بصراحة، ردّ على استفسارات .. الأجزاء 4 و 5 و 6
    الأحد 9 ديسمبر / كانون الأول 2012 - 23:04
    أ. د. شموئيل (سامي) موريه
    تتمة بصراحة، ردّ على استفسارات 4-6
    القسم الرابع
    بقلم سامي موريه

    أما السؤال الرابع الذي وجهه الي هذا الصحفي العراقي فهو:
    4) هل أحسست بالاضطهاد أو التفرقة خلال تواجدك في بغداد؟
    عند تصاعد الآراء النازية والفاشية في العراق في أواخر الثلاثينيات وبداية الأربعينيات بدأ الاضطهاد من قبل السلطات والمنظمات القومية التي تأثرت بها وخاصة حركة الفتوة وكتائب الشباب ونادي المثنى. كان المنتمين إليها من الشباب الذي تحمس للآراء النازية والفاشية ظنا منهم انها ستحررهم من الاستعمار البريطاني. وقد رأوا أن من واجبهم إهانة اليهود وضربهم في الشوارع، حسبما اعترف بعض المعلقين على سلسلة ذكرياتي في حديثي عن "الفرهود" من الذين اتسموا بالنزاهة والصدق والإخلاص للعراق والوطنية العراقية لشعورهم بتأنيب الضمير، أما الجيران المسلمون فقد كانوا مسالمين معنا بل كان البعض من المدافعين عن جيرانهم اليهود قد عرضوا أنفسهم للخطر وإن لم يقتل أحد من المدافعين المسلمين كما ادعى البعض تملقا بان  200 من المسلمين قتلوا دفاعا عن جيرانهم ولم يقل لنا من قتلهم وكيف وعلى أي كتاب أو صحيفة او وثيقة تؤكد شطحاته التاريخية التي اشتهر بها تملقا وظنا منه ان "محاضرته" لم تسجل بالفيديو. وقد أخبرني السيد يوسف شيمطوب وهو سائق سيارة تاكسي في مدينة بنى براق الذي ولد في بغداد يوم الفرهود، بأن جارهم المسلم، (ومع الأسف الشديد لم يستطع تذكر اسمه لتخليده في متحف الكارثة والبطولة في إسرائيل)، نقل والدته التي كانت في مرحلة الطلق والولادة، إلى داره مع حوالي الثلاثين من أفراد عائلته، فآواهم وواساهم وقام بحمايتهم وإطعامهم، وأرسل في طلب قابلة مسلمة لتقوم بالإشراف على ولادتها، واستضاف الجميع بدون مقابل، بل لوجه الله وذمة الإسلام السمح ما يقارب الثلاثة أسابيع. وكان يوسف شيمطوب خلال سفري إلى القدس يذكر هذا الجار المسلم الشهم وعائلته بالخير والدعاء له بالرحمة وجنات النعيم في عالم الخلود، بينما روى لي أصدقاء آخرون من وقائع الفرهود حالات غدر تقشعر لها الأبدان، "وكل إناء بما فيه ينضح". وقد قدم أحد الزائرين العراقيين لمتحف ومركز تراث يهود العراق في أور يهودا، من الذين اغتربوا في كندا، وهو الاعلامي الكبير حسين الحلي، صينية من الفضة طبع عليها أسم الصائغ اليهودي العراقي "عمل حسقيل الياهو"، اشتراها من أحد محلات التحف في الأردن. وقال للسيد مردخاي بن بورات رئيس إدارة المركز بأنه يعتقد بأن هذه الصينية نهبت في الفرهود من عائلة يهودية، ولذلك يشعر بان من واجبه كعراقي مخلص لوطنيته إن عليه إهداءها إلى مركز تراث يهود العراق في إسرائيل لإيداعها في متحف يهود العراق وليعيد الأمانة إلى أصحابها. فأكبرنا إخلاصه ليهود العراق ولذكراهم، كثر الله من أمثاله.
