتير الأول في السفارة الإسرائيلية في عمان، وكان المرحوم فكتور نحمياس الملحق الثقافي فيها، وذلك لافتتاح قاعة المحاضرات في السفارة عام 1997 لإلقاء محاضرة عن "مكانة الأدب العربي في المجتمع وفي جامعات إسرائيل". هناك التقيت بكبار المثقفين والأكاديميين الأردنيين وانعقدت بيني وبين بعضهم أواصر صداقة حميمة، وأخذني أحد كبار الأدباء من بينهم (ولا أريد ذكر اسمه، خوفا عليه من أعداء التطبيع)، باريحته، للقاء الشاعر الكبير المرحوم عبد الوهاب البياتي في أحدى مقاهي عمان، ودعاه لحضور حفلة العشاء التي أقامها هذا الصديق تكريما لزيارتي لعمان في بيته الكبير العامر، وقد تدلت فيه عناقيد العنب، كثريات الذهب. ولذلك أصبحت لا أسمع باسم العاصمة عمان العامرة، إلا ويتبادر إلى ذهني لقائي بالشاعر العراقي الكبير عبد الوهاب البياتي، الذي عاش مشردا بين الدول العربية والأوربية لأنه اراد، رحمه الله، خير العراق وشعبه. حمدت الله الذي قدر لي لقاء البياتي في عمان المحروسة، وأنا إلى اليوم نادم على ضياع فرصة لقاء الشاعر الكبير بدر شاكر السياب في المستشفى في لندن، إذ حذرني المشرف على أطروحتي وهو البروفسور بوب سارجنت من مغبة مثل هذه الزيارة عليه من يهودي عراقي من إسرائيل لشاعر العراق الكبير، مما قد يؤدي إلى عواقب وخيمة للشاعر وحرمانه من رعاية الحكومة العراقية في المستشفى الذي كان يرقد فيه في لندن على حساب الحكومة العراقية، وما أزال آسفا لضياع فرصة أخري حرمتني منها المقاطعة العربية "الحكيمة"، ضد اسرائيل، وهي زيارة عمر بن ابي ربيعة المحدث، الشاعر السوري الكبير نزار قباني، شاعر الحب والمرأة، الذي كتب عن الحب ولواعجه انتقاما لانتحار اخته التي منعوا زواجها من حبيبها، ويا لقسوة التقاليد. حتى في لندن وقفت الاقدار في طريق لقائي بكبار الشعراء العرب المعاصرين، فقد كان وقته مكرسا هناك لمعالجة ابنه الذي أصيب بالسرطان فاعتذر لذلك، رحمهما الله، ولاتَ ساعةَ مَنْدم.
        وأقولها صراحة، انه عند تسلمي أسئلة بعض الاصدقاء قبل اجراء المقابلات شعرت بالحرج، فقد سألني الاستاذ إبراهيم حمزة من جمهورية مصر العربية "هل ساءني سؤاله عن ابحاثي عن المسرح العربي وسبق الاستاذ الاعرجي في التوصل الى وجود مسرح حي في العراق في العصر العباسي،"؟ وإلحاح الاديب والناشر مازن لطيف في ان تكون له الاسبقية في نشر مقابلة له معي.
    ولكن الحقيقة يجب ان تقال، فقد سبقهما كاتب عراقي بطلب مقابلة والح في طلبه وسألني اسئلة سياسية احرجتني حقا، فشعرت أمامها كأني في وسط حقل ألغام بعد أن زودني بخريطة مفصلة لهذا الحقل وهي مقال "يهود العراق" بقلم سيادة رئيس السلطة الفلسطينية الدكتور محمود عباس – أبو مازن، وطلب مني الخروج بسلام من هذا الحقل. قلتُ لنفسي، والله هذا أديب من دهاة الأدباء والصحفيين، وضعني في موقف حرج ليسبر غور انتمائي الفكري والعقائدي، ليقرر موقفه مني، هل أنتمي إلى التيار الفكري العراقي العربي، أو انتمي إلى التيار اليهودي الاسرائيلي الصهيوني؟ وهكذا شعرت بنفس موقف  طارق بن زياد وقد قام بإنزال مجاهديه على ساحل الأندلس الرطيب، وحرت هل أحرق سفني فأبقى على الساحل الإسرائيلي أم أعود بها الى ساحل الأمان، وهو الساحل العراقي العربي؟

    (يتبع، 2)
    مبسيريت يروشلايم، أكتوبر، 2012

    تتمة بصراحة، ردّ على استفسارات 2-6
    القسم الثاني
    بقلم سامي موريه
    سألني هذا الصحفي العراقي، قبل ان اتناول فنجان القهوة العراقية الذي ارتشفنته مع الاديبة الكبيرة ايمان البستاني في مجلنها الثقافية جردينيا التي تحررها مع الاستاذ جلال جرمكا، والذي اعده تتمة لهذا القسم من ذكرياتي:

    1) هل بالإمكان المقارنة بين بغداد أمس واليوم بعد الذي جرى للعراق منذ ثلاثينات القرن الماضي وحتى غزو العراق؟
    - لا يمكن المقارنة أبدا، فشتان بين الأمس واليوم، في الأمس أعني حتى مغادرة يهود العراق عام 1951، كان الحكم ملكيا دستوريا برلمانياً، وإن لم يكن الحكم برلمانياً دستوريا بكل معنى الكلمة الأوروبية، لكن الحقوق كانت محترمة، وخاصة قبل اندلاع الحرب العربية - الإسرائيلية في فلسطين عام 1947، وكان التعايش بسلام بين الطوائف والمذاهب والأديان على ما يرام، وكان للصحافة بعض الحرية في النقد وحرية التعبير، ولكن عدم تمييز الحكام والسياسيين والصحفيين وبعض أفراد الشعب بين الانتماء الديني والانتماء القومي، أدى إلى اضطهاد الأقليات الدينية والعرقية في العراق وتدهور الوضع إلى حد نشوب الحروب مع الدول المجاورة واضطهاد الأقليات تحت حكم البعث العراقي الذي رفع شعار: حرية، عدالة، اشتراكية، وكانت النتيجة وخيمة على جميع أفراد الشعب العراقي وخاصة المثقفين منهم ممن لم ينتمِ إلى الحزب الحاكم ولم يتملق زعيم الحزب.

