مناظرات التفليش ومناظرات الإنتصار لهدف
    الأحد 6 أبريل / نيسان 2014 - 17:01
    صائب خليل
    دياب أبو جحجح، شاب بلجيكي من اصل لبناني، وأبرعسياسي في المناظرات المباشرة، شاهدته أو سمعته أو قرأت عنه، وليس على مستوى العرببل الغرب وربما العالم! رغم ذلك فهو ليس معروفاً اليوم خارج نطاق بلجيكا وهولندا،وربما لم يعد يذكره الكثيرين هناك ايضاً. أسس أبو جحجح تجمع "الرابطة العربيةالأوروبية" في مدينة انتوربن، ثاني مدن بلجيكا وأكثرها ازدحاماً بالعربالفقراء واليهود من أثرياء تجار الماس، ومعقل الأحزاب الشوفينية الفلمنكية المضادةللعرب والمسلمين. قاد الرابطة باقتدار نادر وفي منتهى الشجاعة للدفاع عن حقوقالمغتربين وتمكن من تأسيس علاقات وائتلافات مع أحزاب بلجيكية يسارية، ونظمالتظاهرات الإحتجاجية على قتل مغربي على يد بلجيكي عنصري، ولاحق الشرطة البلجيكيةبفريق يحمل الكامرات ليسجل سوء معاملتها للمغتربين، وكان حديث الصحافة الأول فيعام 2002، أيام الغليان الطائفي والعنصري في البلدين الجارين.

    رغم كل ذلك، أنتهت حركته بالإحباط والتلاشي ولم يتبقمنها أية نتيجة إيجابية، ولا يثير إسمه اليوم سوى رد فعل سلبي، ليس فقط عندالبلجيكيين وإنما حتى عند (المثقفين من) العرب الذين دافع عنهم، فكيف حدث ذلك؟إنها قصة ماساة ضيق النظر، والإغراق في الجدال والمناظرة وغياب الرؤية البعيدةوالهدف النهائي. لقد توقعت حينها تلك النتيجة وحاولت الإتصال بالشاب وتحذيره منهالكني لم احصل على فرصة للقائه للأسف، ولا أعلم جدوى ذلك لو حدث. 

    يذكرني موضوع المناظرة والهدف الأبعد، بحدث فيالسبعينات في جامعة الموصل. فقد تعين أستاذ شاب في المرسم، ودخلت معه في"مناظرة" فلسفية عن الحياة في أول أو ثاني لقاء لنا. وحين خرجت منالمرسم مع صديقي جعفر (الرسام العراقي المعروف حالياً جعفر محمد صادق) قال لي بصوتفيه خيبة أمل: "كنت أتوقع منك أن "تفلشه" في النقاش"! فقلتله: "ولماذا تريدني أن "أفلشه"؟ سكت جعفر، فأكملت: "لم يكنذلك صعباً.. هل تذكر اللحظة التي قال فيها (كذا..)؟ كانت مراوغة مفضوحة منه، ولوأني ضحكت فقط في تلك اللحظة، لافتضحت المراوغة و "تفلش" الرجل،.... لكنلم يكن هذا هدف النقاش بالنسبة لي". سكت جعفر ثم اعترف قائلاً: "لم يخطرببالي وجود "هدف" للنقاش..." 

    ذكرتني مناظرة الدكتورة حنان الفتلاوي مع الدكتورطلال الزوبعي، بذكريات الموصل وأحداث بلجيكا، وشعرت أن نتائجها المخيبة للآمالتتكرر اليوم في العراق. أردت الكتابة عن الموضوع ضمن مقالتي السابقة التي دارت حولاتهامات مجحفة للدكتورة حنان بتحوير تصريحاتها في نفس تلك المقابلة التلفزيونية على"السومرية"(1).لكن تلكالمقالة طالت فقررت فصل الموضوع في مقالة مستقلة، خاصة وأنه يتحدث عن ظاهرة عامةليست خاصة بحنان الفتلاوي، ظاهرة النقاش من أجل "التفليش". 