    وفي عراق الخير والبركة، كانت تربطني روابط صداقة متينة بصديقي إياد ابن الدكتور علي غالب من ام سويسرية وكان بيننا من الود ما بين اخوين حميمين، وتربط اليهود بكثير من العائلات العراقية المسلمة والمسيحية والكردية روابط صداقة حميمة فنتزاور ويشاركوننا ونشاركهم في حفلات الزواج والولادة والختان، أما في نهاية عيد الفصح حين لا يجوز لليهودي تناول الخبز الخمير بل الفطير فقط، فقد كان الجيران المسلمون يرسلون الخبز واللبن  الى إخوانهم اليهود بانتهاء النهار الأخير لعيد الفطر لكي يشاركوننا لذة عودة الحياة إلى طبيعتها بانتهاء العيد والتذوق بشهية ما كان محظورا خلال أكثر من أسبوع من تناول الخبز الخمير واللبن الرائب والشنينة. وفي المحلات المختلطة كان الجيران المسلمون إذا سمعوا بفتاة يهودية فقيرة في حاجة إلى إكمال جهازها ومهرها الذي عليها تقديمه لعريسها حسب العادات والتقاليد اليهودية القديمة البالية، كان الجيران المسلمون يقومون بمد يد المساعدة لعائلتها لتكمل فرحة العرس. وقد روي المرحوم ساسون عزت معلم من الديوانية في كتابه "على ضفاف الفرات" كيف كان اليهود الأغنياء في الديوانية يقومون بواجبات الضيافة وتكاليف الولائم للعائلات المسلمة في احتفالات الزفاف والختان. أما الأديب اسحق بار- موشيه، فقد روى أن والده قام بدفع نفقات ابن جاره التعليمية إلى أن أنهى دراسته الثانوية لكي يساعد جاره المسلم الذي لم يستطع القيام بذلك. أما الشاعر والأديب العراقي الشهير المحامي انور شاؤل محرر مجلة الحاصد فقد ارضعته جارته المسلمة السمحة حين تيتم بعد ولادته، فأية سيدة نبيلة هذه؟ الا تستحق اقامة تمثال لها في العواصم العربية، لتكون مثالا بحتذى للاخاء والانسانية الخيرة النبيلة، اسكنها الله تعالى واسع جناته وغفر لها ولاهلها الميامين، والأمثلة كثيرة رواها الأدباء أنور شاؤل وعزت ساسون معلم ومير بصري ومنشي زعرور وغيرهم في كتبهم ومقالاتهم باللغة العربية التي نشرت أغلبها رابطة الجامعيين اليهود النازحين من العراق.
    وبعد عام 1938 بدأنا نشعر بالاضطهاد والتفرقة في الشارع حين أخذ الصبيان والشبان يرجمون اليهود بالحجارة وخاصة في شارع غازي ومحلة باب الشيخ وفي أثناء صلواتهم في الكنس. أما في المدرسة فقد بدأنا أخي وأنا في مدرسة السعدون النموذجية نعاني من تحرش واضطهاد الطلبة وخاصة من قبل فيصل بن رشيد عالي الكيلاني وغيره من الذين تشبعوا بالآراء النازية، أما الطلبة الذين كانوا من أبناء الأجنبيات فقد كانوا يتعاطفون معنا ومخلصين لنا. وقد رويت كثيرا من هذه المواقف في ذكرياتي عن مدرسة السعدون و"الفرهود" وشنق شفيق عدس التي نشرتها مجلة "إيلاف" الحرة.

