أحداث في ذاكرتي -4-
    الجمعة 31 أكتوبر / تشرين الأول 2014 - 00:07
    حامد الحمداني
    وثبة كانون الثاني المجيدة عام 1948
     وبداية نشاطي الوطني
    كانت الخسارة كبيرة بفقد مرشدي شفيق، لكن ما غرسه فيَّ من حب للوطن، وكره للاستعمار شجعني كثيراً على السير على خطاه، فكانت توجيهاته الوطنية تسيطر على أفكاري وأنا صبي يافع، وجاءت وثبة كانون الثاني الوطنية الكبرى عام 1948 احتجاجاً على عقد حكومة صالح جبرـ نوري السعيد[معاهدة بورتسموث] الاسترقاقية مع بريطانيا، وتآمر السلطة الملكية الحاكمة مع الإمبريالية البريطانية والأمريكية على مصير فلسطين، وإقامة الكيان الصهيوني فيها، وتشريد سكانها العرب من ديارهم.

     جاءت هذه الوثبة الجبارة لتنفس ما في صدورنا من كراهية  للاستعمار البريطاني المهيمن على معظم البلاد العربية، وعلى السلطة العراقية الحاكمة الخادمة المطيعة للمستعمرين، والمنفذة لمشاريعهم الاستعمارية، والحامية لمصالحهم.

     وهكذا وجدت نفسي لأول مرة في حياتي أنغمر في العمل الوطني، وأشارك أبناء الشعب في المظاهرات العارمة التي اجتاحت مدينة الموصل، وكان لي شرف قيادة المظاهرات التي انطلقت من الثانوية الشرقية بالتعاون مع زميلين لي هما الأخ [سامي محمود النائب] والأخ [ سامي إبراهيم الجلبي ]، وبسبب الدور البارز الذي لعبته في تلك المظاهرات أطلق عليَّ طلاب الثانوية لقب [حامد الوطني]، وهو اسم كنت افخر به دائماً، وأصبحت معروفاً بين سائرأخواني الطلاب به.

      كانت المظاهرات تتوسع كلما سارت في الشوارع، وأصبحت من  الضخامة بحيث أعجزت شرطة السلطة عن قمعها، في تلك الأيام اتخذنا قراراً، نحن الطلاب بالإضراب عن الدراسة والاعتصام في الإعدادية المركزية لحين سقوط وزارة صالح جبرـ نوري السعيد، واستطاعت المظاهرات العارمة التي عمت بغداد وسائر المدن الأخرى السيطرة على الشارع العراقي بعد مصادمات عنيفة مع قوات الشرطة التي ولت هاربة تاركة الميدان للشعب، واضطرت الحكومة إلى الاستقالة، وهروب نوري السعيد وصالح جبر إلى خارج العراق خوفاً من غضب الجماهير، واضطر الوصي [عبد الإله ] إلى الإعلان من دار الإذاعة في خطاب له عن التراجع عن المعاهدة، وإقالة الوزارة، وتعيين الشيخ [ محمد الصدر] رئيس مجلس الأعيان رئيساً للوزراء، حيث تم تشكيل وزارة تهدئة قامت بإطلاق سراح المعتقلين، وأعلنت رفضها لمعاهدة [بورتسموث]، وحلت البرلمان، وأجرت انتخابات جديدة.
     لكن تلك الانتخابات جرت تحت ظل الأحكام العرفية، لكي تأتي بمجلس نيابي من نفس أعضاء الفئة الحاكمة، وأعلن رئيس الوزراء عن عزم الحكومة الجديدة على إنقاذ فلسطين!، وإرسال الجيش العراقي ليساهم مع بقية الجيوش العربية من أجل تحرير فلسطين من أيدي العصابات الصهيونية التي مكنتها قوات الاحتلال البريطاني المنسحبة من السيطرة على أجزاء كبيرة من البلاد.

    كما صدر قرار من هيئة الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين بين العرب واليهود الغرباء الذين جاءوا من كل حدب وصوب، ليحتلوا بيوت وأراضي وأملاك سكانها العرب الذين أصبحوا لاجئين بلا مأوى، مشردين في مختلف البلدان العربية، بعد أن فقدوا كل شيء، وكان أملهم في الحكام العرب وجيوشهم  ليعيدوهم إلى وطنهم وأملاكهم وبيوتهم!!.

