العلمانية كما أرآها
    الخميس 7 مارس / أذار 2013 - 21:51
    راغب الركابي
    يُقدم لنا الإعلام العربي معناً مموهاً  ومشوهاً - للعلمانية - ، وهو يقصد من ذلك  التقديم إزدراء العلمانية وإزدراء معانيها وقيمها وماتريد طرحه وتبنيه ، والإعلام العربي  مثقل بأدبيات الخطاب الديني تلك الأدبيات التي تصف العلمانية بالعداء للدين ولأصوله ، وكما تعلمون إن هذا الوصف مزاجي بدرجة كبيرة وغير صحيح بدرجة أكبر وفيه وهم كثير وتناقض معرفي وخلط ، وهو وصف أقرب ما يكون إلى ذلك المعنى الكلاسيكي الذي نقرأه في صراع الكنيسة مع العلم ، وهو صراع تاريخي بين ماهو دنيوي وماهو روحي ، صراع مفتعل أساسه الهيمنة والتمسك بمصادر القوة جرى هذا قبيل النهضة الأوربية ، وإعلامنا العربي وبعض مثقفينا وبعض كتابنا لا يجرون تحقيقا معرفيا عن بعض المصطلحات وبعض المفاهيم ، إنما يحاكمونها من وحي السماع ووحي الخلاف لكل ماهو جديد وغير مألوف ، لذلك نقول : إن الإستخدام المموه لمفردة العلمانية ومعناها إنما هو إستخدام مرادف للذي جرى في أوربا وهو نفسه المفهوم الكنسي القديم ا .

    لكننا نجد إن العلمانية في حقيقتها ليست نقيضاً للدين ولا هي نقيضة لأصوله هذا بحسب فهمنا للدين الإسلامي ، الذي هو دين ذو جنبتين الأولى روحيه ماورائية وغيبية والثانية دنيوية ، في الأولى نلتقي مع النبوة وفي الثانية نلتقي مع الرسالة ، في الأولى لا وجود للأحكام ولا لمفاهيم الزمان والمكان أعني إنتفاء صفة القانون الزمني هنا ، لكن في الثانية هناك أحكام أساسها ظرفي الزمان والمكان أعني القابلية على التغير والتطور بحسب أدوات الزمان والمكان ، الأدوات المعرفية والعلمية والعقلية وهذا ما يجعلنا نقول إن بين العلمانية كمضمون واصول الدين الفقهية التشريعية تقارب من وجه ، تقارب في النسبي وتقارب في المعنى الإصطلاحي واللغوي ، بدليل إن العلمانية في اللغة : هي لفظة دالة على - العلم - بكسر العين ، ودالة على - العالم – بفتح العين ، وفي كلا الدلالتين نفي للإطلاق وإيمان بالنسبي ، أي إن الأحكام والقوانين التي تحكم الوجود هي أحكام وقوانين نسبية غير مطلقة ، تتطور وتتغير بحسب الواقع وأدواته العلمية والعقلية والمعرفية ، وهذه قابلية ذاتية وموضوعية في آنٍ معاً ولازمها رفض الثابت في الأحكام والنظريات ، والإستجابة لمنطق الزمان والمكان ، ففي العلم يكون النظر إلى الواقع وإلى المتصور ، ومجال العلم ليس محدودا فيما هو مرئي من الأشياء ، بل إنه كذلك يبحث في ماهو متصور ومُتخيل .

    و العلمانية حين أدارة الصراع مع الجهل أدارته من وحي القانون والنظام ، أي من وحي العلم المهتم بشؤون الناس وحاجاتهم ، وفتحت المجال للعقل ليبحث ويتعمق بكل ماهو متصور ومُتخيل ، وهدفها من ذلك تحقيق المصلحة والفائدة للإنسان ، لهذا يكون صراعها في الغالب مُركزاً على الإشكاليات السياسية والإقتصادية والثقافية والإجتماعية ، كقضايا العدالة والقانون والحريات العامة .

