حكايات الكوانتا الغرائبية
    الخميس 30 يناير / كانون الثاني 2014 - 22:26
    د. جواد بشارة
    في يوم من الأيام في القرن الماضي صرح العالم الفيزيائي الكبير ريشارد فينمان Richard Feynman قائلاً جملته الشهيرة:" أستطيع أن أخاطر بسمعتي وأقول بأن لا أحد يفهم الميكانيك الكمومي أو الكوانتي"
    1
    عندما نقول اللامتناهي في الصغر فهذا يعني أننا ملزمون بالحديث أولاً عن العلم الذي يتعامل مع هذا المفهوم، وهو فيزياء الكوانتا أو ميكانيكا الكم physique ou mécanique quantique، وهناك قلة من العلماء من تفهموا في بدايات القرن الماضي أسرار هذا العلم وما يترتب عليها من تغيرات في الرؤية العلمية للكون والمادة والطاقة وإعادة النظر في المسلمات العلمية السائدة.
    فيزياء الكموم أو الكوانتا هي بلا شك أحد أكبر المغامرات العلمية للقرن العشرين. وبالتالي ينبغي الكشف عن أصولها وجذورها وأسرارها وما يعتليها من غموض وصعوبات مفاهيمية، أي الأسس والتجارب والتطبيقات المرتبطة بهذه النظرية.
    تحتوي الأسس العلمية لفيزياء الكوانتا أو الكموم، على الأساسيات من الخيارات المفيدة في فهم واستيعاب المباديء الكوانتية أو الكمومية الرئيسية حسب تسلسل ظهورها التاريخي والزماني. وعلينا أولا أن نضع فيزياء الكموم أو الكونتا في سياق الامتداد المكمل للفيزياء الكلاسيكية كونها جاءت لتجيب على تساؤلات ومسائل لم تستطع الفيزياء الكلاسيكية حلها أو تفسيرها. إن مفهوم الكمومية ثوري بطبيعته ولقد أدخل إلى عالم الفيزياء بمختلف الأشكال. ولابد من الحديث عن العلماء الذي وسموا بأعمالهم ومساهماتهم العلمية فيزياء الكموم أو الكوانتا وتركوا بصماتهم وكونوا جيل الرواد، كماكس بلانك والبيرت آينشتين ونيلز بور ولوي دي بروجلي وغيرهم. Max Planck,Albert Einstein,Niels Bohr,Louis de Broglie، وبعد هؤلاء الآباء المؤسسين لهذا الصرح العلمي، يأتي جيل من العلماء والفيزيائيين الموهوبين جداً الذين وضعوا القاعدة الرياضياتية الشكلانية المتينة اللازمة للأبحاث العلمية اللاحقة في هذا الميدان. وقدموا إضافات مذهلة مثل مبدأ الاستبعاد لبولي principe d’exclusion de Pauli، ومبدأ الريبة أو اللايقين لهيزنبيرغ principe d’incertitude d’Heisenberg، أو معادلة شرودينيغر الشهيرة l’équation de Schrö-;-dinger، ومع ماكس بورن Max Born برز مبدأ الاحتمالات principe de probabilités، وعلينا أن نلاحظ كيف تغلغلت التخمينات والافتراضات في أبحاث العلماء وزعزعت مفهوم الحتمية conception déterministe في عالم الفيزياء. كما يتعين علينا توضيح كيف استطاعت فيزياء الكموم أو الكوانتا أن تلج عصر التفسيرات والنبؤات أو التوقعات. كان آينشتين ينظر بعين القلق والهلع من التحولات والتطورات التي طرأت على النظرية الكمومية أو الكوانتية التي ساهم هو شخصياً بتأسيسها وتطويرها. وتجسد نقده فيما عرف بمفارقة EPR التي سنشرحها بالتفصيل لاحقاً، ونعرج على مختلف تيارات ومدارس التفسير لميكانيكا الكموم أو الكوانتا من تفسير كوبنهاغن interprétation de Copenhague الى يومنا هذا في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين. مع إطلالة سريعة على أهم التجارب الجوهرية ، وهي في أغلبها تجارب ذهنية تفكيرية وليست مختبرية، مثل مفارقة قطة شرودينيغر paradoxe du chat de Schrö-;-dinger، وبالطبع التجارب المختبرية التي أثبتت صحة المعطيات العلمية لفيزياء الكموم أو الكوانتا كتجارب العالم الفيزيائي الفرنسي آلان آسبيه Alain Aspect وتجارب جون بيل John Bell الأحدث منها والتي ردت بعد ثلاثين عاماً على مفارقة EPR والتي أعطت الحق لبور وأعتبرته مصيباً في حججه ضد آنشتين التي خطأت طروحاته وحججه ، والتجارب الأحدث كتجربة الحصول على غيوم من الذرات الباردة أو أبحاث وتجارب عالم الفيزياء الفرنسي الحائزة على نوبل للفيزياء سنة 2012 سيرج هاروش Serge Haroche.