     لكن الحكام العرب الذين كانوا أداة طيعة بيد الإمبرياليين الإنكليز والأمريكيين غير جادين مطلقاً في تصديهم للعصابات الصهيونية، حيث لم يكن إرسال الجيوش العربية إلى فلسطين سوى مسرحية أخرجها الإمبرياليون، ومثلها الحكام العرب، فلا يُعقل أبداً أن تكون عدة جيوش عربية منظمة ومسلحة غير قادرة على منازلة ودحر مجموعة من العصابات الصهيونية المسلحة.

    فقد أعطيت قيادة الجيوش العربية في الجبهة الشمالية للجنرال البريطاني [ كلوب باشا] الذي كان قائداً لجيش دويلة [ شرق الأردن]، والتي نصّبَ البريطانيون الأمير عبد الله بن الحسين ملكاً عليها، وقد عُرف الملك بعلاقاته الوثيقة بقادة المنظمات الصهيونية من جهة، وولائه المطلق لحكومة بريطانيا من جهة أخرى، وهو الذي حال بين الجيشين العراقي والسوري وبين القضاء على المنظمات الصهيونية، وقد شاعت في تلك الأيام مقولة [ ماكو أوامر]،أي لا يوجد أوامر بالتقدم، ومهاجمة تلك العصابات الصهيونية.

    في حين كان الجيش المصري في الجبهة الجنوبية قد جرى تجهيزه من قبل البريطانيين بالأسلحة الفاسدة، وانتشرت تلك الفضيحة في سائر العالم العربي، وبذلك استطاعت العصابات الصهيونية المسلحة تطويق الجيش المصري، وإيقاع الخسائر الجسيمة في صفوفه.

    حاول قادة القوات العراقية في الجبهة الشمالية الزحف نحو الجنوب، من أجل فك الحصار الصهيوني عن قوات الجيش المصري المطوقة، لكن القيادة الأردنية المتمثلة بالملك عبد الله، وقائد جيشه كلوب باشا رفضت السماح للجيش العراقي بالعبور نحو الجبهة الجنوبية، حيث استمر الجيش المصري المطوق يجابه نيران العصابات الصهيونية التي كانت تبغي سحقه، وهو بانتظار الدعم والإسناد من أشقائه!!.

    أحدثت تلك الحرب الكارثية خيبة أمل كبير لدى سائر الضباط الوطنيين في الجيوش العربية، وحنقهم على الحكام العرب، وخيانتهم المفضوحة لشعوبهم ولجيوشهم إرضاءً للمستعمرين البريطانيين، فقد كانوا أدوات طيّعة بيدهم، ومنفذين لأوامرهم.
    لقد كانت تلك الكارثة التي حلت بالجيوش العربية، واحتلال العصابات الصهيونية للجزء الأكبر من فلسطين، وتشريد أهلها، بعد تلك المجازر الوحشية البشعة التي ارتكبتها هذه العصابات ضد المواطنين الفلسطينيين، قد أثارت النقمة في نفوس أولئك الضباط. وكان الزعيم عبد الكريم قاسم أحد قادة أفواجها، وشجعتهم على التفكير منذ ُ ذلك الحين في تشكيل حركات ثورية داخل القوات المسلحة في البلدان العربية من أجل التخلص من تلك الأنظمة الفاسدة والعميلة للمستعمرين، فكانت ثورة 23 تموز في مصر عام 1952  وثورة 14 تموز 1958 في العراق بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم، والانقلابات العسكرية المتتالية في سوريا، وسأتناول تلك المرحلة بشئ من التفصيل فيما بعد.
     
    الإنتماء إلى الحزب الشيوعي
    لم تكد السلطة الحاكمة تستعيد سيطرتها على الأوضاع في البلاد، ويعود نوري السعيد إلى الحكم من جديد، حتى بادر إلى شن حملة شعواء على القوى الوطنية، وبصورة خاصة الحزب الشيوعي، حيث أقدم على إعدام قادته يوسف سلمان [ فهد ] وزكي بسيم [ حازم ] ومحمد حسين الشبيبي [صارم ] مما سبب ذلك العمل الشنيع استياءاً شديداً، وموجة احتجاجات عارمة لدى أبناء الشعب، وكان المثقفون يتحدثون بشكل علني عن تلك الجريمة النكراء التي استهدف منها النظام إخافة الشعب العراقي والعمل على تدجينه بعد تلك الوثبة التي كادت أن تسقط النظام الملكي.