    2) ماذا بقي من ذاكرتكم عن بغداد ومكان تواجدكم في هذه المدينة؟
    معظم ما بقي من ذاكرتي عن العراق وبغداد ومحلة البتاويين التي عشت فيها طفولتي وصبايا، دونتها بحلوها ومرّها في سلسلة ذكرياتي التي نشرتها في مجلة "إيلاف" الألكترونية الحرة الغراء، تحت زاوية كتاب إيلاف، تحرير الأستاذ الشاعر عبد القادر الجنابي، تحت عنوان: "يهود العراق، ذكريات وشجون"، الحلقات 1-50، وقد قامت جريدة "الأخبار" العراقية الغراء التي يحررها الأستاذ علي نوري بنقلها على صفحات جريدته الخضراء. فهذه الذكريات انطلقت بصورة عفوية بعد المقابلة التي أجرتها مجلة "إيلاف" بمبادرة ميمونة من الشاعر والاديب عبد القادر الجنابي لعقد مقابلة ادبية معي، فأطلقتُ عقال ذاكرتي ولقلمي العنان ليكتب على سجيته، وليرصع ذكرياتي بلآلئ الأشعار العربية وجواهر الأمثال العراقية وتعابيرها الجميلة المغروسة في ذاكرتي فتنطلق من أعماقها كالجواد الجامح، وأنا نائم ملء جفوني عن شواردها. فذكريات الطفولة تغلفها الذاكرة بنعيم نفحات جنات عدن، إلى أن جاء الفرهود (المذبحة التي جرت في بغداد يومي 1-2 يونيو، 1941)، ثم قيام دولة إسرائيل (1948) فجعلوا حياة اليهود في العراق جحيما لا يطاق بعد أن سال لعاب الحكام لفكرة الاستيلاء على أموالنا المنقولة وغير المنقولة انتقاما لحرب 1948. وبعد هجرة اليهود من العراق في عام 1951 بقي حوالي خمسة آلاف يهودي مخلص لوطنيته العراقية وتعلقوا بالعهد الملكي إلى أن أطيح به عام 1958، وأعيدت إليهم مكانتهم في عهد عبد الكريم قاسم "ابو المساكين"، وبعد أن أطيح بحكمه عام 1962 وجاء حكم البعث فشـرّد من بقي من اليهود أيدي سبأ. وأنا أرى أن أهم الأخطاء الكبرى نحو اليهود في الحكم الملكي هي مذبحة الفرهود 1941 ورفض صالح جبر اقتراح السيد داود باشا الحيدري تعيين الأستاذ مير بصري وزيرا للمالية عام 1948 وشنق شفيق عدس أمام قصره في البصرة في نهاية نفس العام. فلو تم تعيين الأستاذ بصري وزيرا للمالية وامتنع الوصي عن المصادقة على حكم إعدام المرحوم شفيق عدس، وانتهاج الديموقراطية وحرية الفكر،  وامتناع الحكومة العراقية من اضطهاد الموظفين اليهود وتجارهم، لامتنع معظم يهود العراق عن الهجرة إلى إسرائيل، ولم يجنِ القاء القنابل على محلات اليهود التي ساهمت فيها الشرطة العراقية لطرد اليهود وحث عملية الهجرة ثمراته، ولما حدث ما كان، "وكلمة يا ريت، ما كانتش اتعمر بيت!". ولكن الحكومات العراقية المتتالية كانت تحسن دائما ارتكاب أعظم الأخطاء في انتهاج المبدأ القرآني في العدل والمساواة والإمام العادل، ودولة الظلم ساعة ودولة العدل حتى قيام الساعة، وانصاف الشعب دون تمييز بين الأقليات الدينية والمذهبية والعنصرية والقومية للشعب العراقي عامة، واضطهدت وشردت مثقفيه الشرفاء وكل من عارض سياساتها الرعناء تحت كل كوكب.
