من أرشيف الحركة الملاحية في شط العرب .. الشيخ كاظم بن الحاج علي العضاض وشركة اندرويرز
    الأثنين 24 نوفمبر / تشرين الثاني 2014 - 15:29
    كاظم فنجان الحمامي
    بداية لابد من التعرف على شركة اندرويرز قبل التعمق في قراءة السجل التجاري للشيخ كاظم بن علي العضاض. تعد هذه الشركة من الشركات الملاحية الأجنبية التي تأسست في البصرة عام 1905، في الزمن الذي كانت فيه البصرة مدينة مينائية وتجارية وزراعية وصناعية بالمواصفات العالمية النموذجية. كانت شركة اندرويرز متخصصة بتجارة الحبوب والتمور والأقمشة، ولها خطوطها الملاحية المترددة بين الموانئ الأوربية وميناء البصرة بواسطة سفنها البخارية الكبيرة. ثم توسعت هذه الشركة في نشاطاتها التجارية مع موانئ الشرق الأوسط، وتشعبت في استيراد المعدات والأدوات والمحركات، واستحوذت على محاور التسويق المحلي داخل العراق والمدن الخليجية، وهي بجانب هذا تتاجر بالمنتجات الزراعية العراقية، وبخاصة منتجات التمور التي امتلكت حق احتكارها لسنوات، ويُقال أنها كانت تشتري التمور بأسعار طيبة، وأوجدت لها أسواقاً عالمية كثيرة، فلعبت دوراً كبيراً في تخفيف أعباء مشكلة تصدير التمور التي كانت تشكل عقبة كأداء بوجه التجارة الوطنية.
    الشيخ كاظم بن الحاج علي العضاض
    من محاسن هذه الشركة الأجنبية أنها كانت تتعامل بمرونة تامة مع العراقيين الراغبين بخوض غمار التصدير والإستيراد، فكانت تقدم لهم التسهيلات السخية، وتذلل أمامهم المصاعب، وصادف أن تعرف عليها الشيخ كاظم العضاض عن طريق أصدقائه في البصرة، فباشر في خمسينيات القرن الماضي بتصدير التمور من بساتين آل العضاض، التي كانت تشغل الأراضي الخصبة في شمال وجنوب مدينة (الناصرية) وعلى ضفاف نهر الفرات، ولعله كان أول من أدخل العنصر النسائي في معامل تصنيف التمور وتعبئتها، كانت النسوة اللواتي يعملن معه يرتدين الزي الموحد، ويلبسن الكفوف الشمعية، ويعتمرن الأغطية البيضاء في مظهر متناسق. في الوقت الذي كانت فيه النظافة هي الميزة التي انفردت بها معامل الشيخ كاظم العضاض. لكنه لم يستمر طويلاً في هذا المضمار لأسباب تعزا إلى مرضه المفاجئ وانتقاله إلى لبنان، وربما تعزا إلى تدهور الظروف السياسية، وما رافقها من شغب ومواجهات بين القوى السياسية المتفجرة بالعنف، فكانت شوارع مدينة الناصرية وضواحيها مسرحاً للاشتباكات اليومية المتكررة.
    يذكر المؤرخون إحدى المواقف الطريفة لمظاهرة خرجت في تلك الأيام من قرية تدعى (إحتيرش)، قريبة من مركز (سوق الشيوخ). تتألف من مجموعة من الفلاحين المعدمين. لا يفقهون بالسياسة، ولا شأن لهم بالساسة، لكنهم كانوا يرددون أهزوجة شعبية تقول:
    (إحتيرش صارت قطعة من السوفيت إتونَّسْ يالمهداوي إتونَّسْ)
    وهكذا تدنى الإنتاج، وضاع العقل المبدع المدبر، واندحرت الزراعة المحلية، واختفت الصناعة الوطنية، وصارت الفوضى هي العلامة الفارقة لمعظم ممارستنا اليومية، التي ظلت تنغص علينا حياتنا حتى يومنا هذا.
    وُلد الشيخ كاظم بن علي العضاض في مدينة الناصرية عام 1916، وكان واحداً من خمسة أبناء لرئيس أسرة آل العضاض الكبيرة (المغفور له الشيخ علي بن محمد بن علي بن عبد العزيز العضاض). يعود نسب آل العضاض إلى قبيلة (شمَّر)، وبعض أفخاذهم من عنيزة. لكن المحور الرئيس لأبناء الأسرة يُطلقون عليهم (آل السلام) في حائل، ومنهم فخذ ينتسب إلى عنيزة من ناحية الأب، وهم الذين نزحوا إلى العراق بعد منتصف القرن الثامن عشر بعد صراع غير متكافئ مع الوهابيين بقيادة آل سعود. وكان آل العضاض من محبي آل البيت، كما كانوا متحالفين مع آل السعدون (المالكيين)، الذين نزحوا أيضاً إلى البصرة، حيث أقاموا إمارة برئاسة ناصر باشا السعدون.