    5) هل تحن إلى أجواء بغداد وما هي الآكلة التي كنت تفضلها حينذاك؟

    العجيب ان نفس هذا السؤال وجهته الاديبة الفنانة ايمان البستاني، وارى ان ردي هناك يعد تتمة لهذا السؤال الذي تهتم به الامهات اكثر من الآباء.

    -    كانت والدتي تردد على مسامعنا نصيحة غالية رأيت اتباعها في هذه الردود، وهي:  "ادخل في البيت اللي يبكيك ولا تدخل في البيت اللي يضحكك."، واليوم ادركت مغزى هذا المثل الحكيم، كان بالامكان التملق لمشاعر الفلسطينين بصب الشتائم على الصهاينة لما فعلوه بالفلسطينيين من تشريد وقتل وعيش ذليل، ولكن مثل هذا التعاطف الطفولي الساذج سيكون له فعل تسكين موقت لمعاناة الفلسطينيين كل هذه السنين الطوال، ولكن من الافضل التحدث اليهم بصراحة من وجهة نظر موضوعية. ما معنى "النكبة الفلسطينية" ومن تسبب بها؟ النكبة هنا ان الشعب اليهودي بعد المحرقة النازية او الهولوكوست ادرك ان أوروبا العنصرية تريد التخلص من يهودها، وانه آن الأوان للعودة الى الديار المقدسة واحياء وعد الله لهم، أما المسلمون فيرون ان الصهاينة اعتدوا على شعب مسالم واغتصبوا دياره المقدسة التي فتحوها عنوة فوفبحت وقفا اسلاميا لا يباع ولا يشترى. وكل جانب يروى ان الله هو الذي وعده ، ولا يمكنهم مخالفة وعد الله لهم. في العصر الحديث طالب اليهود بحق العودة، وقد صوتت الامم المتحدة على قرار التقسيم، وقبله الصهيونيون، ورفضه العرب واعلنوا عشية اعلان استقلال اسرائيل حرب إبادة، وهشوا الى هذه الغزوة الجديدة ظنا منهم ان يهود اوروبا مثل يهود البلاد العربية، يخشون من مقابلة العرب، فكان نكبة فلسطين الأولى ثم تلاتها حرب 1967 وكانت النكبة اكبر، وهذا تكرر الامر في حرب يوم الغفران عام 1973 وتكررت الاعاداءات والمآمرات والهزائم وكل مرة لا يقبلون بنتائج الحروب المتتالية،
    -   
    -    ؤ و 
    -    الحنين إلى العراق هو شعور ملازم لمن هرب من العراق او هحر عنوة، وحنينا وتعاطفنا مع العراق اليوم هو بسبب ما يحدث الآن من المآسي يوميا، إذ تذكرنا أسماء الأماكن والصور التي نشاهدها في التلفزيون بمسقط الرأس فنترحم ونشفق وندعو إلى خلاص العراق من محنته. والحنين الرئيسي الذي نتبادل الحديث عنه في إسرائيل هو الصداقة الحميمة مع اصدقاء اعزاء ولليالي الجزرة والنزهات بالبلام (القوارب) النهرية على دجلة في أيام الصيف المقمرة، وايقاع المجاذيف و"نقر الدرابك من بعيد" مصاحبا العتابا والغناء العراقي الشجي، ورائحة ضفاف دجلة والفرات ودخان السمك المسكوف يعطر الأجواء، وغناء المستحمين "هذا الكيش حلاوي، ياكل تمر خستاوي"، والسباحة في مياه دجلة العطرة ومعلم السباحة الذي كان يغني معنا: "يا اولاد بلبول!" فنرد" بلي" ثم يسأل: "ما شفتم عصفور؟" بلي! ينقر بالطاسة !" بلي لابس حياصة بلي وننهيها بهوسة: ههيي ههيي! وقد تخلص رئيس الوفد الرياضي العراقي الذي اشترك مع العرض الكبير للكشافة الالمانية والاجنبية مشكلة انشاد النشيد الوطني العراقي، الذي طلب من الوفود المشتركة انشاده في مسيرتهم امام منصة الزعيم النازي المتعجرف مثل باقي الفرق الكشفية، هذه الهوسة الطفولية "لاولاد بلبول"، التي تظاهر رئيس الوفد العراقي بانها النشيد الوطني، ففازت بالتصفيق الحاد وترديد الفرق المحتفلة والالمان بلازمة "بلي" من قبل الجمهور النازي الالماني المتحمس، و"الطيور على اشكالها تقع!." كما كنا نغني للطيور عند مشاهدتها وخاصة للقلق، فيغنون له: "لكلك لكلك لكلك، بواق الصابونة من جوّا الرازونة،" ومع الفاختة في نواحها الذي أشجى ابي فراس الحمداني. وفي أغاني الأطفال هذه نجد أبياتا ليست ذات معنى ولكن الشئ الذي كان يطربنا فيها هو رنين القافية والإيقاع المرح، واليوم أدركت أن مثل هذا الغناء كان قد سبق المذهب العبثي (الأبسورد)  في الأدب الأوروبي ورواية "في انتظار جودو". أما إذا شاهدنا جملا في شارع غازي فقد كان الصغار يعدون وراءه ويغنون له: "أبو حلق الجايف، أبو حلق الجايف"، فإذا أسمع هديره الغاضب، يستدركون مخافة أن يعضهم بأسنانه التي يسيل لعابه منها وينشبها في لحمهم الغض بقولهم: "لا، مو جايف، مو جايف!"
    أما الأكلة التي كنا نفضلها في العراق فهي الكبة والباجة والقوزي في الشتاء والسمك المسكوف في الصيف. وفي الصباح الصمون المقسب مع العسل والقيمر وعلب اللبن التي كانت نساء المعدان تأتين بها من وراء السدة وكل واحدة منهن تحمل العديد من العلب على رؤوسهن في غبش الفجر سيرا على الأقدام مسافات طويلة بقامتهن المنتصبة بكبرياء واعتداد الرماح العوالي، رحم الله تلك الأيام الخوالي.