    ولو شاهدنا ردود أفعال المشاهدين،وكذلك لو قرأنا العناوين التي توضع لأفلام الفيديو على اليوتيوب لتلك المناظرات منقبل مؤيدي أحد الطرفين، لوجدنا أن ظاهرة "تفليش المقابل" كهدف ، واضحةجداً لدى "المشجعين" أيضاً. لم أحتج إلى أن أبحث كثيراً عن أمثلة، فماظهر أمامي على صفحة اليوتيوب عند فتحي لرابط المقابلة أعلاه كان يكفي ويزيد،ولننظر بعض العناوين التي اختارها المشاهدون لتلك المناظرات:

    "حنان الفتلاوي اطيح حض طلالالزوبعي وكل قائمته " و"حنان الفتلاوي تنهي التيار الصدري بالضربه القاضيه !!" و "حنانالفتلاوي تطيح بمها الدوري وتفضحهااا" و "حنانالفتلاوي تطيح حظ الارهابي الداعشي ظافر العاني" و "البطلةحنان الفتلاوي الما يعجبه رئيس شيعي خلي يضرب راسة بالحايط " و "حنانالفتلاوي ترد على علي حاتم السليمان وتمسح به الارض" و "حنانالفتلاوي تمسح الكاع بالكرد وتزلهم رزاله غسل ولبس "

    وطبعاً ليست حنانالفتلاوي "بطلة" كل الحلبات، فهناك أيضاً: "فديو جديد الشيخ علي حاتم يمسح بكرامة حنان الفتلاوي " و "الشيخعلي حاتم السلمان يشرشح ثائر الدراجي الشاذ جنسيا" و "الشيخعلي الكوراني يفضح طه الدليمي بهروبه من ثائر الدراجي " و "مريمالريس تؤدب مها الدوري" .. الخ. 

    لا شك أننا أمامعناوين لحلبات مصارعة وليس مناظرات لها أهداف سياسية بعيدة المدى. ماهي الأهدافالبعيدة؟ إنني لا أبحث عن مناظرات مملة تتجنب الإحراج من أجل الظهور بمظهر الأدبالمزيف، بل الإحراج الذي يوظف ليدفع بالأمور إلى النتيجة المرجوة والوصول إلى بعضالوضوح وربما الإتفاق على خطوة تالية إن كان المقابل حسن النية، أو محاصرته وجعلهيرضخ لقبول ما قد لا يقبله بدون محاصرة وإحراج وإجباره على تعهد محدد يمكنمتابعته، ويعلم أن التهرب منه سوف يجعله يخسر جمهوره. 

    هناك نقطة مركزيةيعرفها كل المتناظرين، وهي أن الحديث لا يوجه في حقيقته إلى الشخص الذي أمامه فيالأستوديو، بل إلى مئات الآلاف وربما الملايين التي تشاهد البرنامج حياً أو فيمابعد. وأن الهدف هو إقناع الجمهور الحيادي والمعارض بما نقول، أو تحييد موقفهالمعادي. ومن الواضح أن مبدأ "تفليش المقابل" لا يحقق مثل هذا الهدفابداً. المناظر حين يهدف إلى ذلك التفليش فإنه يضع نصب عينيه جمهوره هو فقطوناخبيه هو فقط. والحقيقة أنه لا يكاد يكسب شيئاً من ذلك ولا يقنع أحد بأي شيء لميكن مقتنعاً به سابقاً. وبالتالي فأن "تفليش المقابل" لا يخدم سوىالتطرف لكل من الطرفين في موقفه وابتعاده عن الآخر واليأس من التعامل معه. ومنالوهم التصور بأن تفليش المقابل يعني كسب بعض جمهوره حين يرون خطل حجج صاحبهم. ففيالغالب سيتكفل الإستقطاب التحيز الطائفي بأن يعتبر كل طرف أن صاحبه قد"أنتصر". فها نحن نرى أحد الطرفين يرى أن حنان الفتلاويترد على علي حاتم السليمان وتمسح به الارض"، ويرى الطرف الآخر العكس وأن : "الشيخ علي حاتم يمسح بكرامة حنان الفتلاوي "، وهما يريدان تصديق ذلك حتى لو أضطر كلمنهما إلى اقتطاع جزئين مختلفين من نفس المقابلة ونشره على اليوتيوب! إنه دليلناصع على خطل فكرة كسب الجمهور عن طريق "التفليش".. 