    أما فخامة السيد محمود عباس أبو مازن رئيس السلطة الفلسطينية، فقد ردّ في مقالته التاريخية عن "يهود العراق"، أسباب هجرة يهود العراق إلى فلسطين "إلى "تواطؤ ثلاثي صهيوني- بريطاني- عراقي"، وخاصة "التنظيم السري الصهيوني ... (و) سلسلة عمــ[ـلـ]ـيات إلقاء القنابل على البيوت والمقاهي والمتاجر والكنس اليهودية"، وهي اتهامات أنكرتها المحاكم الإسرائيلية في دعوى أقامها الوزير السابق مردخاي بن فورات على من افترى عليه. ولا أريد أن أدخل هنا في جدل عن الأسباب الحقيقية، ولكن بعض المثقفين من الصهاينة في إسرائيل يشير إلى ما حدث فيما بعد في العراق وإلى الحروب والدمار التي ألحقها حزب البعث بالعراق وبجاراته وبالأقليات ويحللها بقوله "أن الحركة الصهيونية في العراق أثبتت بعدَ نظرها في مساعدة يهودها على الهجرة إلى إسرائيل وإنقاذهم في الوقت المناسب من الكوارث الهائلة التي حلت بالعراق"، وذلك بغض النظر عن المعاناة التي لاقاها يهود العراق بعد هجرتهم، والتي اقتبسها سيادة الرئيس أبو مازن من كتاب "الخروج من العراق"، للأديب اسحق بار- موشيه الذي كان من كبار مؤرخي هذه الفترة الحرجة من حياة المهاجرين اليهود، وهو كتاب كتب بقلم موظف يهودي إسرائيلي فيها، ومع ذلك لم يطرد من وظيفته ولم يلقِِ في غياهب السجن بسببها بل عين فيما بعد ملحقا ثقافيا لسفارة إسرائيل في القاهرة، ونشر كتابه "مصر في قلبي" ولم يتهم بالخيانة. نعم، إن كل ما قاله حول ما رآه اضطهادا ليهود العراق في إسرائيل هو صحيح، وهو من باب التنفيس والتخلص من الضغط النفسي الهائل لكي لا يحدث الانفجار. وهذا النقد اللاذع لسياسة الحكومة الإسرائيلية وموقف المجتمع الإسرائيلي تجاه يهود العراق ويهود البلاد العربية والذي كتب وطبع باللغتين العربية والعبرية في إسرائيل، فإن دل على شيء فإنما يدل بصورة لا تقبل الشك على ديموقراطية إسرائيل وحرية النقد والرأي والتعبير والتفكير فيها لأجل اصلاح الأخطاء التي وقعت فيها، وهذا هو السر في بقاء اليهود في إسرائيل بالرغم من الحروب المتوالية ضدها. فبعد السكنى في الخيام مثل اللاجئين الفلسطينيين، وتعاطفنا مع اللاجئين الفلسطينيين وأدبهم، بل وانعكاس مصائبنا في شعر النكبة الفلسطيني، انتقلنا من الخيام إلى دور ثابتة لا تطوحها الرياح ولا تغرقها الأمطار بسهولة، شاركنا في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعلمية ونجحنا في اجتياز المحنة بشرف، "فعند الصباح"، يا سيدي الرئيس، " يحمَـد القومُ السُـرى". أما اللاجئون الفلسطينيون فما زالوا ينتظرون الفرج رغم مرور أكثر من نصف قرن من الزمن. فقد رفض الزعماء العرب جملةً، قرار التقسيم، ورفعوا شعار "خلي السيف يقول"، ثم شعار "الحل الإسلامي" وقد حاول السيد مردخاي بن فورات عندما كان وزيرا في وزارة الليكود توطين اللاجئين في دور ومجمعات سكنية جديدة حديثة تمهيدا لحل مشكلة اللاجئين، ولكن السلطات الفلسطينية رفضت ذلك وفضلت بقاءهم على حالتهم المزرية، بدعوى أن العراة الجياع الحفاة يحسنون الانتقام واسترجاع حقوقهم، وتبجح ابو عمار بان ارحام النساء الفلسطينيات هي القنبلة الذرية للعرب. برافو على هذا المنطق السليم القويم. أما ما فعلت السلطات الفلسطينية والدول العربية باللاجئين الفلسطينيين أينما حلوا، فحدث ولا حرج عن المأساة الإنسانية المحزنة والمخزية، وتركهم يستَجْدون مسحوق الحليب والطحين والزيت من وكالة الغوث الدولية بينما تتدفق أموال النفط على بناء القصور وتشجيع التطرف الديني، ولم تشأ توفير السكن والعمل لهم لأجل حياة كريمة بمبلغ يساوي ثمن ملء براميل النفط العربي وتصديرها إلى أوروبا خلال أسبوع واحد فقط. رحم الله سميي السموأل بن عادياء اليهودي الذي قال بيته الخالد:
    وما ضرنا أنّا قليل عديدنا        وجارنا عزيز وجار الأكثرين ذليل
    قالت لي مستشرقة ألمانية، "أخذونا في رحلة منظمة لزيارة مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في الضفة والقطاع وهالنا وضعهم المزري، وبؤسهم وشقاؤهم. طردتموهم من ديارهم وسكنتم في بيوتهم!" قلت لها "ولكن يهود البلاد العربية ينظرون الى هذه المأساة بمنظار آخر، وهو أنهم طردوا من ديارهم واقتلعوا من جذورهم، وصودرت أموالهم، وقيل لهم اذهبوا إلى فلسطين مكان اللاجئين الذين طردتموهم!. ولا شك أنك تعلمين أنه لولا الاستعمار الأوربي، ولولا هتلر والنازية واللاسامية في أوروبا، لما كانت هذه المأساة المريعة التي عانى ويعاني منها الفلسطينيون واليهود على حد سواء. فمتى يدرك زعماء العالم والمسؤولون الفلسطينيون والإسرائيليون أن حان الأوان للتوصل إلى حل نهائي لهذه المعاناة المريعة والحروب المتوالية ومتى ينتهي هذا الاستخفاف بحياة الإنسان وكرامته وحقوقه في العيش بسلام في بلاد الأنبياء وفي هذه المنطقة من العالم؟".