    (يتبع، 5)
    مبسيريت يروشلايم، أكتوبر، 2012

    تتمة بصراحة، ردّ على استفسارات 5-6
    القسم الخامس
    بقلم سامي موريه

    6) هل حصلت على كامل حقوقك بعد هجرتك إلى هذا البلد؟

    في كل هجرة جديدة من القادمين الجدد يشعر أفرادها بشيء من التمييز بسبب عدم إتقانهم للغة العبرية والرطانة التي تميزهم والتي تصبح موضوعا لنوادرهم، أو أزياء ثيابهم أو المظهر الخارجي والعادات والتقاليد الجديدة عليهم، هكذا كان وضع يهود البلاد العربية، ثم يهود روسيا اليوم ويهود الحبشة بعدهم. وكانوا يسمون يهود العراق "عراقي بيجامة" لارتدائها في البيت وفي الشارع في بعض الأحيان، وكان اليهودي المغربي يسمي "ماروكي سكين" بدعوى أنهم كانوا يستعملون السكاكين في عراكهم، ويطلقون على القادم الجديد من رومانيا أسم "روماني حرامي" أو بسخريتهم من اليهودي القادم من ألمانيا بقولهم "يهودي عسير الفهم" (ييكي)، وغير ذلك من السخرية التي تثير حفيظة القادمين الجدد على المجتمع الإسرائيلي المشهور بعدم حساسيته تجاه مشاعر الآخرين. ولكن استيعاب القادمين الجدد يتم تدريجيا إلى أن تتلاشى الفوارق عندما يندمجون في المجتمع الإسرائيلي الذي أصبح اليوم يتسامح بسبب تعدد الجنسيات واللغات والعادات والذي اضطر إلى استبدال طريقة استيعابه للمهاجرين الجدد. فبعد محاولة الحكومات السابقة صهر القادمين الجدد في بودقة الحضارة الكيتو (الحارة) اليهودية الشرق أوربية، تبنت اليوم تعدد الحضارات والتقاليد والعادات واحترامها والتعايش بينها، فأخذوا يشاركون يهود المغرب في احتفالات الميمونة وتقاليد يهود كردستان في احتفالات السهرانة الشعبية ويهود الحبشة. وأنا اليوم اشعر باني حصلت على كامل حقوقي بل أكثر مما كنت احلم به لسبب رئيسي واحد وهو أنى ألقيت اللوم على نفسي فقط إذا لم انجح في استيعاب مبادئ المجتمع الجديد وفهمه، فالمجتمع الإسرائيلي يقدس الثقافة والفن والتنافس العلمي والأدبي والفني فهو مجتمع يكره الكسل والتواكل والتقاعس وإلقاء اللوم على الآخرين. لذلك لم اتهم الآخرين بالتقصير نحوي، وإني كان عليّ كيهودي شرقي أن أبذل أضعاف الجهد الذي يبذله اليهودي الأوربي لكي أكون على قدم المساواة معه. وقد طالبتُ بذل الجهد من نفسي أكثر مما طالبتُ من غيري، وهكذا أرسلتني الجامعة العبرية في بعثة دراسية إلى جامعة لندن لتقديم أطروحة الدكتوراه عن الشعر العربي الحديث ولما أنهيتها دعتني الجامعة عام 1966 إلى التدريس فيها. أما إخوتي الثلاثة الآخرين فقد نال الأخ البكر منا بعد إنهائه الماجستير في الجامعة العبرية درجة دكتور في الاقتصاد من جامعة لندن والأخ الثاني نال درجة دكتور في الفيزياء، أما الأخ الثالث فقد حصل على منح دراسية في أوربا وأصبح من كبار الرسامين في باريس. أما أبناء أختي الكبرى فقد نالا لقب بروفيسور في الطب والفيزياء العملية في الولايات المتحدة بعد نيلهما الدكتوراه من الجامعة العبرية، ومعظم الأحفاد في العائلة نالوا شهادات الطب والحقوق من جامعات إسرائيل والجامعات الامريكية، وما عائلتي إلا نموذج لما بلغته كثير من عائلات النازحين من البلاد العربية بعد أن اندمج أبناؤهم في المجتمع الإسرائيلي. وهكذا نرى، إن إسرائيل تتيح للحميع الحرية في التنافس في الميدان العلمي والأدبي ومن لا يستطيع الفوز في مثل هذا التنافس، يسقط، أو كما يقول المثل العراقي الشعبي: "أبو كريو يـبـيـّّن بالعُـبُـر!". ولم أجلس مكتوف اليدين في حياتي الجامعية وقمت بنشر الكتب العديدة والمقالات العلمية عن الأدب العربي الحديث، ورشحتني الجامعة للمراتب العلمية من محاضر إلى محاضر أول إلى أستاذ مساعد (Assistant Professor) ثم إلى أستاذ كامل (Full Professor)، دون تأخير وذلك لنشري الكتب العلمية بصورة متتالية، ثم رشحتني الجامعة للحصول على أعلى جائزة تمنحها الدولة لعلمائها وهو جائزة إسرائيل في العلوم الشرقية عام 1999. وأنا اليوم احصل على راتب تقاعدي ممتاز ، يمكني من الحياة وعائلتي ببحبوحة من العيش مكرما معززا في هذه الدولة التي تتهم بتهمة العنصرية والتفرقة من قبل من كانوا سادة التفرقة الدينية والمذهبية كما يحدث اليوم في سوريا وغيرها من الدول ويتهمون اسرائيل بتهم "ما أنزل الله بها من سلطان".