    ثم نتناول الجزء الأهم ألا وهو التطبيقات العملية لفيزياء الكموم أو الكوانتا في مجال البحث العلمي وفي حياتنا اليومية، كموضوع الليزر واستعمالاته المدنية والطبية والعسكرية الذي جرى تطويره منذ سنوات الستينات في القرن المنصرم، إلى جانب تطبيقات مستقبلية مثل الكريبتوغرافية أو التشفيرية والترميزية cryptographie والانتقال الفوري الآني تيليبورتيشن téléportationوالحاسوب الكمومي أو الكوانتيordinateur quantique ومختلف الأدوات والأجهزة الالكترونية الحديثة كالهاتف الذكي smartphoneوالجي بي أس GPS أي محدد الأماكن عبر الستلايتات أو الأقمار الصناعية والتصوير الشعاعي الطبي imagerie médicaleالخ.. كل ذلك سنتناوله في سلسلة من المقالات العلمية الصغيرة والمختصرة جداً وبلغة تبسيطية مفهومة من قبل الجميع. 
    2
    منابع الفيزياء الكوانتية أو الكمومية :
    في نهاية القرن التاسع عشر اعتقد علماء الفيزياء أن قوانين الفيزياء الكلاسيكية التي اكتشفوها تمنحهم المعرفة الكاملة لفهم العالم. باستثناء بضعة تساؤلات ظلت معلقة تبحث عن أجوبة علمية شافية. ولكن في بداية القرن العشرين في العم 1900 حدثت انعطافة حادة في الفيزياء المعاصرة عدت بمثابة ثورة حقيقية وذلك بولادة الفيزياء الكمومية أو الكوانتية La physique quantique من صلب محاولات بعض العلماء الإجابة على تلك التساؤلات العلمية العالقة. ففي عشية القرن العشرين كانت حصيلة المعارف والخبرات في مجال الفيزياء وباقي العلوم الطبيعية وفيرة وفيها تكمن جذور وأصول الفيزياء الكمومية أو الكوانتية. كانت الفيزياء منقسمة إلى ثلاثة تخصصات رئيسية هي الميكانيك والكهرومغناطيسية والديناميكا الحرارية la mécanique، l’électromagnétisme، la thermodynamique، فالميكانيك الكلاسيكي أو النيوتني ـ نسبة لنيوتن ـ mécanique classique newtonienne يستند إلى دعامتين وضعهما إسحق نيوتن Isaac Newton في نهاية القرن السابع عشر. الداعمة الأولى مكونة من ثلاث قوانين هي قواني الحركة، والدعامة الثانية هي قانون الجاذبية أو الثقالة الكونية وهي بلا أدنة شك أكبر الاكتشافات العلمية لكل الأزمان التي سبقت اكتشافها. وكان الجمع بين هذين الاكتشافين هو الذي قاد البشرية الى التطور والتقدم النظري والتقني الهائل الذي حققه الانسان في العصر الحديث. فبفضل قوانين نيوتن يمكننا اليوم حساب مسار الصواريخ والاقمار الصناعية التي ترسل للفضاء. أما الكهرومغناطيسية، وهي الفرع الجوهري الثاني من الفيزياء المعاصرة، فقد نجمت من توحيد المغناطيسية بالكهرباء وكان العالم جيمس ماكسويل James Maxwell هو الذي أعلنها سنة 1864 على شكل أربع معادلات باتت شهيرة. وما زالت تستخدم لوصف الأنظمة المتنوعة، كموجات الراديو والتلفون والمحركات الكهربائية الخ.. أما الفرع الثالث للفيزياء الكلاسيكية، أي التيرموديناميك الحراري فيقوده ثلاث مبادئ جوهرية ويدرس آليات وميكانيزمات التحول الحراري للأجسام، وتطور هذا الفرع من الفيزياء في القرن التاسع عشر على يد العالم كارنو