كم فرحت بقصيدة سعدي يوسف "عراق العجم"!
    الأربعاء 26 نوفمبر / تشرين الثاني 2014 - 13:33
    د. غسان نعمان ماهر الكنعاني
    باحث عراقي مغترب
    مما يسعدني، فعلاً وليس سخرية، افتضاح حقيقة من جرى التطبيل له عشرات السنين نتيجة "اختطاف" المجتمع الشعري والأدبي العراقي ممن يتصفون بصفتين:
    (1) العلمانية (2) بُغض الشعر العمودي
    أما الأولى – العلمانية – فليست مشكلة إذا لم تحجر على غير العلمانيين حقوقهم في النشر
    وأما الثانية – بغض الشعر العمودي – فليست مشكلة إذا لم تحجر على شعراء القصيدة العمودية حقوقهم...
    ولكن هذا الذي حصل: حجر على هؤلاء وهؤلاء!
    قصيدة سعدي يوسف الأخيرة "مصر العروبة عراق العجم" من أروع الأمثلة على ما أقول، فهي "تلطم" أي وطني عراقي من هذين الصنفين أعلاه على وجهه إذا استمر في السير "خلف كل ناعق" ممن يهللون ويكبرون لمن يصبح "شاعراً كبيراً" حتى وهم في دخيلة أنفسهم لا يجدونه هكذا.
    سيقولون: من أنت كيف تحكم على سعدي يوسف شعرياً؟
    أجيب: لا أحكم لأني لست متخصصاً (بغض النظر عن أني نظمت بعض المقاطع الشعرية أحياناً، وصحيح أني ألفت كتباً دراسية في النقد الأدبي لشعر المتنبي وشعر أحمد شوقي وقصة اللص والكلاب لنجيب محفوظ وقنديل أم هاشم ليحيى حقي)؛ ولكني أوجه النظر إلى الحالة التي لم تزل مستمرة عقوداً من الزمن – فقد ضُرب جميع شعراء العمودية إلا الشاذ النادر الذي كان كبيراً جداً أصلاً كالجواهري (حتى هذا، مؤخراً سلبت منه قناة الشرقية لقب "شاعر العرب الأكبر" ومنحته لعبد الرزاق عبد الواحد! ولكنها الشرقية لم يعد ما يأتي منها عجب!)؛
    ولست ممن يؤيدون توصيف هذه الحالة كما سمعتها من اثنين – كل على حدة – على أنها "مؤامرة على اللغة العربية"، أحدهما منه مباشرة وهو والدي الشاعر المعروف نعمان ماهر الكنعاني رحمه الله، والثانية من على المنبر وهو الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله.
    ولكني أزعم أن "التخفف" من الالتزام بالقافية والوزن اللذين في القصيدة العمودية فتحت الباب أمام "الكرعة وام الشعر" لنظم الشعر، فبدأ أولاً بالشعر الحر ذي الموسيقى الجميلة للسياب ونازك الملائكة وإلى الآن في شعر الصديق أحمد مطر وأمثاله، ثم تحول شيئاً فشيئاً إلى ما سمي بـ "قصيدة النثر"، وهي – حسب رأيي المتواضع – ليست سوى محاولة من الشاعر ذي الملكة الشعرية الجيدة أن لا يتم استبعاده من الجو المشار إليه، كما هي للبعض الآخر – وربما الأكثر – ليست سوى "حيلة" لإقحام "قطعة نثر" في "ديوان الشعر" وذلك لأن ضعيف الملكة الشعرية وجد نفسه يستطيع الخلاص من محنة التعبير عن الأفكار في قالب القافية والوزن لأنه سيطيح ببعض الأفكار أو قوة التعبير عنها لصالح القافية والوزن – وهي مشكلة الشعر العمودي كما تعرفون.
    ومن لا يصدق، فإني أورد إليه قصيدة سعدي أفندي فيما يلي كفقرات نثر وليخبرني إذا كان يشعر بأي شعر يخرج منها!
    بعدها سأعلق على الموضوع الذي أثار غضب الناس المهتمين، وهو (1) وصفه مصر بأنها عربية دون إمكانية السؤال عن ذلك (2) وصفه شيعة العراق بالأعجمية.

    أولاً / هاكم القصيدة حسب حقيقتها النثرية!