    كتب سيادة الرئيس محمود عباس – أبو مازن، في مقاله "يهود العراق" الذي لم أستطع الوقوف على تاريخ ننشره وأورد حديث الشاعر الراحل إبراهيم عوبديا في الإذاعة الإسرائيلية عن أسباب هجرة الشاعر إلى إسرائيل وكيف "اقتلعته الحركة الصهيونية في العراق من جذوره رغم أنفه"، وأورد ما قاله الشاعر معتبرا إياه "كشاهد من أهلها". ولكن علينا أن ننتبه إلى حقيقة أن هذا النقد العنيف أذيع من محطة إسرائيل وباللغة العربية، وإنه إن دلّ على شيء فعلى حرية التعبير وإبداء الآراء بصراحة مطلقة والى ديموقراطية هذه الدولة التي تتيح لناقديها منبرا مفتوحا على الدنيا. ويردف سيادة الرئيس أبو مازن بقوله "أي دافع صهيوني أو عقائدي وراء هجرته (أي إبراهيم عوبديا) إلى فلسطين، بل أن هجرته إليها كانت قهرية وقسرية استهدفت اقتلاعه من جذوره رغم أنفه".  نعم، كان المرحوم إبراهيم عوبديا من أنصار الوطنية العراقية وتبرأ من الصهيونية في نشراته وقصائده التي أعلن فيها عن ولائه للعراق ولمليكه وشعبه وترابه، فقد كان يؤمن بأن الجالية اليهودية هي إحدى العناصر الأصيلة في نسيج البناء الاقتصادي والاجتماعي والأدبي والتاريخي في العراق، ولكن الحكومة العراقية طاردته بسبب نقده لاضطهادها للوطنيين المخلصين، فأصدرت الأمر بالقبض عليه فهرب إلى إيران، ولما عاد إلى العراق بعد سنة من مغامرة عاطفية مؤلمة في طهران وجد أن عائلته قد هاجرت إلى إسرائيل، فالتحق بها بعد أن أدرك ألا جدوى من نقده الإصلاحي للعراق وانتظار إنصافه شاعر وطني عراقي يهودي، فقد صدق وها هي العراق كما ترى اليوم أعانه الله على الخروح منها. ويا سيادة الرئيس، من مثلكم يعلم ان اصرار القادة الفلسطينيين على ابادة اسرائيل واثارت الدول العربية والاسلامية ضدها كم كلف الدول العربية من ألاف من خيرة الشباب العربي ومن ملياردات الدولارات ذهبت هباءا في الحروب، لو كانت قد انفقت في سبيل اعمار واستقرار اللاجئين، كما اقترح الرئيس الاسرائيلي السيد شمعون بيرس، لاصبح قطاع غزة والضفة واسرائيل مراكز تجارية ومالية وصناعية وطبية وعلمية من افضل البقاع في العالم. ولكن حب الانتقام والثأر ومقولة "علي وعلى اعدائي يا رب" التي صدرت من شمشون الغزاوي، جنت المصائب على الشعب الفلسطيني الذي فقد ارضه وانعزل في رقعة محاطة بالاسيجة والحصار البحري، بصورة يرثى لها وتثير ضمائر الاحرار ضد اسرائيل وضد تعنت القادة الفلسطينيين الذين يرفضون قبول الامر الواقع، لا مبالين بمصالح الشعب الفلسطيني الأبي المظلوم الذي قدم الغالي والنفيس لاجل قيادته التي تظن ان ابادة الآخر هو الحل السليم والعدل لمشكلته التي خلقها لنفسه.