    في تلك الأيام تعرفت على بعض الأصدقاء الطلاب ممن كانت لهم علاقة بالحزب الشيوعي، أذكر من بينهم الأخ [خليل عبد العزيز]، الذي كان على علاقة مع أقربائي وأصدقائي الأعزاء [عوني يونس الدباغ ] و[زهير رشيد الدباغ ] و[نجيب نجم الدين]، وكنت آنذاك لا اعرف شيئاً عن الماركسية والشيوعية، حيث بدأت أطالع العديد من الكتب الماركسية والتقدمية التي قربتني أكثر فأكثر من الحزب، ولم يمضي زمن طويل حتى انتميت للحزب في عام 1950، وتم منحي الاسم الحزبي  [ناهض]، والذي سميت ولدي فيما بعد بهذا الاسم اعتزازاً به، وكان ذلك التاريخ نقطة تحول في حياتي، وبداية للمصاعب والمعانات التي جابهتني من فصل وسجن وتعذيب واغتراب.

    بدأت حياتي الحزبية بنشاط كبير ساعدني في ذلك سمعتي الوطنية الطيبة التي اكتسبتها إبان وثبة كانون الثاني المجيدة، وقيادتي للمظاهرات التي انطلقت من الثانوية الشرقية من جهة، وكوني غير مكشوف أمام السلطات الأمنية، واستطعت كسب العديد من زملائي الطلاب إلى صفوف الحزب الذي كان في تلك الأيام يلعب الدور الأكبر بين سائر الأحزاب السياسية العاملة على الساحة العراقية، والمتمثلة بالحزب الوطني الديمقراطي بزعامة الشخصية الوطنية البارزة السيد [كامل الجادرجي]، وحزب الاستقلال ذو التوجه القومي بزعامة السيد [محمد مهدي كبة]، ومن رحم هذا الحزب نشأ حزب البعث، لكن منتسبيه في الموصل كانوا يعدون على أصابع اليد أذكر منهم عبد الغفار الصائغ و حكمت البزاز.

    كنا نحن الشيوعيون قريبين جداً من سياسة الحزب الوطني الديمقراطي الذي كان يضم العناصر الوطنية الديمقراطية، وفي مقدمتهم السادة [محمد حديد] و[ عبد الغني الملاح ] و [إسحاق بيثون]، ولكون الحزب الشيوعي حزباً غير مجاز قانوناً، فلم يكن لديه مقراً يلتقي فيه رفاق الحزب، وكنا نزور مقر الحزب الوطني الديمقراطي باستمرار، حيث جمعتنا بأعضاء الحزب علاقات حميمة، وكانت السلطات الأمنية تراقب عن كثب الداخلين في مقر الحزب والخارجين منه، وكثيراً ما تعرض مقر الحزب للمضايقات وحتى الإغلاق.
     أما حزب الاستقلال فقد كان يضم العناصر الغنية والإقطاعية من العوائل الموصلية، والذين لا يرتاحون لنشاط الشيوعيين، بل لقد وقفوا ضدهم إبان وثبة كانون المجيدة.

    أما البعثيون فلم يكن لهم إي دور فاعل في الشارع السياسي العراقي بسبب ضعف تنظيمهم، وكانوا يدعمون مواقف حزب الاستقلال القومي. وعلى الرغم من كون حزب الاستقلال كان معارضاً للسلطة الحاكمة آنذاك، لكن الأجهزة الأمنية لم تكن تنظر إليه نظرتها للحزب الوطني الديمقراطي، ولم تكن الحكومات المتعاقبة على سدة الحكم تخشى من هذا الحزب، ولا تطارد أعضائه.

    لقد سعى الحزب الشيوعي باستمرار إلى التقرب من الأحزاب الوطنية المعارضة لجمع شملها، والدعوة لقيام جبهة وطنية تستطيع التأثير على مجريات الوضع السياسي في البلاد، وخوض الانتخابات ضد مرشحي البلاط والحكومة.
    وبالفعل استطاع قادة الحزب الشيوعي والحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال توحيد جهودهم بتشكيل جبهة وطنية لخوض الانتخابات عام 1954 واستطاعت على الرغم من كل محاولات السلطة لتزييف الانتخابات تحقيق نجاحات أذهلت الفئة الحاكمة آنذاك، حيث لم يستطع أي مرشح من جانب السلطة الفوز في الانتخابات في الموصل، وفاز مرشحي الجبهة الوطنية بالمقاعد النيابية الخمسة المخصصة للمحافظة، وسأتناول تلك الانتخابات بالتفصيل فيما بعد.

    1. أحداث في ذاكرتي -1- - حامد الحمداني
      24/10/2014 - 12:29 مقالات
    2. أحداث في ذاكرتي -2- - حامد الحمداني
      26/10/2014 - 14:36 مقالات
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media