    مصرُ العروبةِ... عراقُ العجَم !
    سعدي يوسف

    من مصر تأتيني الحقائقُ ملموسةً. أصدقائي من أهل الثقافةِ الحقّ، يأخذون مكانَهم ومكانتَهم:
    محمد بدوي، في " فصول ".محمد شُعَير، في " عالَم الكتُب ".سعد القرش، في " الهلال ". إبراهيم داود، في " الأهرام ". رفعت سلام، في دائرة الترجمة بالهيأة المصرية العامة للكتاب. أحمد مجاهد، يدير الهيأة المصرية العامة للكتاب... جمال الغيطاني، يتفضّلُ على " الأخبار " بفيضٍ منه. أحمدعبد المعطي حجازي يغرِّدُ طليقاً !لستُ مؤرِّخاً لأحصي !  لكنّ عليّ القول إني ابتهجتُ بجابر عصفور وزيراً للثقافة في جمهورية مصر العربية.
    *
    كلما دخلتُ مصرَ أحسسْتُ بالعروبة، دافقةً... ليس في الأفكار. العروبةُ في المسْلكِ اليوميّ. أنت في مصرَ، عربيٌّ... هكذا، أنت في مصر عربيٌّ، لأن مصر عربيةٌ. ولأنّ أي سؤالٍ عن هذا غير واردٍ. الأمرُ مختلفٌ في أراضٍ أخرى. السؤالُ يَرِدُ في بلدانٍ مثل الجزائر والمملكة المغربية وموريتانيا، والسودان، ولبنان أيضاً، على اختلافٍ في المستوى. لكن هذا السؤال، في هذه البلدان، ذو مستوىً ثقافيّ أركيولوجيّ. هو سؤالُ هويّةٍ وتاريخٍ. في العراق اختلفَ الأمرُ. وربّما كان مختلفاً منذ دهرِ الدهاريرِ. هل العراق عربيٌّ ؟ يرِدُ تعبير "شيخ العراقَين" عن فقهاء أجمعَ الناسُ عليهم. يعنون: عراق العرب وعراق العجم.
    *
    الدولة الحديثة، بتأسيسِها الأوربي، الاستعماري، ليست دولة الفقيه. هي دولة ٌ لإدارة كيانٍ جغرافيّ ( قد يكون متعددَ الإثنيّات، وقد لايكون ).لكن العراق ليس مستحدَثاً. اسمُ العراق آتٍ من أوروك !إذاً... ما معنى السؤال الآن عن أحقيّة العراقِ في دولةٍ جامعةٍ ؟ ما معنى أن يتولّى التحكُّمَ في البلدِ، أكرادٌ و فُرْسٌ ؟ ما معنى أن تُنْفى الأغلبية العربية عن الفاعلية في أرضها التاريخية ؟ ما معنى أن تُستقدَم جيوشٌ من أقاصي الكوكبِ لتقتلَ عرباً عراقيّين ؟ ما معنى أن تكون اللغة العربية ممنوعةً في إمارة قردستان عيراق البارزانية بأربيل ؟
    *
    إذاً:
    نحن في عراق العجم !
    *
    سأسكن في مصر العربية !
    إنتهت القصيدة.
    أستحلفكم بالله، وبما تؤمنون به أو لا تؤمنون به إن كنتم من غير المؤمنين بالله، هل هناك فرق بين نص من النثر وهذه التي تسمى قصيدة؟!

    ثانياً / تعليق على وصف مصر والعراق

    (الأول) قوله " العروبةُ في المسْلكِ اليوميّ. أنت في مصر عربيٌّ، لأن مصر عربيةٌ. ولأنّ أي سؤالٍ عن هذا غير واردٍ"
    فهذا الكلام إما يصدر عن جاهل أو متجاهل منافق! لأنه:
    1-    مقياس العروبة لا يكون بالادعاءات ولكن بالحقائق على الأرض؛ وأول الحقائق المشاعر، والحقائق تقول أن مصر فيها ثلاثة اتجاهات واضحة:
    الاتجاه الأول – فرعوني يرى أن مصر الفرعونية مقدمة على مصر العربية
    الاتجاه الثاني – إسلامي يحذف مصر ما قبل الإسلام ويحارب الاتجاه العروبي
    الاتجاه الثالث – عروبي؛ وحتى هذا الاتجاه العروبي يمكن تلمس انقسامه إلى قسمين: (أ) حقيقي يشعر بالعروبة ويدافع عن القضايا العربية بصدق (ب) مزيف لا يقبل بالعروبة إلا إذا كانت مصر هي القائدة للعرب، وإلا ففي حقيقته يريد استثمار الموقع العربي لمصر (موقعها في قلب العالم العربي ونفوسها ربع العرب).