    فيا سيادة الرئيس محمود عباس "أبو مازن" لولا حبي للعرب الذين ارتويت من ثقافتهم واخلاقهم النبيلة لما كتبت هذا العتاب بمثل هذه الصراحة.

    (يتبع، 3)
    مبسيريت يروشلايم، أكتوبر، 2012

    تتمة بصراحة، ردّ على استفسارات 3-6
    القسم الثالث
    بقلم سامي موريه
    نشرت في جريدة "إيلاف" الالكترونية مقالا تأبينيا عن الشاعر إبراهيم عوبديا، فإذا بإحدى المعلقات على المقال التي ظنت نفسها خولة بنت الأزور الجديدة في جهادها في سبيل الله ضد الكفار، تكتب بسخرية بالغة عن الشاعر الذي نظم قصيدته وهو في حشرجة احتضاره قائلا: "يارب نجِ العراق من محنه،" وقالت خولة الجديدة وهي تسخر من اسمه اليهودي: "يا افراهام عوفديا! إلى حيث ألقت!" وعندما قرأت هذه الكلمات، شعرت بأن كل حرف فيها يقطر سما زعافا من انياب رقطاء مترعة بالحقد الأسود، ورأيت فيها زبانية الجحيم وهي تكشر عن أنيابها الصفراء التي تقطر ضغينة وكراهية وعنصرية، وبأن هذه الأنياب تنغرز كالصياصي في جسد العراق الذي خارت قواه من الحقد والقتل وقطع الرءوس وهدم دور العبادة على رؤوس المصلين الركع السجود والمفخخات والاغتيالات التي تودي بخيرة العراقيين، آملين أن تشفع لعراقنا الحبيب صلاة شاعرنا عوبديا لأجل خولته الجديدة وخلاص العراق من الأحقاد والتفرقة الدينية والمذهبية: "يا رب نج ِ العراق من محنه!".    
        قـُلـْتََ يا فخامة الرئيس السيد محمود عباس، أبو مازن، إن يهود العراق هاجروا بسبب "عمليات إلقاء القنابل على البـيوت والمقاهي والمتاجر والكنس اليهودية". ولكن العجب هو كيف لم يهرب يهود البلاد العربية الذين عاشوا فيها قبل الغزو الإسلامي، من إسرائيل والفلسطينيون يمطرون اسرائيل بصواريخ القسام العشوائية وقنابل الهاون والمفخخات التي امتاز بها الفلسطينيون في هجماتهم على اسرائيل، ولم يمض على قدومهم إلا سنوات قليلة ومع ذلك لم يهربوا منها؟ وبالرغم من أنهم، كما قال بار- موشيه، يشعرون في إسرائيل بعد هجرتهم مباشرة، بأنهم "كالأيتام في مأدبة اللئام". فمنذ هجرتهم إلى إسرائيل يعانون من هجمات الفدائيين وحزب الله وصواريخه، ثم من الحروب المتوالية، ثم السيارات المفخخة والانتحاريين الذين يفجرون أنفسهم في وسط الباصات والأسواق في المدن الاسرائيلية، وفي حرب الكويت الغاشمة عانوا من صواريخ صدام، تطلق بصورة عشوائية "على البـيوت والمقاهي والمتاجر والكنس اليهودية" بل على رياض الأطفال والمدارس والأسواق التي اغلب سكنها من يهود العراق،  لغرض القتل والتدمير فقط، وذلك وسط تهليل المجاهدين من حماس والجهاد الإسلامي وكتائب الأقصى على سطوح بيوتهم وصواريخ حزب الله، وتهديد الرئيس الإيراني أحمدي نجاد بإبادة إسرائيل عن بكرة أبيها بالقنابل الذرية والصواريخ. وكأنه لا يدري ان معظم مدن اسرائيل وقراها يسكنها عرب فلسطينيون آمنون ينعمون بالتأمين الصحي والوطني والعمل كاطباء اخصائيين وأساتذة جامعات، ويعيش معظمهم في فيلات واسعة ، ويتمتعون بحصانة تمثيلهم لعرب اسرائيل في الكنيسين، فإذا ارسل صواريخه برؤوس نووية لابادة اسرائيل وسيباد الملايين من عرب اسرائيل والفلسطينيين، لا سمح الله مع اليهود. فإذا كان حقا ما قيل، فلماذا لا يهربون من إسرائيل ويعودون إلى بلادهم الأصلية وبالرغم من أن ملك المغرب وحكومته الحصيفة لا تسقط الجنسية عن أي مغربي ولد هناك. إذن، فعلينا أن نفتش عن سبب آخر لتمسك يهود البلاد العربية بإسرائيل التي تفتح أبواب مطاراتها وموانيها لكل من يريد مغادرتها. الم تسأل نفسك يا سيادة الرئيس، كيف يتمسكون بأسرائيل بعد كل ما ذكرتم. لأن اسرائيل تتيح لهم الحرية والديموقراطية والحرية وحرية التنقل ومغادرة البلاج متى شاؤا؟  سألني السيد رؤوف صيام صاحب مطبعة الشرق في المنطقة الصناعية الاسرائيلية في عطاروت قرب رام الله، لماذا تسمح حكومتكم لليهود الذين يريدون مغادرتها الى اوربا واميريكا؟ قلت له كل مواطن اسرائيل حر في النقل ومغادرة البلاد متى يشاء، ومعظم عرب اسرائيل لا يرغبون بالرغم من "عنصرية اسرائيل اضطهادها لهم" حتى بضم مدنهم الى السلطة الفلسطينية، ولماذا؟ أليس لانهم يتمتعون بالتأمين الوطني والصحي والمدارس والجامعات والعمل في المستوصفات والمستشفيات كأطباء وممرضين وصيادلة والتي يزورها العرب للمعالجة اكثر من اليهود، ومن يزر القرى العربية في اسرائيل فيرى الفيلات والقصور والحدائق الغناء. ولكن القومية، كل قومية بين الكثير من الأقليات، تعد كل رفاهية تحت حكم تراه اجنبيا، قفصا ذهبيا، تريد تحطيم قضبانه لتنطلق الى ما تراه الافضل، بمقتضى المثل "الطيور على اشكالها تقع".