    7) لماذا تتصرفون مع سكان فلسطين الأصليين بطريقة عنصرية وتنكرون حقهم في أرضهم؟

    هذا سؤال عويص كنت أود أن لا أخوض فيه. ولكن لا بد من كلمة صريحة. اللاجئون الفلسطينيون مظلومون، ونحن اليهود الذين سكنا مثلهم في الخيام في السنوات السوداء الأولى من قدومنا كنا نتعاطف معهم ونرثي لهم كما كنا نرثي لحالنا، بل كانت قصائد الشعراء الفلسطينيين في وصف معسكراتهم وحياتهم في الخيام تعكس شعورنا بالذل والفقر والعار لأن أموالنا جمدت ولم يسمح لنا بإخراج أكثر من خمسين دينارا على الأكثر، كل ما استطعت أخذه معي هو خمس دنانير. كنا نقرأ عن الفلسطينيين وكيف ظلمهم قادتهم وحكام البلاد العربية ولم يحسنوا رعايتهم والعناية بهم، فألقوا تبعات حياتهم على لجنة إغاثة للاجئين الفلسطينيين التابعة للأمم المتحدة وقد وعدهم الزعماء العرب بالعودة بعد تدمير إسرائيل وشنوا حروب 1948، 1967، 1973، 1982، و2007، ولم يرضوا بالتقسيم عام 1947 وفضلوا الحروب وسياسة "خلي السيف يقول"، وما زالوا لا يقبلون بحل المشكلة الفلسطينية عن طريق المفاوضات، فيزيدون الطين بلة وفقدان الأرض والنفوس ومعاناة الجوع ويتكبدون الخسائر ويسعون إلى التدمير بدل البناء وبناء مستقبل جديد لشعبهم المنكوب. ولو قبلوا بقرار التقسيم لكانت النتيجة على غير ما هي عليه الآن.
     (يتبع، 6)
    مبسيريت يروشلايم، أكتوبر، 2012


    تتمة بصراحة، ردّ على استفسارات 6-6
    القسم السادس
    بقلم سامي موريه


    أواصل نشر موقفي الصريح من الصراع العربي مع اسرائيل، بالرغم من اتهامات كالها لي بعض القراء الذين ما زالوا لا يستطيعون فهم مغزى ما كتبت، وهو أن أظهر للقراء العرب ما خفي عليهم، ولكشف الخسائر الفادحة في الانفس والاضرار الجسيمة في الاموال على التسلح  والاقتتال من الجانبين، وما كان حاصل الصراع الى هجمة عمود السحاب؟ أليس العودة الى نقطة الصفر، حين رفض العرب  التقسيم الذي صوت له مجلس الأمن حول قضية فلسطين لصالح اليهود بأغلية ساحقة في 29 من نوفمبر عام 1947، واقرها اليوم نفس المجلس لصالح الفلسطينيين في 29 من نوفمبر 2012 باغلبة ساحقة ايضا، أي بعد 65 عاما، قبل بها العرب اليوم باحتفالات الانتصار والشعور بالزهو لهذا الفتح التاريخي الاول من نوعه، ففيه قتلوا بالصواريخ الغزاوية-الايرانية بضع اسرائيليين وهدموا بضعة بيوت في اسرائيل، أما في غزة فمن سقط من الغزاويين هو ما كتب لهم وهم اليوم شهداء ينعمون بجنات النعيم، وما هدمت من بيوت، ففداء لعيني فلسطين الصمود. كل ما فعله العرب هو التضحية لاجل الحصول على حقهم المشروع، فما دام الله منحهم البترول رخيصا، ليشتروا به الاسلحة من الغرب والشرق يملؤون بها جيوب المتاجرين بالاسلحة بالملايين، فعلى الشعب الصامد البطل ان يبقى جائعا وجاهلا ومريضا وان تنفق امواله على الجهاد الاصغر، وإذا لم يرض الشعب بالإمام الجائر  او بالدكتاتور المصلح، الضرورة، البطل، فإن اسلحته ستقوّم كل من تسوّل له نفسه بالاحتجاج على سلطة الحاكم المظلقة. ما اسعد العرب وبوجود دولة اسرائيل كمشجب لسياستهم الفاشلة وإلقاء اللوم عليها لا على طرق تفكيرهم البالية.
        ولنعد الى سؤالكم السابع: لماذا تتصرفون مع سكان فلسطين الأصليين بطريقة عنصرية وتنكرون حقهم في أرضهم؟