وجول وكلاوسيوس Carnot، Joule,Clausius وكانت لهذا العلم تطبيقات عديدة مثل اختراع محركات التفجير وأنظمة التبريد وغير ذلك من الأنظمة الفيزيائية والجيوفيزيائية physique , géophysique. وإلى جانب هذه الفروع الفيزيائية الأساسية مجتمعة يوجد علم البصريات l’optique والذي يمكن التعامل معه بمعادلات ماكسويل حصراً لذلك يمكن اعتباره جزء من الكهرومغناطيسية ولكن بخصوصية منفردة. فهناك واجهتان لعلم البصريات: الأولى هندسية géométrique التي تمثل الإشعاعات الضوئية كالخط المستقيم الذي نخطه على سطح ورقة بمساعدة مسطرة / والثانية موجية ondulatoire التي تعامل الضوء كموجة. وكانت هذه الطبيعة المزدوجة للضوء مثار جدل وسجالات علمية لعبت دوراً أساسياً في ظهور وتطوير الفيزياء الكمومية أو الكوانتية. وبعد بضعة قرون من التردد، بسبب الرؤية الحبيبية الموروثة عن نيوتن للضوء، بات من البديهي في فجر القرن العشرين، اعتبار الضوء ذو طبيعة موجية أيضاً. وذلك بفضل أبحاث وتجارب علماء الفيزياء هيوغينز Huygens سنة 1690، ويونغ Young سنة 1801، وفرينلFresnel سنة 1818، وتوجتها فيما بعد معادلات ماكسويل الشهيرة التي وصفت كيفية تأرجح الحقول الكهربائية والحقول المغناطيسية التي تكون الضوء، في الزمان والمكان. ولو تمكنا من حل تلك المعادلات سيكون بإمكاننا وصف الموقع والسلوك المؤقت للحقل الكهرومغناطيسي لكل نقطة إشعاع ضوئي. ونستنتج من ذلك ثلاث أشياء: الأول أن الضوء ينتشر بسرعة ثابتة ومحددة وهي سرعة الضوء المعروفة 300000 كلم في الثانية، والميزة الثاني هي أنه إذا لم يلتق الضوء بعائق فإنه سينتشر في اتجاه ثابت ومستقيم، والميزة الثالثة هي الحل الرياضياتي الذي يثبت بداهة الظاهرة الموجية التي تتأرجح بتردد معين أي عدد التأرجحات في الثانية الواحدة وبطول معين للموجة التي تحدد لون الشعاع الضوئي. فالضوء الأزرق لديه طول موجة تقدر بأربعمائة نانومتر أي سنتمتر مقسوم على 250000. إن إدراك الصفة الموجية للضوء سمح للفيزيائيين فهم ظاهرتين أساسيتين وهما التشابك أو التداخل والزيغ أو الانحراف وحيود الضوء الذي لا يمكنه شرحه وتفسيره وفق النموذج الحبيبي أو الجزيئي للضوء. فالتداخل والتشابك يحدث عندما تلتقي موجتان أو أكثر في نقطة ما من الفضاء أو المكان. والمثال التوضيحي لذلك هو عند رمي حجرين في مستنقع ساكن على مسافة الواحد عن الآخر وكل واحد منهما يحدث موجات حول نقطة تصادم الحجر بالماء الساكن وبالتالي يمكننا أن تلاحظ مصدرين للموجات التي تتداخل ببعضها البعض. أما انحراف الضوء وحيوده فينتج عندما يمر شعاع الضوء خل فتحة تكون أبعادها مساوية لطول موجة الضوء النافذ ومن البديهي القول أننا لا يمكن أن نفسر هاتين الظاهرتين إلا إذا اعتبرنا الضوء ذو طبيعة موجية. ومن هنا برزت ظاهرة الجسم المسخن ذو الشعاع الأسود حسب درجة الحرارة وطول الموجة التي تصدى لشرحها وتفسيرها علميا الفيزيائي الفذ ماكس بلانك Max Planck ولكي يحلها قدم لنا ما نعرفه اليوم بفيزياء الكموم أو الكونتا physique quantique.
