خصائص عصر العولمة
    الأثنين 15 سبتمبر / أيلول 2014 - 20:03
    د. جيلالي بوبكر
    استاذ جامعي / الجزائر
    1- العلمنة:
    * هي العلمية أو العلماوية، وليست العالمية أو العلمانية أو العولمة، تعني العلمنة التعامل مع العالم والواقع والحياة وفق النظرة العلمية الوضعية البحتة، وتقصي الرؤى الدينية والأخلاقية والميتافيزيقية السابقة فهو توجّه يتعامل مع ما هو هنا والآن واللحظة الراهنة، و الأفكار السابقة التي انحدرت من التاريخ هي مجرد عبث ولغو خالية من المعنى، والفكر في تطوره عبر العصور انتهى علميا وضعيا وهي النهاية التي تمثل منتهى صحته وقدرته على التحكم في الواقع والتاريخ والوجود والحضارة والحياة عامة، هذا ما يراه أغلب الوضعيين.
    * تعود نشأة هذا الاتجاه إلى تعاظم قيمة العلم وتنامي بحوثه ونتائجه وارتباط ذلك بالطبيعة المادية وتحقيق منجزات كبيرة على المستوى الحضاري المادي والعملي، كما ارتبط التقدم العلمي والازدهار التقني والعملي من الناحية النظرية والفلسفية برؤية العديد من منتهجي هذا النهج إلى كل ما هو تاريخي ومقدس من قيم دينية وأخلاقية وإنسانية وميتافيزيقية بأنّه يشكل عقبة في طريق العلم والتقدم والقوة، والاتجاه الوضعي صار موضع تنظير واعتقاد في الغرب وخارج الغرب وكذلك لدى بعض العامة في مختلف بلدان العالم نظرا لطغيان الاهتمام بالمصالح الفردية الضيقة التي أصبحت هي القوة الضاغطة وتقود هذا الاتجاه، وهو اهتمام سمح به التوجه العام للمرحلة التاريخية التي شهدت الحضارة الحديثة التي قامت على الانفجار العلمي والتقني وما ترتب عنه من تحوّل جذري في الفكر والسلوك وفي الحياة عامة.
    2- التّقانة:
    * ويطلق على التقانة الأتمتة أو الميكنة وتعني التّقانة تنامي وتعاظم دور الأجهزة والآلات والأدوات التقنية الصناعية، ويشمل هذا الأداء الجانب الآلي الميكانيكي والنووي والإلكتروني، الأداء الذي حلّ محل يد الإنسان وعقله وصار ينتشر بغير حساب أو مراقبة، وأصبح ميزة يتميز بها العصر الحاضر وتحوّلا بارزا فيه، جاء هذا التحوّل مع التفوق العلمي والتكنولوجي وكانت له انعكاسات وتداعيات بعضها إيجابي وبعضها سلبي، فبمقدار ما جلب من منفعة وراحة ورفاهية، فإنّه أفرز في المقابل نتائج سلبية وخطيرة على حياة الإنسان الروحية والفكرية والمادية سببت له الكثير من العناء.
    * تعاظم وتنامي دور وأداء الأجهزة والآلات الميكانيكية والالكترونية أدّى إلى تناقص دور الأداء الحسي والعقلي، الذي لم تعرف أية نهضة حضارية عرفها تاريخ الإنسانية الطويل شيئا من الانطلاق والتحقق والاكتمال إلا بواسطته، الأمر الذي غيّر مجرى التاريخ والحضارة بتغيير شروطها ومسبباتها، وكانت لذلك تداعيات وانعكاسات على حياة البشر وعيا وسلوكا، فردا وجماعة، حاضرا ومستقبلا، وكانت النتيجة الأسوأ التقليل من قيمة الإنسان واعتباره شبه سلعة أو سلعة في بعض الأحيان، مكانته في الوجود تتناقص شيئا فشيئا، ولم يعد الاهتمام بالإنسان مثقفا كان أو غير مثقف، لأن العناية الفائقة لم تعد إلاّ للآلات والأجهزة وللمصانع التي تنتجها ولصانعيها ولمروجيها، وذلك لإشباع الحاجات والمطالب الضرورية والمقتضيات الترفيهية.