    - السؤال محرج ولا شك فإذا نظرنا من وجهة نظر عربية، نرى ان ارض فلسطين هي وقف اسلامي لا يباع ولا يشترى بحكم شريعة منزلة مقدسة تمت بالفتح الاسلامي، أما من جانب اليهود فهو عهد الله لشعبه المختار، لاستيطان الديار المقدسة، في توراته التي نزل بها الكليم الى الشعب المختار بلغته المقدسة. فكلا الشعبين ينسب قدسية ارضه الى خالق السماوات والارض، ولا راد لإرادة الخالق، لذلك لم يرض الفلسطينيون المتدينون ولن يرضاها, أما الساسة اليهود فقد كان اصحاب الحل والعقد فيها، علمانيون يتعايشون مع الترسبات الدينية ويستطيعون المساومة عليها.
    من يتصرف مع سكان فلسطين بصورة عنصرية؟  فالقادة الفلسطينيون أعلنوا الحرب على إسرائيل من أول ساعة إعلان استقلالها، إذ تأهبوا مع سبع دول للقضاء على شبل أسد يهودا في الساعات الأولى من ولادته خشية أن "يرد البحيرة شاربا، فيَرِدُ زئيرُه الفراتَ والنيلا،" كأسد المتنبي في مدحه لسيف الدولة الحمداني.
    وبعد، فإن بين الفلسطينيين واليهود ما صنع الحداد، ودارت حروب طاحنة شنتها الدول العربية على إسرائيل والكل يعلم بأن غرض هذه الحروب لم يكن ترك الدبابات والمدرعات غنيمة للصهاينة، أتريد ان اقولها بالقلم العريض، كانت الغاية منها إبادة اسرائيل، ففي عام 1948 كانت الشعارات يومها: "تل أبيب الموعد" و"تل ابيب، سوف تصلى باللهيب"، ثم طرد على اثرها يهود البلاد العربية وصودرت اموالهم، فمنذ وعد بلفور عام 1917 والى اليوم وقعت إعتداآت متتالية على يهود البلاد العربية" المسالمين العزل ولم يحملوا السلاح داخل اوطانهم وهم الذين اخلصوا لمسقط رأسهم وخدموه من الناحيتي الاقتصادية والمالية والاجتماعية على الاقل، وقد قتل في الاضطرابات التي اثيرت بتشجيع من الحكومات العربية والجامعة العربية من اليهود ما يلي:
    في قسطنطين – الجزائر        قتل عام 1934    25   يهوديا
    في بغداد                قتل عام 1941    179  يهوديا
    في ليبيا                قتل عام 1945    135  يهوديا
    في عدن                قتل عام 1947    76   يهوديا
    وفي سوريا في مدينة حلب    قتل عام 1947    75   يهوديا
    وفي المغرب في مدينة وجدة    قتل عام 1948    44   يهوديا
    وفي المملكة المصرية        قتل عام 1948    200 يهوديا     
    المجموع                        743

