لا عودة لحكومات الانقلابات
    الأحد 19 أكتوبر / تشرين الأول 2014 - 16:15
    حميد الموسوي
    سلك العراقيون طريقا حضاريا في العملية السياسية بعد التغيير. ألا وهو جعل الحوار الوسيلة الوحيدة لفض النزاعات السياسية، وإنهاء الخلافات الجانبية. وهذه الحالة لم تكن معروفة في الحقب الماضية من تاريخ العراق الدامي، كما انها لم تمارس في وطننا العربي الكبير من أدناه الى أقصاه.
    ومع أن العراق يدشن العملية السياسية الديمقراطية لأول مرة في تاريخه، وتجربة المسؤولين من زعمائه السياسيين جديدة في هذا المجال، إلا أنهم أثبتوا بحكمتهم وثقافتهم الواسعة مواقفا متميزة جاعلين من الحوار بناء رصينا يفضي الى الاتفاق وفي أحلك الظروف. ونجحوا نجاحا باهرا خلال عدة تجارب انتخابية ودستورية، وتجاوزوا وفاقوا -بهذه الممارسة- جميع انواع الديمقراطيات في المنطقة وخارجها والتي سيطر فيها العنف والاحتراب بمختلف وسائله سواءا على المرشحين أو الناخبين مع طول تجاربهم وامتداد عمرها. وهذا ما يجعل المواطن العراقي يطمئن لمستقبل الأجيال القادمة وهو يرى هذا التأسيس الذي وضع لبناته العراقيون بمختلف شرائحهم وطوائفهم فاستقام شامخا.
    إن اتساع ساحة الحوارات السياسية لتشكيل حكومة وطنية تشترك فيها كافة الأطراف، وحرص معظم الكتل السياسية العراقية على إبداء آرائها وطرح أفكارها بكل صدق وصراحة مبتعدة على اسلوب النفاق السياسي ومناوراته، ومتجنبة التجاوز على ثوابت أي طرف من الأطراف، هو دليل واضح على نجاح التجربة العراقية الجديدة وسيرها في الطريق السليم الذي تبنته الحركات السياسية.
    فالذي كان مالوفا في منطقتنا، ومصاحبا لكل عملية سياسية هو الخلافات التي كثيرا ما كانت تفضي الى الصرعات الجانبية بين الأطراف المتنافسة في الانتخابات. وفي الغالب يتحول هذا الصراع الى نزاع دموي وتصفيات متبادلة.
    إن الحركات السياسية العراقية التي عاصرت الكثير من التجارب على مستوى المنطقة والمحيط الإقليمي والعالم، رأت أن مستقبل العراق يخص كل أبنائه ولذا لا يجوز أن يستبعد أي مكون سياسي أو شريحة اجتماعية من الإسهام في بناء هذا الوطن. لذا فأن التشكيلة الوزارية ليست هي نهاية المطاف، فعدم حصول هذا المكون السياسي أو ذاك على حقيبة وزارية لا تعني فقدان مركزه كمعارضة برلمانية بل على العكس تماما فسيحصل على فرص واسعة لمراقبة اداء الحكومة وتأشير وتصويب اخفاقاتها من خلال البرلمان الذي هو أساس العمل في كل مرافق الدولة. ومن هنا يثبت بطلان أية شروط من خارج مجلس النواب الذي سيضم كافة ممثلي شرائح المجتمع العراقي بكل أطيافه لأن زمن الابتزاز السياسي قد قبر الى غير رجعة. كما أن المقاطعة لا تجدي نفعا طالما توفرت وسائل الحوار السياسي الحضارية وآمن بها الجميع. فالوضع في العراق وظرفه الحرج يفرض ويحتم على جميع العاملين في الحقل السياسي مبدأ الحوار حتى نهاية المطاف، والنظرة الموضوعية للوضع الراهن الشائك في العراق حتى لا تزداد حراجة الأمور وتتعقد الأوضاع وتزداد سوءا. فالوطن ليس بحال يحتمل المناورات، لما يحيطه من خطر إرهابي بستهدف تجربته الرائدة، وهذا الخطر لا يستثني أحدا ولن يكون بمنجاة من شره المستطير أحد.
    ولم تعد في المرحلة الراهنة فرص لاضاعتها في جدل عقيم فالجميع مدعوون لإعادة بناء العراق الذي جره الى التخلف تسلط عصابات الانقلابات وحكومات العوائل وجثومها على صدر هذا الشعب الصابر عقودا سودا وأعقبهم التكفيريون الإرهابيون ليأتوا على ما تبقى من بنيته التحتية ويمعنوا بشعبه المظلوم ذبحا وتقتيلا.
    إن نهج الحوار سيظل مبدأ مقدسا تتبناه كل الكتل السياسية العراقية، ويفخر به قادة هذا الشعب لايمانهم المطلق إن النهج الفعال لحل المشاكل وفض النزاعات بعيدا عن أساليب القهر والتعسف وضغائن الايديولوجيات المختلفة. وكون هذا الاسلوب صار سمة عصرية ملائمة وملبية لحاجات الانسان ورغباته، ومنحى فكريا متطورا خاصة بعد فشل الممارسات الدكتاتورية وآلياتها المتخلفة بمعالجة الأزمات المحلية وحل المشاكل الدولية. وكيف أن تلك الممارسات قد أسهمت في تفتيت وحدة الشعب وظهور مجاميع متطرفة لا تجيد سوى القتل والتدمير والغاء الآخر بغية الوصول الى مآربها الشخصية واستيلائها على السلطة بالحديد والنار حيث استعانت بالمجرمين من القتلة واللصوص والمتشردين لتنفيذ مخططاتها بعد اغرائهم بالأموال والسلاح. فاتسعت على إثر ذلك دائرة الإرهاب والعنف وصارت لهذه المجاميع قيادات ودوائر وفروع في دول متعددة واستفحل أمرها حتى صارت خطرا -في أحيان كثيرة- على الذين زرعوا بذورها ومولوها.