    * تناقص استخدام العقل البشري الطبيعي لصالح العقول الالكترونية المزودة بعقول صناعية وذكاء صنعي جعل الإنسان ليس طبيعيا ناهيك عن البطالة والآثار النفسية والاجتماعية الناتجة عنها، وتحوّل الاهتمام بما يشبع المطالب التافهة على حساب المصالح العليا والمقاصد الكبرى المقررة في كافة الشرائع والأديان والفلسفات، هذه المصالح والمقاصد التي وجدت لأجلها الإنسانية.
    *العناية الكبيرة بالتّقانة تولّد عنها التركيز على الإنتاج الصناعي في كل مجالات الحياة، وعلى إنتاج السلع غير الأساسية وغير الضرورية، إنتاج السلع التافهة من دون انقطاع أو توقف، رغم ما تسببه هذه السلع من أضرار واختلالات، والانغماس في اللهو واللعب والمتعة من دون حساب أو قيد أو شرط أو توقف، لما فيها من سهولة ويسر في تحقيق اللّذة من غير جهد أو عناء، حتى أثناء المعارك في الحروب واستخدام الأتمتة العسكرية من قنابل عنقودية وفسفورية وغواصات وطائرات أشباح وصواريخ عابرة للقارات ومعارك في حروب إلكترونية وغيرها، كل هذا صار يجري بدم بارد وبلامبالاة كبيرة، ولم يعد يهتم بما يُحدثه من دمار وخراب على الأرض وفي نفوس البشر ولا يعنيه ما ينتجه من قذارة وانحطاط في الأخلاق والوعي، ولا يهمه ما ينتج عن ذلك من استجابات وردود أفعال معاكسة مليئة بالحقد والضغينة والكراهية للأتمتة ولأصحابها.
    * التعامل مع التقانة بإفراط جعل العالم مليئا بالرعب وباللامبالاة، وباللاوعي الإنساني الطبيعي وباللاوعي الإنساني الأخلاقي والاجتماعي والميتافيزيقي والديني، بحيث لا يكون للإنسانية التي نعي ونعيش أيّة معنى، وإن بقيت بعض الضوابط تكبح سوء استخدام الأتمتة خاصة الأتمتة العسكرية لكن لا ضمان من سوء استغلال التقانة فينتهي عالم الإنسان إلى سيادة وسيطرة الآلة، لأن الجانب الاستهلاكي للتقانة يتزايد باستمرار والإنتاج البشري الطبيعي يتناقص واستهلاك الميكنة الفردي يتضاعف، والحروب والاضطرابات السلمية والدموية المسلحة والإعلامية هي نتيجة الأتمتة لتلبية مطالب الإنتاج واحتياجات التشغيل والسيطرة على مصادر الطاقة، وذلك لاستحواذ أنماك التقنية وتعميمها خدمة لمن بيدهم مقاليد الأمور.
    * إذا كانت العلمنة توجّها بشريا ارتبط بالعلم وانبثق من الانفجار العلمي وشكل أحد التحولات البارزة التي تأثر بها عصرنا، له تداعياته الإيجابية والسلبية، فالإنسان توجيه العلم وتحديد واختيار العلمنة بين البدائل المختلفة، فإنّ الأمر نفسه بالنسبة للتقانة التي ارتبطت بالانفجار العلمي والمعرفي، وصارت ميزة تميّز بها العصر إلى درجة أصبح التوجه الإنساني المعاصر علمي تقني، بيد الإنسان تصويب العلم والتقنية نحو تحقيق المصالح العليا لدى الإنسان من عدل ومساواة وتعاون وغيره أو نحو تحقيق المصالح الضيقة وتكريس الظلم والاستبداد والتعسف، فالتقدم العلمي والتقني سلاح بحدّين حدّ الاستخدام الطيب وحدّ الاستخدام السيئ، والاختيار نتاج عقل الإنسان وإرادته.
    3- التسارعية:
    * التسارعية ميزة من ميزات العصر الحاضر، تعني تسارع وتيرة الأحداث والوقائع التي يعيشها الإنسان وتعاظم جريانها بكيفية لا تسمح بالتواصل المألوف واللحاق العادي بهذه الأحداث والوقائع داخل المجتمع على مستوى الحياة الفردية أو على مستوى مؤسسات المجتمع المختلفة وعلى مستوى الدول والشعوب المختلفة، الأمر الذي جعل الإنسان دوما في توتر وفي انتظار وقلق، فلا هو استطاع أن يتواصل مع مستجدات العصر السريعة ويلحق بها ولا هو قادر على الانعزال وتركها وشأنها.
