عمارة مبنى التأمين في الموصل: جماليات الاستحضار المكاني
    السبت 20 ديسمبر / كانون الأول 2014 - 23:01
    د. خالد السلطاني
    معمار وأكاديمي
    مبنى شركة التأمين الوطنية في الموصل 1966
    * تحية الى الموصل والموصليين، وهم في محنتهم، ووقفتهم دفاعاً عن القيم المدينية والتسامح.
    عندما كُلف المكتب "الاستشاري العراقي"  بتصميم مبنى شركة التأمين الوطنية في الموصل سنة 1966، كان هاجس رفعة الجدارجي (1926): المعمار الاول في المكتب واحد مؤسسيه، منصباً عن كيفية ان تكون عمارة المبنى ذات لغة تصميمية متفردة واستثنائية في حلها التكويني مع السعي بان تكون تلك العمارة منتمية، ايضاً، الى مكانها قدر المستطاع؛ المكان الزاخر بالتنويع التصميمي، الذي انتجته ثقافات عديدة ، نشأت على الارض الموصلية عبر تاريخ المدينة الطويل. بالطبع يمكن فهم نزعة التفرد التصميمي، التى وسمت عمارة الجادرجي في الستينات، وبالتالي يمكن تسويغ مسعاه التصميي ذاك.  كما ان مقاربة "إنتماء العمارة الى المكان" ، وان بدت ممارسة معروفة، وحتى مألوفة في المشهد المعماري العالمي وقتذاك، فانها ما انفكت تعتبر، بالستينات، من المقاربات الطازجة والمستجدة في الممارسة المعمارية المحلية، ما جعلها لان تكون مدار اهتمام رفعة الجادرجي المهني، هو التائق دوماً لان يكون عنوان عمارته حافلا بالجدة والحداثة.  لكن الاهم فيما سيميز عمارة المبنى المتوقعة، هو مقدرة المعمار في وضع برنامج تصميمي لنفسه، يتعاطي مع "تضادية " صارخة، معبراً عنها في ثنائية مختارة من <التفرد التصميمي> و <الانتماء المكاني>، وان يكون كل ذلك حاضرا في إختلاق لغة تصميمية جديدة، بمقدورها ان تثري شواهد البيئة المبنية المحيطة، وان تضيف لها إنموذجا معمارياً مميزاً ولافتاً. وهو ما تجسد في مبنى شركة التأمين بالموصل (1966)، عمارته التى ستكون مدار اهتمام هذه الحلقة من "عمارة..عمارة". لكن علينا قبل الحديث عن خاصية العمارة المنجزة، ان نشير، ولو سريعاً، الى مجموعة القيم والمبادئ التصميمية المشكلة لمرجعيات تلك العمارة.
    يدرك المعمار جيدا، بان ما "توصل" اليه سابقاً، من إنجاز فريد  لحلول تصميمية، يجعل منها  بمثابة تنويعات تؤسس لذخيرة معمارية مميزة، يفتخر، عن حق، بانه هو ذاته من اجترحها. ولهذا فانه لا يرغب ان يمر منجزه التصميمي هذا مرور الكرام في مخيلة متلقي عمارته؛ سواء كانت تلك العمارة منفذة ببغداد، حيث يقيم ويعمل، ام في خارجها. انه يعتقد بان ما تم اجتراحه يوما ما، جديرا ان  يُرى في امكنة آخرى. لكنه يعي تماماً من ان فعل تلك "المشاهدة"، سيكون وقعه على المتلقي مؤثرا وعميقا، في حال كانت عمارته  تنزع  الى ترسيخ خصوصية المكان في الحل التكويني. وهو ما يفسر، في اعتقادنا طبيعة إختيار نوعية المداخلة التصميمية التى انتقاها المعمار لمبنى التأمين في الموصل. صحيح اننا ازاء تشكيل فنى لحل تكويني نادر انطوت  عليها عمارة المبنى، لكننا نعلم بان ما نشاهده الآن، سبق وان "شاهدناه" في مكان آخر. (نحن نتحدث، بالطبع، عن عمارة "مبنى اتحاد الصناعات "على ساحة الخلاني ببغداد (1966) للمعمار ذاته). فكلا المبنيين يعتمدان على مقاربة تصميمية متماثلة، فحواها يكمن، كما اشرنا الى ذلك مرة، في تخليق "خطاب معماري خاص... يتمظهر في "فك ارتباط" تحرير واجهات المباني من حتمية ملازمتها لنوعية الصياغات المتشكلة عن نفعية الوظائف التى تؤديها احيازها، او حتى الابتعاد عن نزعة تكرار الوحدة القياسية المؤلفة لمنظومة "كاسرات الشمس"، الشائعة في الممارسة المعمارية وقتذاك " (خالد السلطاني، المدى، 23 آذار 2013).
    في مبنى الموصل، تحضر العمارة المتفردة، ذات التشكيلات الفنية غير المالوفة، بصورة ناصعة ومؤثرة. اذ يضفي موقع المبنى المميز المطل على ميدان حضري مهم، والذي ينهض بصورة منفصلة نوعا ما، بعيدا عن كتل مجاوراته، يضفي على تلك العمارة وضوحا وصفاء كبيرين، ويسهم في رؤية تفاصيلها المشغولة على درجة عالية من الدقة والرهافة. لقد اجتهد المعمار بان يكون حضور تلك التفاصيل في الحل التكويني الصائغ لعناصر الواجهات، حضورا فعالا ووافراً. لكن الابرز هنا، هو اختيار المصمم لمادة "الحجر" كي تكون المادة الانشائية الانهائية لسطوح واجهاته. انها المادة المألوفة، وحتي المحببة، لدى كثر من بناة الموصل، والتى امست جراء استخداماتها المتواصلة والمتكررة، جزءأ من ثقافة المكان البنائية. وبهذا الاختيار، فان المعمار، يتوق الى تذكيرنا باهمية المكان، الذي تنهض عليه عمارته.