    3
    العالم الواقعي والعالم الغرائبي بين النسبية والكوانتية
     
    عندما تصدى العالم الألماني الفذ ماكس بلانك Max Planck سنة 1900 ة لحل مشكلة الجسم الأسود المشع ، لم يكن يتخيل مقدار الثورة المفاهيمية والتكنولوجية التي أطلقها. واليوم وبعد قرن وعقد ونصف من الزمن تقريباً حصلت ما يشبه المعجزات لكنها معجزات علمية وليست دينية خرافية، من الفرضية الأولى للكموميات quantification الى التجارب التي أجريت وتجرى حالياً لتحقيق النقل الفوري أو الآني الكمومي أو الكوانتي téléportation quantique . كيف كان الآباء المؤسسون يفكرون بهذا الفتح العلمي المسمى فيزياء الكموم أو الكوانتوم وكيف يمكننا تخيل مواقفهم من هذه الفيزياء في الوقت الحاضر؟ فآينشتين Einstein لم يعش طويلاً ليشهد منجز بيل Bell في المتباينات les inégalités التي برهنت على صحة كل نظرية محلية ذات تنويعات خفية variables cachées في مجال الرياضيات الحديثة ولم يطلع على التجارب العملية والمختبرية التي اثبتت صحة وسلامة وصلاحية نظرية الكوانتا أو الكموم ، ربما كان سيصر على موقفه مدافعاً عن رؤيته للواقع المادي الملموس مقابل غرابة العالم الكمومي أو الكوانتي وهو عالم مبني على مسلمات الاحتمالات probabilités ومبدأ الاحتمالية الذي لم يستسغه آينشتين أبداً. بالرغم من النجاحات المنقطعة النظير التي حققتها فيزياء الكموم وثراءها في مجال التفسيرات والتوقعات إلا أن هناك العديد من الأسئلة والتساؤلات مازالت قائمة. والمشكلة تكمن في أننا وصف واقع كمومي أو كوانتي يفلت أو يخرج عن نطاق مفاهيمنا التقليدية المألوفة والمتعارف عليها بعبارات وصيغ ومفاهيم كلاسيكية عاجزة عن وصفه فكيف لنا أن نتخيل مفهوم إزدواجية الطبيعة الثنائية للوحدة التكوينية الأولى للوجود أي الطبيعة الموجية والجزيئية للجسيم الأولي la dualité onde-corpuscule أو مفهوم التعقيد أو التشويش intrication ، ، ومبدأ اللاتحديد المكاني la non-localité والتي قد تقف كلها وراء مختلف محاولات التفسير وعلى رأسها تفسير مدرسة كوبنهاغن l’interprétation de Copenhague الذي اقترحه وشرعه العالم الدنماركي بور Bohr واعتبر تفسيرا أورثودوكسيا متشدداً. لنتذكر أن تجارب العالم الفرنسي آلان آسبيه Alan Aspect التي أجراها في سنوات الثمانينات من القرن الماضي أثبتت أن قياسات تجرى على جسيم يتواجد في باريس يمكن أن يكون لها تاثير مباشر وآني على جسيم آخر كان متشابكاً معه في وحدة واحدة في حالة تعقيد وشواش intrication سابقاً ويتواجد الآن في بكين، أو على أية مسافة كانت في الكون المرئي حتى ولو بالقرب من الأفق الكوني فمبدأ اللاتحديد المكاني la non-localité ينطوي على استنتاج يقول أن المسافات في الفيزياء الكمومية أو الكوانتية لا قيمة لها وغير موجودة أو تكون معدومة وليس فقط المسافات بلا والزمن كذلك فكثير من الظواهر الكمومية أو الكوانتية آنية الحدوث في آن واحد وفي عدة أماكن وهذا ما يتعارض مع معطيات النسبية الخاصة relativité restreinte لآينشتين لو حاولنا تفسيرها باعتبارها أحداث تقع على مسافات مختلفة. ولتحاوز هذه الصعوبات اضطر العلماء لوضع فرضيات غاية في الغرابة بالنسبة للتفكير العقلاني كفرضية الأكوان المتعددة des univers multiples للعالم إيفريت Everett وغيره الذين أدخلوا عامل الوعي المراقب la conscience de l’observateur الذي يؤثر على طبيعة وماهية الواقع المراقب أو المرصود ودور أجهزة المراقبة والرصد وتأثيرها ايضاً ولاستيعاب ذلك لجأ العلماء الكموميون أو الكوانتيون الى الشكلانية الرياضاياتية le formalisme mathématique للخروج من هذا المأزق العلمي والاحتماء بالصيغ الرياضياتية الغريبة والمعقدة والصعبة للغاية لكي يواصلوا تقدمهم بعيداً عن الاتهامات بالهرطقة وميتافيزيقية التفسيرات.
    واليوم وبعد مضي مايقرب القرن وعقدين من الزمن لم تخرج تجربة علمية واحدة تدحض التكهنات والتوقعات النظرية للفيزياء الكمومية أو الكوانتية ومازال هناك غموض يلف ظاهرة اختزال الحزم الموجية la réduction du paquet d’ondes وهي مسلمة ضرورية للمرور من عالم مليء بالتراكبات والتداخلات الكمومية أو الكوانتية superposition quantique غير المضمونة أو المؤكدة الى العالم الواقعي والحقيقي الذي ندركه ونتحسسه بعبارة أخرى المطلوب هو تحديد الحد الفاصل بين العالم الميكروسكوبي monde microscopique والعالم الماكروسكوبي monde macroscopique .