    في هذه المقابلةأعلاه بالذات كان مقابل حنان الفتلاوي شخص ساقط بكل معنى الكلمة، ولا يمكن بناء أيشيء معه، وللفتلاوي عذرها في فضحه، لكن هذا ليس الحال دائماً. ففي مقابلتها معالدكتور طلال الزوبعي كان المقابل مؤدباً وبناءاً إلى درجة بعيدة، لكن حنان رفضتأن تبني معه، ولم يظهرمن اي من أجوبتها أنها استمعت إلى أي شيء قاله، إلا ماتحتاجه لتركيب أقسى رد ممكن يحقق أقصى "تفليش" ممكن في المقابل – وهذاهو الطريق المسدود بالنسبة للوطن. كانت الدكتورة حنان تبدو وقد قررت تحطيمه ولعلهاتخيلت جمهورها وهو يصفق لها مع نهاية كل جملة حاسمة ودقيقة، ويبدو أن هذا صار هوالهدف في النقاش. 

    إن تحويل المناظراتإلى عمليات "تفليش" متبادل، ليس مجرد "خطأ" شائع بين الساسة،بل هو هدف محدد للمؤسسات المكلفة بتحطيم العراق والعرب بشكل عام. خذوا الجزيرة فيبرنامجها "الإتجاه المعاكس" وهذا الشخص المفضوح الذي يدفع بالمتناظرينعنوة، بصوته وبأسئلته المستفزة، ليتحولوا إلى ديوك صراع ويمنع أي نقاش هادئ قديوصل إلى نتيجة يستفيد منها المشاهدين. وخذوا موقع "الحوار المتمدن"الذي يحرص على تركيز الضوء على كتاب مكلفين بتحويل أي نقاش بين الدين والعلمانيةإلى "مهالس". إنهم لا يحرصون إلا على توجيه الإحتقار المتعمد للدينوالمتدينين واستثارتهم للرد عليهم بنفس القسوة. إنني لا أذكر مرة أنتهى فيهاالإتجاه المعاكس أو مقالات الحوار تلك إلى تفاهم الطرفين حول صحيح مشترك يصلح أنيكون منطلقاً لحل المشكلة بل أن يفترقا دائماً يائسين من بعضهما البعض، هذا إن لمينته البرنامج بعراك بالأيدي أو بما هو أكثر منها. والأمر لا يقتصر بالطبع علىفضائية الجزيرة ولا على موقع الحوار المتمدن، فحيثما يلفت المرء نظره يجد أدلة علىاثر تخريبي للنقاش في الطيف الإعلامي العراقي والعربي، وعلى من يقف وراء ذلك. 

    إنني أؤكد هناثانية أني لا اقصد أن تكون المناظرة رقيقة وسهلة، بل ربما العكس، أن تكون حادةوواضحة ومحرجة وصعبة، ولكن ذات هدف. لقد كان دياب أبو جحجح من المهارة بحيث كانيواجه في العادة أكثر من مناظر من قادة الأحزاب العنصرية معاً وكان"يفلشهم" حقاً في كل مرة. وكم من مرة سخر من قائد حزب وبرهن أنه لا يعرفقانون بلاده ودستورها وتاريخها الذي يدعّون الإعتزاز به، وأفحمهم بلباقته وهواللاجئ الذي تعلم لغتهم متأخراً، وكم من مرة غادر هؤلاء ساحة "المعركة"غاضبين لأنهم لم يجدوا الجواب على محاصراته لهم. وكم مرة لجأ بعضهم إلى استفزازهبإهانة دينه وربه أمامه بدون مناسبة وبابشع الكلمات التي لا يقولها قوادوا الشوارعالخلفية لمدن الصفيح....لقد رأيته مرة في برنامج يجيب بسرعة خارقة على محاورينمتخصصين بالحوار التلفزيوني، كانا قد استعدا له بكل ما يستطيعان، وكان كل منهم يحرصأن يقاطعه قبل أن ينتهي من إجابة سؤال زميله، ويطرح عليه سؤالاً بحدة وسرعة، لكييرهقه ويمنعه من التركيز، وكان أبو جحجح يجيب ويجيب بلا تلكؤ أو توقف عن الأسئلةالمتتابعة بسرعة وبدقة ولمدة ثلاثة أرباع الساعة ولا يثور للأسلوب ولاللإجهاد..... 