    فإن كان سعدي يوسف لا يعلم هذا فهو جاهل، وإن كان يعلمه فإن قوله "أي سؤال عن هذا – أي العروبة في مصر – غير وارد" يعني أنه متجاهل منافق.
    2-    كما أن الحقائق على الأرض تعني القضايا العربية وأولها القضية الفلسطينية، والآن السورية والعراقية والليبية بالخصوص. لو كان كلام سعدي أيام عبد الناصر لكان صحيحاً، ولكن أن يكون الآن فهو عجيب، لأن القضية الفلسطينية صارت عبئاً بعد كامب ديفيد، ولأننا نجد الكثيرين من المصريين، بالتأكيد معظم الأدباء والسياسيين والفنانين والصحفيين وحتى المشايخ، ينتفضون إلى الحلول المتطرفة بمجرد أن يصيب مصر أذى بسيط يتعلق بفلسطين أو غزة، فينادون بالويل والثبور على الفلسطينيين عموماً، ومن يتابع الأخبار يعلم ذلك، الأمر الذي يجعل غيرهم من المصريين العروبيين والواعين لحجم المؤامرة على فلسطين ومصر ذاتها بتوجيه النظر إلى الخطأ والخطورة في مثل هذا التهييج ضد الفلسطينيين المظلومين.
    3-    لا أدري فيما إذا كان سعدي وهو يتجول في شوارع مصر قد انتبه إلى الحالة الواضحة المؤسفة لأسماء المتاجر والمحلات التجارية، فإنه يطغى عليها – ربما أكثر من النصف – الأسماء الأجنبية/الانجليزية كأسماء أصلية ثم تكتب بالعربية (مثلاً: محل بيع سيارات يكون اسمه "كار سنتر" لأن اسمه الأصلي على اللوحة ذاتها كما في التسجيل التجاري Car Center / طبعاً ليس centre بالكتابة الانجليزية الأصلية لأن center أمريكاني والأمريكاني "يكسب"! وهكذا). ولكن ربما كان سعدي مشغولاً مع مضيفيه ولم ينتبه. فكم هو صحيح قول سعدي عن مصر "العروبةُ في المسْلكِ اليوميّ"!
    4-    لا أظن أن سعدي قد جلس مع الشباب المصريين من أولاد مضيفيه من الأدباء ورؤساء التحرير الكبار ممن ذكرهم في "قصيدته" أو أترابهم، لأنه لو جلس لوجد أن هؤلاء يتقنون الانجليزية – ربما لدراستهم في المدارس الأجنبية – ولكنهم يخطئون في العربية إلى درجة مؤسفة جداً. فضموا هذا إلى قوله "العروبةُ في المسْلكِ اليوميّ"!

    (الثاني) قوله "ما معنى أن يتولّى التحكُّمَ في البلدِ، أكرادٌ و فُرْسٌ؟ ما معنى أن تُنْفى الأغلبية العربية عن الفاعلية في أرضها التاريخية؟ ما معنى أن تُستقدَم جيوشٌ من أقاصي الكوكبِ لتقتلَ عرباً عراقيّين؟" ثم قوله " نحن في عراق العجم"
    طربت له حقاً لأنه يسند ما لم أزل أقوله من ضرورة التعامل مع المشكلة الطائفية في العراق وبجانبيها: الطائفي البحت، والعقدة الإيرانية.
    فهذا الكلام جعل العلماني الشيوعي الشاعر المتحرر من القيود الوطني جداً الخ الخ مما وضعه فيه "المثقفون" يسقط في الطائفية والعنصرية وكله في إطار الكذب الصريح مع الجهل العجيب؛ فهذا:
    1-    يعتبر أن الشيعة العراقيين "فرس"، ولا يقول بهذا إلا طائفي يريد سحب الهوية العربية العراقية من شيعة العراق ليبرر رغبته في إعادتهم "تحت حذاء" الطائفة الأخرى الذي كان معمولاً به قروناً متطاولة.