    هذا بالاضافة الى مصادرة أموالهم وطردهم الى جانب المسيحيين والاقليات الاخرى من معظم البلاد العربية، ما هو معروف، وتنشره الصحف العربية والاوربية والامريكية، ومن بقي من الاقليات ما زال يعاني من الاضطهاد العلني والخفي كما هو معروف.
    وقد تسبب الفلسطينيون وتحريضهم ضد اليهود عامة بكل هذه الاضطرابات اضافة الى تحريض الدول العربية على الانتقام من اليهود جيرانهم وشركائهم في التجارة، كما ادت الحروب مع اسرائيل الى استشهاد آلاف الجنود مما أثار الحقد والكراهية والبغضاء من الجانبين، ففي الحروب صراع مرير من الجانبين. ويتساءل بعض معارفي الذين أتبرأ من آرائه براءة الذئب من دم ابن يعقوب: هل تصرف العرب نحو اليهود وإسرائيل بصورة أفضل؟ فإذا دخل يهودي المناطق الفلسطينية خطأ أو للتجارة فمصيره الموت المحتم ولكن الفلسطيني يجرؤ على التسلل إلى إسرائيل للعمل فيها فهو يعلم بأنه في أسوأ الأحوال سيعاد إلى المناطق الفلسطينية أو يقبع في سجونها يرتع ويمرح كأنه في احسن الفنادق بل يحق له اكمال دراسته. ولكن ماذا تعني بسكان فلسطين الأصليين؟ فمعارفي من الصهيونيين يقولون إن هناك الكثير من اليهود من سكان فلسطين الأصليين سكنوها منذ الغزو العربي الإسلامي، ويضيف بعض الصهيونيون الأكثر تطرفا عندما عرضت عليهم سؤال سيادتكم، ماذا يعنون بالفلسطينيين العرب خارج حدود دولة إسرائيل؟ ومن هو الذي ينكر حقهم بعد أن فقدوه في حروبهم المتوالية وإصرارهم على تدمير إسرائيل؟ إن عرب إسرائيل لهم حقوقهم التي يسعون إلى استكمالها وإصدار الجرائد المعارضة للحكومة ولهم ممثلون في الكنيست وحرية الإضراب والسفر الى الدول العربية المعادية لإسرائيل وحرية الخروج في مظاهرات وحرية الصحافة والانتخاب، ولو نشرت مثل المقالات العربية التي تصدر في الصحف العربية الإسرائيلية في البلاد العربية، لأودع كتابها في غياهب السجون ولأغلقت صحفهم. ثم يضيفون، إن الكثير من يهود البلاد العربية في إسرائيل يؤمنون بان طردهم من بلادهم القديمة كان بسبب حرب 1948 والاعتداء عليهم وفصلهم من أعمالهم ثم طردهم بعد مصادرة أموالهم المنقولة وغير المنقولة. والحروب المتتالية كانت بسب عرب فلسطين وان هذا الطرد وتجميد الأموال أو اغتصابها، كان بمثابة تبادل السكان وتبادل الأملاك بين عرب فلسطين ويهود البلاد الغربية. أما أنا فأقول إن اغلب اليهود الشرقيين يتعاطفون مع اللاجئين الفلسطينيين ويرون أنهم أيضا ضحية السياسات الاستعمارية الأوروبية ومطامعها في البلاد العربية وثرواتها النفطية خاصة، فقد كانوا ضحية فساد الحكومات العربية وسياستهم الانتقامية وبطشها بشعوبهم وتشريد الأقليات واضطهادها.


    8) بماذا يمتاز العراق وخصوصا سكان بغداد عن غيرهم في العادات والتقاليد والرفقة الحسنة؟

    أما بماذا يمتاز العراق وخصوصا سكان بغداد عن غيرهم في العادات والتقاليد والرفقة الحسنة؟ فالبغداديون "عينهم شبعانة" وعندهم كبرياء وأنفة، ويخلصون في صداقتهم، عاطفيون يحبون الغناء والطرب، وتسيل دموعهم عند سماعهم للأغاني العراقية والمصرية، يحبون الولائم ويكرمون الضيف ويقدمون له افخر ما لديهم. ولكنهم يتحزبون بسرعة ويغضبون بسرعة ويغتابون خصومهم بسرعة ثم يندمون، ولاتَ ساعةَ مندم. وعندهم أريحية وطول بال وإخلاص للأصدقاء والأقرباء يراعون لحمة النسب، ويشيدون دور العبادة أكثر من اهتمامهم بإنشاء المدارس والمستشفيات والمكتبات. واغلبهم يفضلون الذهاب إلى الملاهي والجلوس في المقاهي وشرب النارجيلة وتدخين السجائر ولعب الطاولة والنرد والبوكر والاستماع إلى الأغاني ودفع أبهظ الأثمان في سبيل الحصول على تذاكر حفلات الغناء والموسيقى، أما الكتب فينتظرن من الأديب أن يهدي كتابه لهم "إبّلاش" وإلا فلا يغفرون له زلته إذ لم يهدها لهم بكلمات التبجيل والتعظيم والمديح. وهذا التصرف شبيه بتصرف يهود العراق في إسرائيل فبعضهم ما زال يتصرف مثل "مكدي كركوك وخنجره بحزامه" ولكنهم على الأغلب يتصرفون بكبرياء ونخوة وبجود وكرم.