    قال لي الكثير من القادمين الجدد بأنهم حين قدموا إلى إسرائيل بالطائرات، نظروا من خلال نوافذها فرأوا أجنحة الطائرات كأنها أجنحة النسور، فهللوا وسبحوا وتذكروا وعد الله بجمعهم من أرض الشتات ونقلهم إلى "أرض الميعاد على أجنحة النسور"، وقالوا: إن وعد الله حقٌ، وها هي نبوءات أنبياء إسرائيل المدفونين في العراق تتحقق. أما المفكر والأديب الكبير المرحوم أنيس منصور فيقول في مقالة عن الطبيب والمنجم الفرنسي ميشيل نوسترداموس (1503-1566)، بأن معظم نبوءاته عن مستقبل العالم ومن بينها قيام دولة إسرائيل وبقائها بالرغم من معارضة جاراتها لها، قد تحققت. ولعل المرحوم أنيس منصور وهو الذي كان مستشارا للرئيس المصري السابق المغفور له محمد أنور السادات، قد همس له بهذه النبوءة، فاختار الرئيس الحكيم أنور السادات السلامة في عدم معاكسة الأقدار وما قدره الله، ووفق في خطوته المباركة وأنقذ مصر من حروب وويلات متتالية لا جدوى منها، والله أعلم، وها نحن اليوم نرى بدأ تحقق النبوءة في بزوغ الربيع العربي وثورة الشعب السوري على حكومة بشار الاسد الحبار العنيد تبيد شعبها، ننسأل الله ان يهدي الاخوان المسلمين الصراط المستقيم، "وإذا جنحوا للسلم فاجنح لها"، صدق الله العظيم.
    إذن فعلينا أن نأخذ بالحسبان ليس الحرية والعدالة والمساواة والديمقراطية ونزاهة المحاكم في اسرائيل بحيث لا يسلم من ميزانها العادل أحد، حتى رئيس الدولة ورئيس الوزراء، بل علينا التفتيش الى جانب التأمين الوطني والصحي والحرية، عن الدوافع الدينية والروحية لليهود أيضا في حتمية العودة إلى ما يؤمنون بأنها "أرض الميعاد". قال لي أحدهم، إن العجيب هو أن سكان المثلث من المسلمين في  إسرائيل يرفضون اقتراح بعض الساسة الإسرائيليين المتطرفين في ضمهم إلى أراضي السلطة الفلسطينية مقابل ضمّ المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية إلى إسرائيل!. ولماذا يا سيادة الرئيس؟ وهم مسلمون وهم عرب فلسطينيون يرفعون الراية الفلسطينية في مظاهراتهم واحتجاجاتهم ضد "ظلم إسرائيل لهم" ومصادرتها لأراضهم وقتل بعضهم في مظاهراتهم، ومع ذلك فيرفضون الالتحاق بقومهم ودولتهم وعلمهم وعروبتهم. ثم يضيف هذا الإسرائيلي المتطرف: "يتهم العرب إسرائيل بأنها تسعى إلى التوسع لكي تجعل حدودها من الفرات إلى النيل، ولكنها عندما تقيم الجدار الأمني للتخطط لحدودها الضيقة، يقولون إنه جدار عنصري. فلماذا لا يدعون إسرائيل للعيش بأمان في هذا "الكيتو العنصري" ليتخلصوا من خوفهم من هذا الحلم الصهيوني الكبير المزعوم من الفرات إلى النيل؟"  ثم يردف هذا المتطرف "الصهيوني" قائلا: لكن للسياسة أصولها ومنطقها". هذه الآراء أوردها هنا كما سمعتها من الكثير من يهود البلاد العربية، وما على الرسول إلا البلاغ، والرجاء أن لا تحملوني وزرها. "ولا تزر وازرة وزر أخرى"!