    * السرعة التي تعرفها وتيرة جريان الأحداث والوقائع تعود بالدرجة الأولى إلى التقدم العلمي والتكنولوجي السريع والهائل، وإلى التوجه العلمي والتقني الذي عرفه العصر وتميّز به من دون مراعاة تأثيراته السلبية على حياة الإنسان عامة، وما سببه من صدمة تجاوز المعرفة والعلم والتقنية وأحداث الحياة ووقائعها الإنسان، فلم يعد مُلمّا بكل ما يجري من حوله على الرغم من أنّه هو مُفجر الأحداث والوقائع في جميع مجالات الحياة، هذه الأحداث والوقائع التي عجز عن التواصل معها واللّحاق بها، وهي حالة من الضعف والتخلف تعبر عن إحدى الأزمات التي يعيشها الإنسان المعاصر، وتكون الأزمة مضاعفة في بلدان العالم المتخلف لما لها من تأثير سلبي على حياة الإنسان وهو يسعى إلى تحقيق التنمية الشاملة، ويكون الوضع مرّا ومؤلما بالنسبة للإنسان الذي مازال يعيش في مرحلة الإصلاح الفكري والديني والسياسي وهي مرحلة سبقت النهضة والثورة العلمية والتقنية في الغرب.
    * التسارعية نتيجة حتمية لتنامي وتعاظم المعرفة العلمية والتقنية بسبب التطور الذي عرفته مناهج وتقنيات البحث العلمي في العلوم الرياضية والطبيعية والإنسانية والاجتماعية، وبسبب استحواذ التقانة على كافة الأعمال في جميع مجالات الحياة، وقطاعاتها السياسية والاقتصادية والثقافية والخدماتية وغيرها، مما أدّى إلى ثورة المعرفة والمال والتكنولوجيا والاتصال والإعلام وتراكمها على نحو مثير وهائل، رافقته سرعة مثيرة وهائلة في تبدل المنتجات السلعية الميكانيكية والإلكترونية والعلاقات الاجتماعية والتحالفات وغيرها.
    * الوضع الحالي التسارعي أبعد الفرد والمجتمع والإنسانية عن التوازن وأدّى إلى توتر واضطراب التوجهات وتكبيل الحريات والانصياع لمتطلبات السوق ولقرارات السياسيين ورجال المال والأعمال الذين لا يبحثون إلاّ عن مصالحهم الضيقة، ومن جهة أخرى أصبح الإنسان في ظل التسارعية بعيدا عن الطبيعة الموضوعية وبعيدا عن طبيعته كإنسان، فهو يجري وراء السلع والمنتجات المادية المتبدلة بسرعة، ويلهث وراء أي جديد دون أدنى اعتبار للقيّم الإنسانية والدينية والأخلاقية والاجتماعية، فهو يقفز في المجهول وعاجز عن المفاضلة بين خيارات متعددة، الأمر الذي بعث فيه الحيرة والقلق ووضعه في مأزق الصراع مع تسارع الزمن والمعرفة والأحداث والأتمتة والتاريخ والحضارة، وفشله في الخروج من هذا المأزق.
    4- الذرائعية:
    * من الأفكار الأساسية في الفلسفة الذرائعية أنّ العقل نمط معين من السلوك يغيّر ويعالج بواسطته الإنسان أوضاعه في بيئته على منوال يعينه على الحياة، والعلامة التي تدل على وجود العقل في أي حادثة سلوكية هي أنها تتضمن استهدافا لغايات مستقبلة واختيارا للأدوات والوسائل التي تؤدي إلى بلوغ تلك الغايات. إنّ المنفعة والقيمة والنجاح هي المعيار الوحيد والكافي للحقيقة والصدق واليقين، وهي أيضا بصفة عامة جوهر الحقيقة وكنهها. الحقيقة لا تعرف الثبات، بل هي تُنتج باستمرار وتخلق ألوانا شتى من الخلق والسلوك الحر، ويعجز العقل عن إدراك هذه الحقيقة، وتقوم كل معرفة على أساس التجربة.
    * تقوم الفلسفة الذرائعية على فكرة الأداتية، التي تجعل من العقل والتجربة وسائر الوسائل الفكرية والمادية، المنطقية والمنهجية، العلمية والتكنولوجية والفلسفية وغيرها أدوات وجسور لبلوغ غايات ومصالح ومنافع معينة، وأي عمل أ وفكر لا يجلب منفعة لا قيمة له ولا يمثل الحقيقة وهو ضرب من العبث والعبثية المذمومة، الطابع الذرائعي البراغماتي النفعي الأداتي هو الذي طبع التوجه الفكري والفلسفي والاجتماعي والثقافي في العصر الحاضر، التوجه الذي سبب أوضاعا متأزمة فكريا وأخلاقيا واجتماعيا وسياسيا واقتصاديا.