    إن المجتمعات التي لا تتعامل بالحوار، ولا تجيد لغة التفاهم وثقافة الاختلاف تظل بمعزل عن معطيات الحضارة الحديثة، وبعيدة عن مفاهيم التنوع والتغاير والتفاوت والتعددية. وتظل دائرة في فلك الدكتاتورية تحت تسلط حكومات العوائل والانقلابات.
    من الطبيعي أن كل الحركات السياسية ترى أفكارها وبرامجها السياسية هي الأقرب الى الواقع العملي لاحتياجات وتطلعات قواعدها الشعبية خلال هذه المرحلة. وهي الوحيدة القادرة على إيصال كل التطلعات والآمال الى درجة التحقيق العملي على أرؤض الواقع، ومن الطبيعي أيضا أن تشعر هذه الأحزاب والحركات بأنها الأصدق والأقرب الى تحقيق الشعارات المطروحة على الساحة السياسية، وتصر على أن شعاراتها هي أصدق الشعارات وأكملها. ولكن ليس من الإنصاف ولا الحق أو المنطق أن تتجاهل هذه الأحزاب والحركات الحلقة الأهم في سلسلة الربط السياسي في نسيج أي مجتمع متحضر ألا وهي لغة الحوار البناء بروح وطنية صادقة يجمعها قاسم مشترك مقدس اسمه العراق. إذ أن تجاهل أو إضعاف هذه الحلقة سيؤدي الى انفراط عقد هذا الطيف الجميل وتتناثر حباته معلنة بداية التطرف السياسي وترك العمل السلمي وانتهاءا بالعنف والأعمال المسلحة التي لا تبقي ولا تذر. فالحوارات الجادة المخلصة تبعدنا عن الطرق المتشددة والتعصب اللاواعي والتصرف غير المسؤول. وتخلق أجواء من التآلف والتفاهم تصب في مصلحة بناء هذا الوطن الجريح وشعبه الصابر. إن حصر الاخلاص في جهة أو كتلة أو تنظيم معين، أو قياس هذا الاخلاص بالتزام آراء وتبني منطلقات ومواقف متفردة وغير منفتحة على الآخرين أو التفاعل مع آرائهم يخلق حالة من التوتر والحساسية المفرطة بين الجميع ويبقى الباب مشرعا للقوى التدميرية والنفعية والوصولية الانتهازية لتحقيق مآربها وأهدافها الموبؤة. لذا فالواجب يحتم على الأطياف السياسية بكل اتجاهاتها وأفكارها أن تضبط توازنها بخط وطني حقيقي مخلص لاغية عن نفوسها نزعة الأنانية الضيقة، واضعة مصلحة الوطن فوق كل اعتبار.
    صحيح أن العراق نفض عن جسده غبارا كثيفا من تراكمات العهود الدكتاتورية المقبورة معلنا بداية عهد ديمقراطي تعددي. ولكن من الطبيعي أن تشهد هذه البداية تجاذبات وموازنات سياسية مختلفة ريثما يتم إزالة الإرث السلبي لتلك الحقب التي امتدت عهودا طويلة.
    نفس هذا العراق الذي ظل محكوما بسلطة الانقلابات والحزب الواحد، تشترك الآن في إدارته أحزاب وقوى سياسية متعددة تنتمي الى مذاهب فكرية وعرقية وأثنية شتى تتحرك جميعها تحت عنوان استوعبها رغم الخلافات وتعدد الانتماءات. على أن هذا الانجاز الرائع لم يتآتى من فراغ بل كان خلاصة تمازج وانصهار إرادات وأفكار وتضحيات تضاءلت أمامها العقبات والمصاعب قادتها حركات سياسية عملت وفق آليات متحضرة لدعم المسيرة الجديدة حتى جاء انجازها مذهلا لجميع شعوب العالم أخرج العراق من عزلة سياسية ومحلية وإقليمية وجعله مثالا وقدوة لشعوب المنطقة. كما أن هذه الخطوات المتسارعة في بناء الديمقراطية جاءت هي الأخرى من خبرة عراقية صنعها الشعب بكل أطيافه بعد ما تنسم أريج الحرية وقرر بناء دولته الدستورية والتي على نهجها ستحدد المسارات الأساسية للمراحل المقبلة وللفترة التي ستمتد لأربع سنوات ووفق هذا التصور وعلى هدى هذا المسار لن تكون هناك أطراف خاسرة باعتبار أن النتيجة جاءت خلاصة لجهود الجميع، وإن المسلة عليها بصمات الجميع، وأن النسيج لحمته وسداه الجميع فالكل رابحون طالما ولت لغة الخناجر والحراب والرصاص الى غير رجعة.
    وعودة على بدء فالذي لا يختلف عليه اثنان، ولا يرقى اليه شك أن الذي تحقق في العراق من إنجاز -خلال فترة قياسية في زمن الشعوب، وفي ظل أحلك ظرف وأعتى هجمة بربرية عرفها شعب من شعوب العالم على مر التاريخ الإنساني- ما كان ليتحقق لولا سياسة الحوار والنفس الطويل التي انتجتها الحركات السياسية العراقية بكل فصائلها ولغة التوافق والائتلاف والتفاهم التي طبعت مسيرتها وصارت علامة فارقة وسمة بارزة في تاريخها النضالي تفخر به قواعدها الجماهيرية على مر العصور.
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media