    8) هل تحس بالغربة في مكانك الجديد وهل تعاملون بطريقة تختلف عن طريقة تعامل اليهود الغربيين؟ هل لليهود الشرقيين الذين جاءوا من الدول العربية إلى إسرائيل مكانة خاصة في المجتمع الإسرائيلي وهل هناك خطوط حمراء عليهم؟

    لا أحس بالغربة في مكاني الجديد، فقد قدم أغلب يهود العراق إلى إسرائيل وفضل القليل منهم الهجرة إلى أوربا والولايات المتحدة وكندا والقليل إلى أستراليا، وهم  ويعيشون في تكتلات سكانية، ولذلك فلا مكان للشعور بالغربة، كما أنهم تعلموا اللغة العبرية بسرعة ونبغ من بينهم كبار الكتاب اليهود من أصل عراقي من أمثال سامي ميخائيل وشمعون بلاص وإيلي عمير وكبار الشعراء من أمثال روني سوميك ويعرا بن دافيد والدكتورة ليليان دبي- جوري، واصبح منهم رئيس أركان الجيش الأسرائيلي ورئيس الكنيست السابق السيد شلومو هليل ورئيسة كنيست سابقة هي السيدة دالية أتسيك من أصل عراقي، ووزير البنية التحتية هو بنيامين اليعيزر الذي يدعى تحببا باسمه العراقي فؤاد، والمرحوم السيد جدعون عزرا وزير البيئة وجمعهم من أصل عراقي، أما الوزراء من أصل شمال إفريقي فهم إيلي يشاي وزير التجارة والصناعة والسيد أتياس وزير الإتصالات، وعضو الكنيست رونيت تيروش من حزب كيدما فقد كانت تشغل منصب المدير العام لوزارة التربية والتعليم، وهناك الكثير من يهود البلاد العربية الذين يشغلون مناصب عليا وحساسة في القضاء والحسابات العامة من أمثال السيد ميني مزوز المستشار القضائي السابق للحكومة وزليخة المحاسب العام في الدولة، وقبل مدة أقيل موشي قصاب رئيس دولة إسرائيل من منصبه وهو من أصل إيراني، وذلك لأنه لم يثبت جدارته من الناحية الأخلاقية، هذا بالإضافة إلى مئات من الأطباء والمحامين والقضاة والمحاضرين الجامعيين، والشعور العام هو أن المواهب والكفاءات لها الأولية، ولم يعد للتمييز والتفرقة الآن ذكر بعد الزواج المختلط ونشوء جيل جديد من مواليد البلاد، أما التمييز فيمارس بصورة خاصة بين المتدينين المتشددين الذين يرون أن يهود البلاد العربية أكثر تحررا وأقل عصبية دينية وتمسكا بقشور الدين من يهود أوروبا الذين يتمسكون بأزيائهم بالمعطف الطويل صيفا وشتائا والقبعة الاوروبية السوداء التي كان يرتديها الاوروبيون في شرق اوروبا وبنمط حياتهم والتدقيق في كل صغيرة وكبيرة من القوانين الدينية التي وضعوها لأنفسهم لتجنب الاندماج في الأغيار، أما أبناء الطبقة العاملة فيتشكون في بعض الأحيان من النظرة المتعالية لليهود من أصل أوروبي.
    هذا، فمن الأولى أن أنهي كلامي هنا لكي لا أغضب الجميع أكثر مما أغضبتهم بصراحتي. ولكي لا يقولوا عني كما قال المرحوم سمير نقاش في قصته "والقصة-خون إذا خرَف"  بأني أصبحت قصة-خون العراق اليوم! ندعو الله أن يلهم الساسة والزعماء في العالم الحكمة والصبر والرأفة بالعباد، وفهم الاديان بانها لخير الانسان وتنظيم حياته بصورة تؤدي الى سعادته في الدنيا والآخرة، ففي الأرض متسع للجميع، وتعاون الشعوب تؤدي إلى خير الإنسانية، والحروب لا تؤدي إلى حل جذري للمشاكل الدولية، بل تزيد الطين بلة، وبيد الإنسان الحديث من الأسلحة الفتاكة ما يهدد الحياة على هذه الأرض التي خلقها الله ليتمتع الإنسان بخيراتها وأنزل الأديان لصالح البشرية، وقانا الله شر الحروب والشقاق، وهدانا إلى خير الانسانية جمعاء، إنه السميع المجيب.


    (انتهى)
    مبسيريت يروشلايم، أكتوبر، 2012
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media