حوار الدواء!
    الأثنين 20 أكتوبر / تشرين الأول 2014 - 07:55
    د. مظهر محمد صالح
    تسلمت السيدة المتبضعة علبة دوائها من صاحب الصيدلية وهي لا تزال تواصل حوارها الدافئ ببساطة وهدوء معه كي تتعرف على الفرق الدوائي بين علب الدواء التي تحمل علامات الصنع الاصلية الباهظة الثمن عن سواها التي تحمل علامات تجارية مختلفة منخفضة الثمن!.
    وجدتُ حينها لذة في الاصغاء اليهما في ذلك الحوار العلمي التجاري العابر،  بعد ان اخذت دوافع التحليل الاقتصادي تدب متوقدة  في شراييني وايقظت في نفسي سمة الانجذاب العلمي كأنها كُرات لهب تزاحمت في عروق دمي وهي تبحث عن اسرار عالم الدواء المنطوي .
    شعرت وقتها بحرارة الحديث بعد ان لاح الاهتمام البارد في عيني تلك السيدة وهي تغادر المكان حاملة دواءها. وعلى الرغم من انني لم المس انفعال السيدة التي استثارت اهتمام صاحب الصيدلية الذي ظل يردد في نفسه بعض عباراته المهنية التي سطرها دستوره الدوائي والمهني، وهو يقول في سره مؤكداً...لا دواء تجاري مزيف لدي ..لا دواء تجاري مزيف لدي!
    هنا نظرت الى رجل الصيدلية لكي اتولى دوري في الشراء وانا لا ازال اتطلع  الى ملامح وجهه التي اصابتها السكينة وكأنها قناع نسخه الحياء ليستر به تساؤلات الزبائن المشوشة حول مشكلات الدواء التجاري والادوية المزيفة منها. حصلت على ادويتي بيسر، في حين ظل رجل الصيدلية متردداً في ايضاح شيء ما عن  اسرار الصناعة الدوائية والبوح بها، كأنها زوبعة في صدره اراد ان يطلقها بحماسة الى بقية زبائنه ولكنها امست صامتة تهاب البوح بسرها! وانطفأت بهدوء دون ان تبقى فريسة للحيرة حينما غادرتُ المكان تماماً!!  
    ادهشتني الاخبارالمحيطة بجائزة نوبل خلال الايام الماضية والتي كان من بينها حصول استاذ الاقتصاد جان تيرول من جامعة تولوز الفرنسية على جائزة نوبل في الاقتصاد للعام 2014، أذ عُد تيرول من اعمق من كتب في قضية اثر الضوابط الناظمة المفروضة على عمل الاسواق غير المكتملة في تنافسيتها وكيف تصبح تلك الاسواق في وضع تنافسي امثل وتؤدي بمنتجاتها الى الابتياع  باسعار منخفضة ولكن بنوعية عالية.
    استخدم جين تيرول نماذج رياضية مكثفة في تحقيق نظريته آنفاً، فقد ذكرني حصول تيرول على جائزته حول نظريته بشأن الاسواق غير المكتملة في تنافسيتها، بآليات عمل سوق الدواء، فالشركات المصنعة للادوية ذات العلامات الاصلية والتي تقوم بتطوير الدواء بنفسها تمتلك (الحق الحصري) لانتاج وبيع الدواء من دون منافس لمدة اقصاها 20 عاما، وذلك من تاريخ تقديم طلب الحصول على مصادقة السلطات الرسمية الناظمة لحق استعمال  براءة الاختراع، ولكون الوكالة الاميركية للاغذية والادوية على سبيل المثال هي الجهة الناظمة في منح اجازة استخدام براءة اختراع الدواء، حيث يستغرق حق منح الاجازة المذكورة مدة يصل متوسطها الى ثمان سنوات، لذا فان الحق الحصري في انتاج وتداول الدواء من تاريخ المصادقة قد يستغرق 12عاما.
    ويلاحظ ان الهدف في منح شركات الدواء (الحق الحصري) في استعمال براءة الاختراع ، هو لتشجيعها على المزيد من عمليات البحث والتطوير وعلى نحو يقود الى صنع ادوية جديدة تعظم من رفاهية المجتمع!، ففي ظل الحماية الطويلة المتوافرة لبراءات اختراع الادوية ذات العلامات الاصلية، تطلب الشركات المنتجة للدواء اسعارا اضافية تزيد على متوسط تكاليف الانتاج وهو امر يعزز الربح على ادويتها المنتجة ذات العلامات الاصلية المسجلة، إذ يتوزع الربح على تغطية تكاليف البحث والتطوير السابقة والمتبقي من الربح يساعد على إجراء المزيد من البحث والتطوير على الادوية الجديدة.
    ولكن يلاحظ انه بانتهاء (الحق الحصري) يمكن لأية شركة دواء اُخرى انتاج وبيع الدواء المماثل ولكن بعلامات مختلفة والذي يطلق عليها بـ(الدواء التجاريGeneric) وهي بالتأكيد ادوية تحمل المواصفات الكيميائية نفسها التي جاءت بها براءة الاختراع المعنية بإنتاج الدواء الاصلي، وبهذا تعد الادوية التجارية المنافس الفعلي للدواء الاصلي المنتج  وتباع بأسعار منخفضة مقارنة بالادوية ذات البراءات الاصلية، اذ تشير حركة اسواق الدواء في العالم الى ان الادوية التجارية تنخفض اسعارها بنسبة 30-40 بالمئة عن اسعار الادوية الاصلية، وهو الامر الذي جعل مشاريع التأمين الصحي في العالم تلجأ الى صرف وصفاتها بالدواء التجاري الارخص ثمناً، وتغطي الادوية التجارية اليوم ما نسبته 42 بالمئة من الوصفات التي تبتاعها الصيدليات في مختلف البلدان.
    ختاما، فانه على الرغم من ان حقوق الملكية الفكرية لا تزال تخضع الى الفحص والرقابة وتوفير الحماية لها ولاسيما براءات اختراع الدواء في كل مكان من العالم، فإن المخاوف من انتاج الادوية الرخيصة المزيفة  وغير المؤثرة او التي تحمل آثاراً صحية ضارة، ستظل التحدي الاكبر لفلسفة جان تيرول في ربطه بين انخفاض الاسعار وارتفاع نوعية المنتوج في الاسواق (غير المكتملة) من جهة وتوافر دور فاعل للضوابط الناظمة والضابطة لحركة السوق من جهة اُخرى حتى تكتمل عند تيرول نواقص السوق وتبلغ امثليتها في السعر المنخفض والنوع العالي المرتفع!.

    "الصباح"
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media