        يا سيادة الرئيس! إن مسؤولية تاريخية وإنسانية كبرى تقع اليوم على عاتقك وعاتق السيد بنيامين نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل الحالي، لإنهاء الصراع اليهودي- العربي الدموي المدمر للفلسطينيين أكثر من تدميره لإسرائيل ولحقن الدماء من الطرفين وهما من أبناء العمومة، فأنتما يا سيدي اليوم، أمل الدنيا في عقد معاهدة سلام بين الشعبين الساميين وأبناء الأعمام من نسل إبراهيم الخليل عليه السلام. ويرى علماء الاجناس، ان اقرب الناس من الناحية الجينية وصلة الرحم هم الفلسطينون والأكراد. سدّد الله خطاكم بما فيه خير المنطقة بل العالم أجمع، وآمل أن تدخلوا بوابة التاريخ والخلود كصانعي السلام وحماة الإنسانية المعذبة.
    3) هل تشعر أن هناك أجواء مشابهة للأجواء التي كنت تعيشها في العراق؟
    هاجر معظم يهود العراق إلى إسرائيل لذلك لم يكن لنا حنين إلى الأهل والأصدقاء، فقد قدموا جميعهم معنا وإن تفرقوا في مدن وقرى ودول مختلفة، ولكن حنينهم كان إلى مراتع الطفولة ومرابع الشباب، وقبور الأنبياء في العراق، ويحمل معظم يهود العراق أسماء أنبيائهم، مثل حسقيل الذي ورد اسمه في القرآن الكريم باسم ذي الكفل، والنبي ناحوم (في القوش قرب الموصل) والنبي دانيال (في كركوك) والنبي يونا (يونس، في الموصل) ويهوشع الكاهن الأكبر (في بغداد) والعزير (عزرا الكاتب) قرب الحلة. فلما استقر يهود العراق في إسرائيل من الناحية المالية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية والمعاشية تدريجيا، تبوءوا المناصب الرفيعة من وزارية وعسكرية وعلمية وإدارية كإدارة البنوك ودوائر الضرائب والمتاجر الكبرى وشركات التأمين وجمعيات خيرية لتشجيع التعليم والفنون والآداب ونبغ منهم كبار الكتاب والشعراء باللغة العبرية وحافظوا على اللغة العربية والتراث الأدبي الفني والموسيقي العراقي الشعبي، فيقال إن صدام حسين قال عندما سمع بالاندماج السريع ليهود العراق في المناصب العالية في إسرائيل: "وليش لا؟  مو هاي هي العبقرية العراقية!" أما رجال الطبقة العاملة ففتحوا الحوانيت والمتاجر والمطاعم والأسواق وعليها لوحات محل بغداد الصغيرة، محل اكو ماكو للمأكولات العراقية، مطعم سعيد العراقي، مخبز الكورك العراقي، الخ...، التي تحتوي على جميع المأكولات والتوابل والفطائر العراقية، بل بنيت تنانير ومخابز ومعامل تقوم بخبز أقراص الخبز العراقية والكورك وبيع العنبة والزلابية (زنكولة)، والحلوات والملبس العراقية وخاصة في بيتح تكفا وسوق الكرمل في تل-أبيب ورمات غان وغيرها من الأسواق التي تقطنها الأغلبية العراقية، حتى انك تظن نفسك أنك موجود في قلب حارة اليهود في بغداد، هذا بالإضافة إلى الجو العراقي السائد في المقاهي حيث يلعبون الطاولة والنرد لقتل الوقت والدردشة، وحيث تذاع الأغاني والموسيقى العراقية. وهي صور حية يتهافت عليها الاعلاميون لتسجيلها، هذا بالإضافة إلى تأسيس النوادي المخصصة ليهود العراق والمتقاعدين منهم خاصة مثل نادي الرافدين في رمات غان الذي يرأسه السيد يسرائيل شهرباني برعاية رئيس بلدية رمات غان السيد صفي بار (اختصار لاسم العائلة العراقي الكردي: برزاني)، والى اطلاق اسم صالح الكويتي والمغنية المصرية أم كلثوم على بعض شوارع اسرائيل. واعجب ظاهرة هنا هي نبوغ عدد كبير من الموسيقيين والمغنين اليهود الذين يحسنون الغناء العراقي التقليدي حتى باللهجة المعيدية ولهجة حضيري أبو عزيز. بل عرضت الممثلة شوش جورن محاورات نسائية بلهجة يهود العراق وقام دافيد يوسف رئيس  بلدية مدينة أور- يهودا الحالي، بعرض تمثيليات باللغة العربية ليهود العراق عن حياتهم في مخيماتهم في الخمسينات من القرن الماضي. وعندما يجتمع يهود العراق في أمسيات أدبية وعلمية وفنية وغنائية واحتفالية لتكريم الأدباء والشعراء والفنانين اليهود من العراق أو من أصل عراقي في مركز تراث يهود العراق