    وفي سنوات السبعينات قدم بعض العلماء تفسير عقلاني بفضل نظرية اللاتماسك أو اللاترابط المنطقي la théorie de la décoherence التي وضعت لها مهمة جلب العالم الكمومي أو الكوانتي للعالم الواقعي. ونجحوا في ذلك نسبياً وما زالت الجهود تبذل على قدم وساق لتصميم الكومبيوتر الكمومي أو الكوانتي ordinateur quantique الذي من المفترض أن يحل الكثير من القضايا العالقة في هذا المجال حيث ستكون له قابلية لامحدود للخزن وسرعة الأداء. إن تطور الكهروديناميكية الكمومية أو الكوانتية électrodynamique quantique ونظرية الحقل الكمومي أو الكوانتي théorie quantique du champ قد فتحا الطريق أمام تطور فيزياء الجسيمات la physique des particules التي تعمل جاهدة لكشف سر وربما اقتناص الغرافيتون Graviton الذي يفترض به كجسيم اولي يكون حامل وناقل للثقالة أو الجاذبية والمسؤول عن التفاعل الثقالي interaction gravitationnelle في الكون والهدف من وراء ذلك هو الجمع في صيغة واحدة القوى الكونية الجوهرية الأربعة التي تعتبر دعامات النموذج المعياريmodèle standard للكون المرئي وبذلك سيتحقق حلم آينشتين بإيجاد النظرية الكاملة والجامعة التي تضم الفيزياء الكمومي أو الكوانتي والنسبية العامة . ونتمنى أننا سنتمكن من تبسيط هذا العلم في سلسلة المقالات القادمة من حكايات الكوانتا. يتبع
    4
    معضلة الإدراك
    كنت في محاضرة علمية فطرح علي أحد الحضور سؤالا يصلح أن يكون مدخلا لهذه المادة: لماذا لا يمكننا الجمع والتوحيد بين نظرية النسبية لآينشتين relativité générale d Einstein وفيزياء الكوانتوم أو الكموم la physique quantique أو الميكانيك الكوانتي أو الكمومي Mécanique quantique وهي النظرية التي لها عدة آباء من بينهم آينشتين نفسه وماكس بلانك Max Planck وبور Bohr وهيزنبيرغ Werner Heisenberg وشرودينغرErwin Schrö-;-dinger و ريشارد فينمان Richard Feynman وفولفغانغ باولي Wolfgang Pauli وعشرات غيرهم، بغية العثور على نظرية واحد جامعة وشاملة وموحدة تقدم لنا الإجابات على كافة تساؤلاتنا عن الكون والطبيعة والحياة؟ في الحقيقة هاتان النظريتان تشكلان اليوم الأعمدة الرئيسية التي تستند عليها الفيزياء المعاصرة وما يرتبط بها من علوم وتكنولوجيا. اشتغل العلماء لسنوات طويلة، منذ بداية القرن المنصرم العشرين ولغاية منتصف العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، على هذا المشروع التوحيدي الذي كان حلم آينشتين نفسه، ولكن لم ينجح أي منهم في مسعاه لغاية اليوم، فما زلنا نواجه نفس المشاكل والعقبات حتى بعد اكتشاف بوزون هيغز boson de Higgs قبل أشهر والذي كان من المفترض أن يساهم في تسهيل التوصل الى النظرية الموحد المسماة نظرية كل شيء. فمن جهة لدينا ميكانيك الكم أو الكوانتا، وهو عبارة عن مجموعة من النظريات والفرضيات العلمية التي طورتها الفيزياء لا سيما فيزياء الجسيمات، منذ بداية العام 1900 وعلي يد هؤلاء الفطاحل المذكورين أعلاه، ومجال عملها ينصب في اللامتناهي في الصغر أي من الذرة فما دون، والتفاعلات بين الذرات والجسيمات الأصغر والأدق المكونة للذرات والتي قدمت وصفاً علمياً دقيقاً لعالم الجسيمات والتموجات الفوضوية في الفراغ الكوانتي التي لايمكن للفيزياء الكلاسيكية القيام بها على الاطلاق. ومن جهة أخرى لدينا نسبية آينشتين العامة Einstein et la relativité générale التي تتعامل مع اللامتناهي في الكبر على صعيد الكون كله من الذرة فما فوق وصولا الى المجرات والنجوم وباقي مكونات الكون المرئي. من إضافات آينشتين الجوهرية