    تبقى المقاربة التصميمية <تنويع على ثيمة واحدة>، التى يوظفها المعمار في "تشكيل" مبناه، هي الاساس الذي ينظم لغة العمارة المنتجة هنا، كما وظفت سابقا في المبنى البغدادي. اذ تنطوي تلك "الثيمة" على حضور الجدران المزدوجة، والتى بمقدورها ان تمنح المصمم "حرية" واسعة في رسم وتوقيع فتحات نوافذ الواجهات، ومن دون التقـيّد لوظيفة الفضاءات التى تحميها او مراعاة نوعية الحيز ومقدار مساحته. يعمل المعمار، على عدم  التفريط بالجمالية المتولدة عن فعل حضور الجدران المزدوجة. وهو اذ يعي  إمكانية ظهور الاحساس بالضجر التصميمي، جراء الاسراف وفائض الاستخدام لذلك الحضور، فانه ينزع اما الى تغيير نوعية تشكيلات الفتحات "المحفورة" في تلك الجدران، او لايقاف استمرارية حركة "الجدران المزدوجة" في اجزاء  من واجهاته، نائياً بها بعيداً عن انطباع "الواجهة المسطحة" المألوفة، ومانحا لها بعدا ثالثاً، مرتقيا بها، جمالياً، الى ما يشبه العمل النحتي. في احيان آخرى "يرسم" المصمم اضلاع خرسانية Ribs ناتئة، على سطوح واجهاته، ذات امتدادات طولية وبابعاد متغيرة، مهمتها "كسر" الرتابة التى قد تظهر جراء توظيف تلك "الثنائية الجدارية". وفي العموم، فان عمارة مبنى التأمين في الموصل، كما هي مثيلتها البغدادية، جمعت في ثنايا عمارتها "متضادين" هما: :التفرد التصميمي، والانتماء المكاني على "سطح" واحد! بيد ان مقدرة المعمار المهنية العالية، إستطاعت ان تشغل هاذين المتضادين باقصى طاقتهما، وان تخلق منهما اداة لحضور جمالية مضافة اتسمت بها عمارة المبنى. وليس من المبالغة في شئ، اذا أعددنا ذلك المبنى بكونه واحداً من اهم منجزات العمارة العراقية الحداثية. انه بتشكيلاته المميزة وتفاصيله المرسومة بعناية، ولغة عمارته غير المألوفة، والاستثنائية في المشهد المبني، يرتقي ليكون، "ايقونة" بصرية لمجمل النتاج المعماري العربي والاقليمي. انها اضافة بارزة، وإضافة نوعية من المعمار لمنجز العمارة التى نفتخر بها.
    عندما انهى رفعة كامل الجادرجي (المولود في كانون الأول من عام 1926 ببغداد، والذي ستحتفل الاوساط المهنية والإكاديمية بتسعينيته بعد عام تقريبا) تعليمه المعماري من مدرسة "هامرسميث للفنون والاعمال" (1946-52) بلندن / المملكة المتحدة، عاد الى العراق، واشترك مع عبد الله إحسان كامل وإحسان شيرزاد، في تأسيس مكتب "الاستشاري العراقي" (1953)،وانضم لهم ،بعدذاك، معماريون آخرون. قدر لغالبية مشاريع المكتب ان تمثل بعمارتها المميزة ولغتها التصميمية الحداثية، صفحات مهمة وناصعة في سجل المنجز المعماري العراقي. ومن ضمن تلك المشاريع: دارة كتخدا (1957) في العلوية، نصب الجندي المجهول (1959) في ساحة الفردوس (1959)، كلية الطب البيطري (1965) في ابي غريب، بغداد، دارة يعسوب رفيق (1965)، في المنصور ببغداد، مبنى اتحاد الصناعات العراقي (1966) في بغداد، بناية التبوغ (1967)، في باب المعظم ببغداد، مشروع مسجد لندن (1969)، لندن /المملكة المتحدة (لم ينفذ)، مصرف الرافدين (1969)، في المنصور ببغداد، مبنى الاتصالات (1971) <بالاشتراك مع هنري زفوبودا>، في السنك ببغداد، دارة هديب الحاج حمود (1972) في المنصور ببغداد، بناية مجلس الوزراء (1975)، في كرادة مريم ببغداد، وغير ذلك من التصاميم المميزة، ذات الوظائف المتنوعة.
    اصدر الجادرجي عدة كتب تعاطت مع الشأن المعماري والفني والانثروبولجي مثل: شارع طه وهامرسميث (1985)،  صورة أب (1985)، مفاهيم وتأثيرات: نحو اقلمة العمارة الدولية (1986)<باللغة الانكليزية>، الاخيضر والقصر البلوري (1991)، حوار في بنوية الفن والعمارة (1995)، جدار بين ظلمتين (2003)  <بالاشتراك مع زوجته بلقيس شرارة>، في سببية وجدلية العمارة (2006)؛ الذي نال عنه جائزة زايد للكتاب (2008)، اصدر الجادرجي في الفترة الاخيرة كتابين آخرين هما " صفة الجمال في وعي الانسان" (2013)،  وكتاب "دور المعمار في حضارة الانسان (2014)، والكتاب الاخير جاء بـ 784 صفحة. سبق وان حاز الجادرجي على جائزة الرئيس لمؤسسة أغا خان (1986).  مقيم في بريطانيا منذ الثمانينات، ويتنقل في اقامته بين لندن وبيروت.

    د. خالد السلطاني
    معمار وأكاديمي
    ksultany@yahoo.com
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media