بإدارة السيد مردخاي بن بورات وفي الأمسيات التي تقيمها جمعية تشجيع الآداب والأبحاث برئاسة عضو الكنيست السابقة نزهت قصاب والاجتماع السنوي الذي يقيمه صندوق تشجيع التعليم والثقافية من تأسيس يهود العراق برآسة السيدين عزرا كباي وعوبيد بن عوزير لجمع التبرعات للصندوق وكذلك في الأمسيات الأدبية والعلمية والغنائية التي تعقد في مركز أبحاث الحركة الصهيونية في القدس برئاسة المرحوم أبراهام كحيلة، والسيد يوئيل زلخا، والأمسيات التي تعقدها رابطة الجامعيين اليهود النازحين من العراق التي نشرت ما يقارب الخمسين كتابا باللغة العربية الفصحى والعبرية  عن ذكرياتهم في العراق لأدباء وشعراء من يهود العراق، فانك تجد نفسك في أجواء عراقية خالصة، بل تستطيع ان تقول كما كتب لي الاديبة وداد العزاوي بأسى بالغ: "نحن العراق الباقي"، فالغناء والموسيقى والقصائد تلقى باللغة العربية الفصحى والعامية فتعم الأفراح وتعود أجواء ليالي العراق الملاح، وعند وفاة الشعراء أنور شاؤل ومراد ميخائيل والصحفي نعيم طويق وسليم البصون وابراهيم عوبديا وغيرهم ألقيت قصائد التأبين في أمسيات ذكراهم باللغة العربية، وعلى قبورهم الطرية، سقاها الله بوابل من غيثه العميم. حتى أن بعض العراقيين المغتربين من غير اليهود الذين شاركوا في مثل هذه الاحتفالات أو الذين زاروا مركز ومتحف تراث يهود العراق الذي أطلق عليه في الآونة الأخيرة اسم المحسن الكبير، يعقوب نمرودي صاحب جريدة "معريب" المسائية، يجدون أنفسهم غارقين بأجواء العراق التاريخية والأدبية والفنية والاجتماعية. فالمتحف يضم حارة يهودية بغدادية بمقهى الشاي والقهوة بالحجم الحقيقي، ومحلات الخياط والصائغ والتنكجي والعطار والبزار بواجهاتها المكتوبة باللغة العربية، والتي أعيد تشخيصها مع تمثال الصانع والصائغ والخياط والبزاز والعطار وهم يعملون في محلاتهم والتي تصاحبها الأصوات والضوضاء والأغاني العراقية القديمة لتعطيك جوا بغداديا أصيلا. وفي هذا المتحف تعرض الأزياء العراقية اليهودية والحلي والملابس التي كان يرتديها اليهود في النصف الأول من القرن الماضي في جميع مراحل حياتهم أي من المهد وإلى الشيخوخة. وهناك عدة فترينات تحيط بنموذج للكنيس الكبير (صلاة الكبيغي) في بغداد القديمة بنفس الارتفاع العرض، تحتوي على مصاحف الأعياد الخاصة وتحيط بها فترينات لجميع الاعياد وايام السبت وبها نماذج من الطقوس التي كانت تمارس فيها وقد أعيد بنائها بصورة مصغرة والطعام الخاص بتلك الأعياد، كما نجد إدراج التوراة الفضية منها درج التوراة التي كتبها بخط يده الحاخام المجدد الشهير المرحوم يوسف حاييم على رق الغزال. هذا بالإضافة إلى عرض تاريخ يهود العراق بالخرائط المضيئة والتماثيل والأرقام والصور والوثائق والخرائط والمخطوطات والكتب النادرة والصور الفوتوغرافية. كل هذا يجعلك تشعر بأنك في العراق ولكن الفارق هو أن يهود العراق أيام سبي بابل كانوا يبكون على أنهارها حنينا الى صهيون، أما اليوم فهم يحنون إلى مشاهدة أنهارها ويتساءلون إذا كانت قيثاراتهم التي منعوا من مصاحبتها معهم، ما زالت معلقة على صفصافها، أم حطمتها المفخخات والمتفجرات في هذه الحرب الطائفية والمذهبية والدينية والعنصرية المقيتة. ومع كل ما وصفنا، فلم يتهمهم احد بالخيانة والحنين الى البلاد العربية، بل ان المرحوم الكاتب الشهير سمير نقاش عندما اراد مغادرة اسرائيل الى مصر والعيش فيها مع زوجته المصرية واولاده لكي لا يخدمون في الجيش الاسرائيل، لم يسمح له بالبقاء فاضطر الى الاقامة في مانشستر، واخيرا ادرك ان افضل مكان له ولمستقبل اولاده هو اسرائيل، فعاد اليها ليموت فيها بعد قليل، رحمه الله رحمة واسعة.

    (يتبع، 4)
    مبسيريت يروشلايم، أكتوبر، 201

    الأجزاء المتبقية من المقال
    بصراحة، ردّ على استفسارات .. الأجزاء 4 و 5 و 6
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media