    رغم كل ذلك أنتهىهذا العبقري بـ ... "لا شيء"!! لاشيء بالنسبة لقضيته المركزية التي جاءليدافع عنها وخاطر بحياته من أجلها. فكيف حدث هذا وكيف كان يجب أن يكون؟ أين يكمنالفرق الأساسي بين من يناظر لتفليش المقابل مع من يناظر لينتصر لهدفه الأبعد؟الأول يفعل كما فعل أبو جحجح ويفعل معظم سياسيينا على وجه العموم: يركز على كلماتالمقابل متصيداً الثغرات والزلات ومشغلاً فكره بسرعة ونشاط لوضعها بأكثر الأشكالقوة في لتحطيم مصداقية المقابل بأي شكل كان، مستعيناً ربما بالمقاطعة والإستمراربالحديث وارتفاع الصوت والوجه الغاضب المحتج أو حتى اللطف المصطنع أحياناً. وإنذكر المقابل حقيقة هامة فإنه يحرص أما على تجاهلها تماماً، أو الرد عليها بحقيقةأخرى مقابلة لا علاقة لها بها. إنه لا يعتقد أن هناك مكان للأمانة في النقاشواحتمال تراجع عن أية نقطة أو الإعتذار عن أية مسألة أو إعطاء الحق للمقابل في أيةملاحظة.. هناك فقط الضرب والضرب والصد والضرب حتى ينهار موقف المقابل وعندها يضحكضحكة الإنتصار وتفليش المقابل ومؤيديه معه!

    وكيف يتصرف منيناظر لينتصر لهدفه؟ إنه يبدأ بدراسة هدفه ودراسة موقف نظيره من هذا الهدف،وبالبحث عن المشتركات التي تعطيه فرصاً لدفع نظيره إلى دعم ذلك الهدف. فإن لم يجدفإنه يقرر إحراجه أمام مؤيديه، ويبدأ بالتركيز على نقاط ضعف موقف رسيله ومحاججاته،ويشغل فكره بنشاط أيضاً لكي يضع تلك النقاط بأقوى الجمل أمام المستمعين وبالشكلالذي لا يستطيع نظيره أن يرد عليه.. وفي تلك اللحظة، وبدل ضحكة الإنتصار المهينةلنظيره ومؤيديه، يقدم صاحبنا اقتراحه وبكل احترام، فلا يجد نظيره إلا طريقاًواحداً للخروج من الإحراج، وذلك بالموافقة المبدئية أو كشف نفسه كمنافق! وهنا حققنقاشه نصف الإنتصار، لكنه لن يكتفي بذلك بل سيطلب أن تفعّل تلك الموافقة باتفاق عمليمعين ومحدد وقابل للفحص والمتابعة مستقبلاً قدر الإمكان، ويصب في هدفه البعيد!عندئذ، لهذا الرجل أن يبتسم منتصراً، وقد يشعر مناظره بالهزيمة، لكن ليس الإهانة،وقد يشعر مؤيدوه بالخسارة لكن ليس بالحقد، ويتجه البعض منهم بالتأكيد إلى التفكيربتبني موقف خصمهم أو جزء منه في الأقل، وهذا هو كل ما يطمح إليه الرجل. 

    لقد برهنت تجربةأبو جحجح بشكل تام ونهائي، أن طريق المحاججة الهادفة للتفليش، لا يؤدي إلىالإنتصار للهدف السياسي، مهما كان السائر فيه عبقرياً متفوقاً على خصومه، بل يجبأن يكون التركيز على الهدف الأبعد. وإذا كان هدف المؤسسات الإعلامية المشبوهة فيكل جهودها هو أن تدفع بجانبي النقاش إلى اليأس من بعضهما البعض، فيجب أن يكون الهدفالأبعد للمثقف والسياسي في هذه البلاد أن يمنع هذا اليأس، وأن يعيد لأطراف النزاعفي وطنه الثقة بإمكانية التفاهم .. بإمكانية العيش معاً. هذا يجب أن يكون هدفه،وبهذا يجب أن يقيس انتصاره وليس بكمية العرق التي تسيل من خصمه في نهاية الجلسة. 

    ****

    يقول شاعر داغستان رسول حمزتوف "وأنت تحملخنجرك، لا تنس أن الذي يقف امامك إنسان!" وأقول للمتناظر: نريد أن نرى فيك عبقريةالإنسان الهادف، وليس مهارة الديك هراتي!

     

     

    (1) خفايا معلنة: هل يتمالقضاء على القاعدة في الأنبار؟ - الحلقة 3 - YouTube
    https://www.youtube.com/watch?v=VRw1_pZk_q

    © 2005 - 2025 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media