    كان انتقال آل العضاض إلى العراق باتجاه النجف أولا. فارتبطوا هناك بعلاقات مصاهرة مع (آل شمسة) و(آل الحبوبي)، وأنشئوا مشاريع زراعية، أهمها كان شق نهر، سُمي بنهر (العضاضة) وهو اليوم من الأنهار المعروفة المشرفة على الجفاف. ثم انتقلوا في المرحلة الثانية إلى مدينة الناصرية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وذلك بالتضامن مع آل السعدون الذين كان لهم شأن كبير في البادية الجنوبية والسهل الجنوبي.
    بدأ الشيخ كاظم العضاض في مدينة الناصرية بتجارة المفرد، وعمل بشتى أنواع السلع. ثم طور نشاطاته بفتح محال لبيع الأقمشة. توجه بعد ذلك لإنشاء ما يسمى بالسِيِف أو (العلوة) لبيع الحنطة والشعير، فتوسعت تجارته عن طريق تصديرها إلى موانئ للبصرة، وتكررت زياراته إلى تلك المدينة المينائية، فتعرف على مضخات الري الكبيرة، فاشترى أول مضخات السقي في منتصف الأربعينات، وكانت هي النواة لتنفيذ أولى مشاريعه الزراعية بين الناصرية وسوق الشيوخ، في مكان لا يبعد كثيراً عن مرقد (سيد خضير). ثم توطدت علاقاته التجارية مع بعض وجهاء البصرة. نذكر منهم عبد السلام الرمضان وعباس العاتي.
    ما يجلب الانتباه أن الراحل (كاظم العضاض) سبق عصره بعشرات العقود، فقد كان يحمل عقلاً متنوراً واعياً. ساعده على تحقيق قفزات نوعية هائلة في المضمار الزراعي والصناعي والتجاري، وكان يتطلع دائماً نحو الآفاق التجارية البعيدة، فتراه يمضي وقته كله عند مقتربات الواجهات المينائية المزدحمة بالسفن المشحونة بشتى أنواع البضائع.
    كان رحمه الله مربياً فاضلا، يسهر على تعليم أولاده. يحرص على إرسالهم إلى أرقى المدارس والمعاهد والكليات العربية والأوربية، فأرسل أبنه (كامل) إلى مدرسة داخلية مشهورة في لبنان. تعلم فيها الفرنسية والانجليزية على أصولها، فكان (كامل) الأول على أقرانه بعد عودته إلى العراق، ثم أصبح أول المتأهلين لإكمال دراسته العليا في المملكة المتحدة.
    ربما يطول بنا الحديث عن انجازات الشيخ كاظم العضاض، الذي شاءت الظروف القاهرة أن يفارق الدنيا في بغداد في خريف عام 1973 بعدما أرهقته الحياة باختباراتها الصعبة، التي اجتازها كلها بنجاح مرموق. مؤزر بالفخر.
    كان الدكتور كامل العضاض أكبر أولاده. وهو من مواليد الناصرية لعام 1942. يعيش حالياً في لبنان، وأبنه الثاني (محمد جواد) يعمل في سلك المحاماة، غادر الدنيا بحادث تصادم مؤسف في قلب بغداد، والابن الثالث هو الدكتور على العضاض، من خيرة القادة السياسيين في العراق، لكنه تعرض للاغتيال في بغداد في عام 2007. أما الابن الأصغر الذي لا يزال في بغداد وأسمه (ليث)، فقد كرس حياته للأدب العربي وكتابة الشعر، ويعاني الآن من بعض المشاكل الصحية. أما ابنته الكبرى فهي (فاطمة) المتوفاة ببغداد عام 2005، وابنته الثانية (رباب) هاجرت إلى أمريكا ملتحقة بابنتها المتزوجة هناك..
    هذه مجرد صورة مشرقة من صور الماضي الجميل ستأخذ طريقها إلى النشر في كتاب كبير يضم كوكبة من الرجال الأفذاذ الذين نهضوا بالعراق قبل هبوب عواصف الألفية الثالثة وديمقراطياتها المشبعة بالظلم.

    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media