    2-    يعبر عن عقدته من الحكم الإسلامي في إيران بشكل غير مباشر، مع أن هذا الحكم الإيراني اليوم هو الذي يسند بقاء "عروبة" سورية وهو الذي يدعم بالسلاح والمال ما تبقى من "فلسطين العربية"، وهذا من المعلومات بحيث لم يعد يجادل فيه حتى عتاة الطائفية فصاروا يقولون: نعم، ولكن العدو الإيراني الفارسي أخطر من العدو الإسرائيلي (هذا إذا وصفوا الإسرائيلي بالعدو).
    3-    يقول أن الشيعة هم الأقلية والسنة هم "الأغلبية العربية"، وهذا لم يعد يقول به حتى أشد أعداء الشيعة حقداً من العراقيين وغيرهم، فغاية ما يقولونه أن الطائفتين متساويتان بالعدد؛ فهو إما جهل أو كذب.
    4-    قوله عن الأغلبية العربية "تنفى عن الفاعلية في أرضها التاريخية" من أكبر الافتراءات من جانب ومن أشد الكلمات عنصرية وطائفية من جانب آخر، فهل هناك من يدعي اليوم أن سنة العراق معدومو "الفاعلية"؟! السنة أنفسهم يقولون أن هناك "تهميشاً" والتهميش غير النفي عن الفاعلية (إلا إذا كان قاموس الشاعر العربي الكبير يحوي معاني ليست عندي)؛ كما أنها كلمات طائفية وعنصرية لأن القول "أرضها التاريخية" بعد وصف الشيعة بالـ "فرس" يعني أن أرض العراق هي للسنة وحدهم.
    5-    وأما قوله هذا، إضافة إلى كلماته عن الجيوش التي تستقدم "لتقتل عرباً عراقيين" فهو تحريضي بكل معنى الكلمة، لأنه يقول للعرب، ومصر أولهم – وهو في خضم النفاق لها –، تعالوا وأنقذوا سنة العراق من شيعته.
    6-    أخيراً قوله "نحن في عراق العجم" فيه أمور:
    (أ‌)    عنصري لأنه يجعل من "الفرس" وحدهم أعاجم، بينما العجمة تعني غير العربي كائناً من كان، فهذا يصب في اتجاه معاداة إيران ليس إلا
    (ب‌)    عنصري تحريضي لأنه يرسخ معادلة:
    الشيعي العراقي = أعجمي
    الأعجمي = إيراني
    إذاً، الشيعي العراقي = إيراني
    وبما أن: إيراني = عدو العرب
    فإن العراقي = عدو العرب
    (ت‌)    طائفي لأنه يرمي "التشيع" بالفارسية، فيسير في إطار المعادلات أعلاه فيصبح توجيهاً باتجاه طائفي معاد
    (ث‌)    الجهل أو الافتراء عن علم، لأنه إذا كان سعدي يعلم أن التشيع هو المذهب العربي بامتياز، أئمته (ع) عرب، أفراده الأولون من الصحابة والتابعين عرب، علماؤه الأولون ومعظم التالين عرب، فقهه متشدد بالعربية، بينما المذاهب السنية خليط من الأعجمي والعربي في نشأتها وعلمائها وفقهها، فهو يفتري عن علم، وإلا فهو جاهل وهو ما أميل إليه فهو بعيد عن مثل هذه المعلومات لأنه "تقدمي يساري مثقف متنور" لماذا يتعب دماغه بأمور المذاهب والأئمة والعلماء والحفاظ والمحدثين والباحثين والمفسرين والمليارات من المسلمين عبر القرون ممن تفاعلوا معهم، فكل هؤلاء تافهون عند سعدي أفندي!

    أخيراً،
    أقول: هنيئاً لمن يركضون خلف هذا وذاك لأنه صار لهم صيت وشهرة دون تدقيق في حقيقة ما يقولون، ناهيك عن خراب نفوسهم، فكم من خيبة أمل جاءت من أمثال سعدي يوسف، فهل أنتم ستغيرون هذا الواقع الخطأ للثقافة العراقية بجعلها أكثر استيعاباً لجميع الاتجاهات الأدبية والفكرية من جانب، وبجعلها أكثر منطقية في التقييم؟
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media