للفيزياء الكلاسيكية أنه أثبت أن الزمان والمكان لديهما بعد موحد ونسيج واحد ووجهين لحقيقة واحدة ولهما صيغة واحدة هي الزمكان " espace-temps " ، حيث يمكن أن يتحول الزمان الى مكان والعكس صحيح في ظروف محددة وشروط خاصة، ثم غير مفهومنا عن ثقالة أو جاذبية نيوتن من خلال مفهوم الحقل الثقالي الذي يؤثر على نسيج الزمكان ويتحكم بمدارات الأجسام الفضائية ومن هنا نشأت مشاكل تتعلق بنظرية الحقل الموحد la théorie du champ unifié وطبيعة القوى الكونية الجوهرية الأربعة. وصف ميكانيك الكموم أو الكوانتوم ثلاث قوى كونية جوهرية هي القوة النووية الشديدة التي تعمل على تماسك مكونات الذرة، والقوة النووية الضعيفة، المسؤولة عن النشاط الاشعاعي la désintégration radioactive و القوة الثالثة وهي الكهرومغناطيسية l électromagnétique التي تعمل في نطاق الظواهر والشحنات الكهربائية والمغناطيسية وحقولهما من الالكترون الى أي شيء موجود في الكون المرئي. لكن ميكانيك الكموم لم ينجح في التعامل مع القوة الكونية الجوهرية الرابعة وهي الثقالة أو الجاذبية la gravité التي نجحت النسبية في التعامل معها ووصفها خاصة في مجال الثقوب السوداء. والحال أن النسبية لا تتعاون مع الميكانيك الكوانتي أو الكمومي حيث نجح هذا الأخير في توحيد القوى الجوهرية الثلاثة وفشل في ضم القوة الرابعة أي الثقالة التي لم يعرف أحد كيف تعمل الى ان يتم اكتشاف جسيم الغرافيتون graviton المفترض باعتباره الحامل للثقالة كما هو حال الفوتون بالنسبة للقوة الكهرومغناطيسية. والحال أن العلماء يحاولون بلا جدوى العثور على نظرية كمومية أو كوانتية للثقالة أو الجاذبية une théorie quantique de la gravitation قد تكون هي الحل أو الخطوة الضرورية نحو دمج النسبية بالكوانتية. ويستخدم العلماء مسرعات ومصادمات الجسيمات العملاقة لهذه الغاية مع تكثيف وتعميق دراسة وكشف أسرار الثقوب السوداء les trous noirs لأنها تمتلك جاذبية أو ثقالة لامتناهية مع حجم لا متناهي في الصغر، بالطبع هناك ثقوب سوداء عملاقة ولكن هناك تفسير آخر لهذا النوع من الثقوب السوداء، ويسود تفاؤل بين العلماء بأنهم سوف يتوصلون يوما ما الى هذه النظرية الموحدة أو نظرية كل شيء.
    من الصعب علينا تكوين صورة واضحة لظاهرة كمومية أو كوانتية لأن تصوراتنا محكومة بالعالم الماكروسكوبي الكبير الذي نعيش فيه ونستمد منه مفاهيمنا ومعارفنا وتصوراتنا في حين أن مداركنا تغدو شبه مستحيلة في العالم الميكروسكوبي مادون الذري لأننا نفتقد للصور المألوفة لدينا لذلك صرح ريشارد فينمان بعبارته الشهيرة :" أعتقد أنني أستطيع المخاطرة بالقول أنه لا يوجد شخص يمكنه أن يفهم الميكانيك الكمومي أو الكوانتي". من هنا صار لهذه النظرية الغرائبية عدة تفسيرات وكل تفسير منها حاول أن يقدم صورة ذهنية image mentale تتيح للفيزيائيين التعاطي مع الظواهر الكمومية أو الكوانتية باستخدام حدسهم بدلا من اللجوء الى شكلانية رياضياتية formalisme mathématique غالبا ما تكون تجريدية يصعب فهمها، إن لم نقل يستحيل، من قبل العامة. ومن أشهر هذه التفسيرات تفسير كوبنهاغن interprétation de Copenhague التقليدي المتشدد والذي دافع عنه ورعاه بور وهيزنبيرغ. ففي عام 1927 قدم العالم الدنماركي نيلز بور Niels Bohr رؤيته للنظرية الكوانتية أو الكمومية في مؤتمر علمي وكانت عبارة عن حصيلة جمع لأفكار قادت الى تأسيس هذا الفرع من علم الفيزياء حيث أن فيزياء الكموم أو الكوانتوم كانت تمتلك حتى في تلك الفترة المبكرة شكلانيتها الرياضياتية ومعدلاتها القوية والفعالة التي