    وفي ذلك الطريق تصطدم دائماً بسلطات رجال الدين أو الذين يدعون إنهم يتحدثون بأسم الله ، هذا الإصطدام دوري يتكرر طالما كانت الحاجة إليه كما جرى ذلك مع الإكليروس و الكهنوت الكنسي ، وأظنه صراع يتمحور حول مفهوم الحقيقة نفياً وإثباتاً ، فالحقيقة هي بالنسبة للعلم شيء نسبي ولكنها عند بعض رجال الدين شيء مطلق ، هذا التفاوت له علاقة بفهم الحقيقة وتشخيصها فالعلم يناقش معنى الحقيقة بحسب عناوينها وواقعها ، لكن بعض رجال الدين يعتبرون الحقيقة هي قول الله ، وهذا التفاوت يجعل من الحقيقة هي - الثابت - بنظر رجال الدين لكنها بالنسبة للعلم هي المتحول المرتبط بوعي الزمان والمكان ، ومن ذلك نفهم المعنى الذي قدمته دائرة المعارف البريطانية كتعريف للعلمانية  على أنها : - حركة اجتماعية تتجه نحو الاهتمام بالشؤون الأرضية بدلاً من الاهتمام بالشؤون الآخروية - ، وهي بهذا اللحاظ المفهومي ترتبط بحياة الناس اليومية من دون الإغراق بالماورائية ، أي تحقيق مايهدف إليه الإنسان من سعادة ورخاء وتقدم ، هذا المعنى الإيجابي للعلمانية وجدناه نحن موافق لما جاء في الميثاق العام - للحزب الليبرالي الديمقراطي العراقي – عن معنى الليبرالية الديمقراطية  بإعتبارها حركة وعي إجتماعي    ، أعني إننا وجدنا فيها العنصر المشترك الذي عليه يقوم القانون والنظام ، ومنه إيضاً تكون منظومة القيم مشتقة منه ودالة عليه وإعتبار ذلك نزوع إنساني هدفه حماية الإنسان .

    وبالنسبة لنا نحن نؤكد على أهمية الفصل الموضوعي في القانون بين ماهو ممكن وبين ماهو غير ممكن ، والممكن عندنا هو ما نحققه نحن حسب الواقع وحسب الشرط الموضوعي ، ولا ضير عندنا إن وافق أو أتفق مع ماهو روحي طالما نحقق فيه المصلحة للإنسان ، طبعاً من غير مزج أو إدخال في مجال ومضمار كل طرف في الطرف الآخر ، فلزوم التقيد بالمجال الحيوي لكل موضوع هو لازم من لوازم الفصل الموضوعي ، ولذلك نحن نرفض اعتماد أحكام الشريعة الدينية مطلقًا بقراءات الفقهاء التاريخيين ، لأننا نؤمن إنه في الحياة تطور وحاجات أكبر وأعمق من ذهنية الفقيه التاريخي ، كذلك فنحن نجد في قوانين العدل والحرية والسلام أساس البناء لمجتمع التقدم والتطور وفق قوانين الحياة الطبيعية ، ومن أجل الوصول إلى ذلك يلزمنا إعتماد مبدأ التسامح تجاه الغير وتجاه المختلف وعدم التدخل في الخصوصيات والإعتقادات ولا يجب فرضها على الناس بالقوة والإكراه ، وعندها فقط يمكننا بناء دولة الإنسان
    بالعقل والحرية والنظام ، قال تعالى : - لا إكراه في الدين - ونقول نحن :
    لا إكراه في مسائل السلوك الشخصي والإجتماعي وكل إكراه هو إستبداد وظلم ، وكما قال جيفرسون الرئيس الإمريكي الأسبق : (- إن الحقيقة تسود إذا ما سمح للناس بالاحتفاظ بآرائهم وحرية تصرفاتهم - ، تصريح جيفرسون جاء لوسائل الإعلام بعد أن استعمل حق النقض عام 1786 ضد اعتماد ولاية فيرجينيا للكنيسة الأنجليكانية كدين رسمي، وقد أصبح الأمر مكفولاً بقوة الدستور عام 1789 حين فصل الدين عن الدولة رسميًا) .

    وبالنهاية يمكننا القول : إن العلمانية هي طريقة حرة في الحكم وليست هي دين أو وحي أو عقيدة ، والرجل العلماني هو الرجل الذي يعتمدعلى العلم في النظر إلى قضاياه ومسائله ومشاكله ، والعلمانية همها تصحيح الواقع ليكون أكثر عدلاً وقابلية للحياة والعيش ، والعلماني همه سعادة الإنسان من غير الإنغماس في الجدل التاريخي والديني ..

    راغب الركابي
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media