نجحت في توصيف وتفسير الكثير من الظواهر الفيزيائية التي عجزت الفيزياء الكلاسيكية عن فهمها وتفسيرها مثل الجسم الأسود corps noir والتأثير الكهروضوئي effet photoélectrique وتركيبة الذرة compositin de l’Atome الخ.. والى جانب الصيغ الرياضياتية الصارمة، كان الميكانيك الكمومي أو الكوانتي يمتلك مسلمتين أساسيتين ، أشهرهما هي معادلة شرودينغر l’équation de Schrö-;-dinger التي سنتطرق اليها بتفصيل أكبر لاحقاً، وهي خطية ومتصلة linéaire et continue وهما خصلتان جوهريتان لها، فالصفة الخطوطية تعني أنه إذا كان نظامان يشكلان حلا لمعادلة شرودينغر، فإن أي جمع بين النظامين سيكون هو الآخر حلاً. أما خاصية الاتصال فينطوي عليها أنه بغياب الاضطرابات والمؤثرات الخارجية فإن النظام يبقى دوماً في الحالة التي وصفتها له المعادلة.. وإن التطبيق الدقيق والصارم لهذين المبدأين يقود الى مفارقات اشهرها مفارقة قطة شرودينغر الحية والميتة في آن واحد. الى جانب أن الاستمرارية تعني أنه لايوجد شيء يمكن أن يحطم هذه السلسلة من التركيبات التي يمكن أن تمتد الى الــ مالانهاية. ولو اكتفينا بمعادلة شرودينغر فلن نحصل على نتيجة واحدة لأي قياس نقوم به بل سنحصل على جملة من النتائج الممكنة والمحتملة. ولتجاوز أو تخطي هذه الصعوبة أعد التفسير الأورثوذوكسي مسلمة قياس وهي مجرد مسلمة لم تثبت مختبريا وتتمثل باختيار على نحو احتمالي لممكن معين من بين عدد من الممكنات الناجمة عن قياس معين والمتواجدة أو المتعايشة معاً فالحدث الذي يجري عليه القياس يظهر بدون أي تبرير فيزيائي ويضع نهاية لــ الاستمرارية اللانهائية التي توقعتها معادلة شرودينغر وتسمى هذه الظاهرة في علم الفيزياء الكوانتية بانهيار دالة الموجة effondrement de la fonction d’onde . وفي نفس تلك الحقبة الزمنية اقترح العالم بور وعدد من زملائه واتباعه مجموعة مبادئ موجهة ضمن التفسير الأورثوذوكسي ومن اشهرها مبدأ التكامل principe de complémentarité و مبدأ الريبة أو اللايقين principe d’incertitude ومبدأ التوافق أو التطابق principe de correspondance. كان مبدأ التكامل الذي اقترحه بور غير واضح وغائم في صيغته ويتلخص بأنه عند وصف ظاهرة فيزيائية ما يمكننا اللجوء الى عناصر اللغة المناهضة أو المناوئة لها وأوضح مثال لمبدأ التكامل هو صفة الثنوية الجسيمية – الموجية la dualité onde-corpuscule حيث اتضح لنا في بعض التجارب أن الفوتونات تتصرف كما لو كانت موجات في حين أن نفس هذه الفوتونات في تجارب أخرى تتصرف كما لو كانت جزيئات، وهذين الوجهين مكملين لبعضهما البعض كما يقول بور. كما يمكن تفسير مبدأ الريبة أو اللايقين لهيزنبيرغ على هذا النحو كذلك فعند تطبيقه على كينونة ما، لقياس وتعيين موقعها وسرعتها او اندفاعها، يعلن لنا هذا المبدأ بأننا لايمكن أن نعرف على وجه الدقة وفي آن واحد معرفة السرعة والموقع فهما متزاوجان أو مترافقان ومكملان لبعضهما، في حين أن مبدأ التطابق والتوافق يقول أننا يجب أن نرى في الفيزياء الكمومية أو الكوانتية نوع من التعميم والتصويب للفيزياء الكلاسيكية وهو المبدأ الذي يطرح مسألة الحدود بين العالم الماكروسكوبي والعالم الميكروسكوبي. فلو تقبلنا حقيقة أن أي جسم ماكروسكوبي مكون من جسيمات أولية كالذرات والجزيئات والالكترونات الخ ، فلماذا لا يتصرف هذا الجسم بنفس غرابة تصرف الجسيمات مادون الذرية في الفيزياء الكمومية أو الكوانتية؟ ففي أية حدود يتوقف الجسم على أن يكون ماكروسكوبي ويدخل في الحيز الميكروسكوبي؟ لم يكن بور يمتلك إجابة على هذا التساؤل والحدود كانت غامضة آنذاك. ولقد قدمت نظرية اللاتماسك أو اللاترابط المنطقي théorie de la décohérence التي اكتشفت في سنوات السبعينات من القرن الماضي إجابة أولية على هذا التساؤل عندما أدخلت عامل المحيط لتفسير غياب التفاعل الكمومي أو الكوانتي l’inexistence d’interférence quantique من نوع قطة شرودينغر على مستوى الأشياء أو الأجسام الماكروسكوبية وبالرغم من النجاحات في مجال التوقعات والتكهنات إلا أن تفسير كوبنهاغن تعرض للنقد الشديد من قبل آينشتين وشرودينغر ذاته مع ان هذا الأخير هو من الإباء المؤسسين للفيزياء الكمومية أو الكوانتية. وذلك بسبب مقاربته الاحتمالية approche probabiliste    ولأنه لم يتبن أطروحة الطعن بالواقع الفيزيائي المستقل عن الراصد أو المراقب وتأثير هذا الأخير في دقة نتائج عملية القياس أو الرصد. وبالرغم من النقاشات الحادة لم يتفق العالمان آينشتين وبور بهذا الخصوص. منذ خمسينات القرن المنصرم خرجت تفسيرات أخرى من أشهرها تفسير العالم الفيزيائي دافيد بوم David Bohm الذي استخدم تفسير موجات المادة الذي اقترحه العالم الفرنسي لوي دي بروجلي Louis de Broglie سنة 1924 وقام دافيد بوم في نظريته بعملية تصالح بين الموجات والجزئيات اللتين يفصل بينهما مبدأ التكاملية في تفسير أو مدرسة كوبنهاغن . ففي رؤية بوم تكون الموجة عبارة عن موجة قائدة onde pilote وتتواجد او تتعايش في الفضاء مع الجزيء وتوجهه في مساره. والشيء المفهومي الجديد في هذا التفسير هو أن الموجة وموضع الجزيء يكتسبان واقعاً فيزيائياً réalité physique بالمعنى الكلاسيكي للمصطلح. ومن هنا فإن مسار الجزيء المتأثر بحقل حقيقي خلقته الموجة، يمكن مراقبته أو رصده، وبالتالي فإن المسارات لن تكون مستقيمة rectilignes بل يمكن أن يتقوس أو تنبعج s’incurver وبذلك تمكن بوم من تفسير ظواهر التفاعل الكمومية أو الكوانتية من نوع شقي يونغ fentes de Young التي سنتحدث عنها لاحقاً ايضاً. ولو تفاعلت موجات المادة فبالمقابل ستقوم بتعديل مسارات الجزيئات لكي ترسم شكلاً للتفاعل يظهر على شاشة الرصد والمراقبة والقياس. ومن مزايا تفسير بوم أنه أضفى طابعاً كلاسيكياً للظواهر الكمومية أو الكوانتية، بالرغم من خلقها لصعوبات في التعامل مع بعض المشاكل المرتبطة بنسبية آينشتين. اهتمت تفسيرات أخرى بتعديل معادلة شرودينغر لإدخال صيغة تكون مسؤولة عن انهيار دالة الموجة لكنها في نفس الوقت أدخلت سيرورات عشوائية خلقت مشاكل رياضياتية جديدة. وهناك من بين التفسيرات العديدة تفسير إيفريت Everett الذي قدمه سنة 1957 وحمل إسم نظرية العوالم المتعددة théorie des mondes multiples التي سنتناولها في الحلقات القادمة، فايفريت لايهتم بالتكاملية في مسلمة القياس مع معادلة شرودينغر بل يلغيها كلياً, فحسب نظريته، إن جميع النتائج الممكنة لقياس معطى معين تنتج بالفعل ويجب أن تؤخذ بالاعتبار ، وبالمقابل، وفي الشجرة الواقعية لكافة النتائج الممكنة للقياس، فإن ذاكرة المراقب أو الراصد، لا تحتفظ سوى بغصن واحد من هذه الشجرة، وهو الغصن الذي ينتمي للعالم الذي يعيه. أما باقي الأغصان فتنتمي حسب ايفريت، لعوالم أخرى، لايمكننا معرفتها أو إدراكها ناهيك عن الولوج إليها، ففي مثال قطة شوردينغر، فهي بالفعل حية وميتة في آن واحد ولكن في عالمين مختلفين ومتميزين عن بعضهما ومتوازيين ، وهو التفسير الذي بات مقبولا من قبل الكثير من علماء الكوزمولوجيا المعاصرين لأنه يقدم لهم تفسيرات ملموسة.

    جواد بشارة
    jawadbashara@yahoo.fr
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media