    * التوجّه الذرائعي للعصر الحاضر ومن منطلق الفكر الفلسفي الذرائعي أقصى كل ما هو مقدس وعمل على إبعاد دور الأديان والأخلاق والعادات والتقاليد والقيم وسائر المبادئ التي تتسم بالقداسة والإطلاق عن التحكم في حياة الفرد والمجتمع والدولة، والحرص على الاهتمام بالمصالح الغالبة لدى الأفراد والفئات والجماعات، من منطلق حفظ المصلحة وتحقيق المنفعة، ومن مبدأ إقصاء كل ما يؤدي إلى العبث والعبثية المذمومة، الأمر الذي أدّى إلى فقدان التوازن بين الجانب الروحي والجانب المادي، الجانب النظري والجانب العملي في حياة الإنسان على المستوى الفردي والاجتماعي والإنساني عامة، لكون التوجه العام يقوم على الذرائعية ذات التصور البراغماتي النفعي الأحادي للحياة الذي أحدث مشاكل خطيرة وعديدة في مجتمعنا المعاصر بصفة عامة وفي المجتمعات التراثية التاريخية ومنها المجتمع العربي والإسلامي.
    * جعل التوجه الذرائعي في العصر الراهن وبسبب التوجه العولمي العلمي التقني الذي جعل الكرة الأرضية مجرد قرية الغلبة والسلطة والنفوذ فيها للأقوياء يحفظون مصالحهم على حساب الضعفاء وفي ضوء التزاحم والتنافس على المنافع منصبا فقط على السعي الحثيث لنيل الحظوة والمكاسب والمناصب، والبحث عن القوت وجمع المال بكل الأساليب والطرق، المسموح بها قانونيا وغير المسموح بها، المشروعة أخلاقيا وغير المشروعة، إنسانية كانت أو غير إنسانية، هذه الوضعية أدّت إلى طغيان وسيطرة منتهجي النهج الذرائعي وفلسفته اقتناعا أو ذريعة وتبريرا لوضع ما تميّز في غالبيته بانتشار الفساد والرذيلة وكل أنواع الظلم والاستبداد والحيف الاجتماعي في حياة الفرد والفئة والدولة والإنسانية جمعاء.
    5- التخايلية:
    * الخيال أو التخيّل مرتبط أساسا بالقدرة على إدراك الأشياء أو الأحداث في غيابها، وتقوم هذه العملية على التصور والتذكر التصويري والاسترجاعي، وترتبط بأشياء عديدة مثل الوهم وأحلام اليقظة والتظاهر وغيره. ويتضمن الخيال التخيل العقلي الذي هو قدرة على أن يُستدعى إلى العقل الإحساس بالمشاهد والمناظر والأصوات والأذواق والروائح واللمسات التي مارسها الإنسان. والخيال قدرة ذهنية يشترطها الفعل الإبداعي وسبيل الحضارة الذي يحرص على تحقيق التوافق والانسجام بين الإنسان والطبيعة، ويمثل الخيال الجاد وغير الجاد القدرة العقلية الوحيدة التي تمكن الإنسان من التعاطي مع الأبعاد الثلاثة معا وفي الوقت نفسه، فهو يعيش الحاضر والماضي بالخيال الاسترجاعي والمستقبل بالخيال التصوري والإبداعي.

    * الخيال قدرة على تأليف القصص وابتداع الحكايات ونسج الروايات وحبكها، هذا الفن الخيالي القصصي الذي عرفه الإنسان منذ القديم وتنامي عبر العصور حتى صار متطورا جدّا يُعرض في أفلام متنوعة تعرضها أجهزة البث التليفزيوني والسينمائي والمسرحي، وعرف هذا النوع من العرض رواجا كبيرا، وأصبحت مادته ووسائل بثه وعرضه أكثر استهلاكا من أي وقت مضى ومن طرف جميع الناس الذين ينتجونه والذين لا ينتجونه، نظرا لتطوره ولارتباطه بحاجات الناس خاصة فئة الشباب منهم في اللهو واللعب والتسلية والمتعة، إلاّ أنّ هناك العديد من الأعمال التخايلية الجادة التي تحفز العقل وتشجع التفكير وتدعوه إلى صب مادة التخيل وصوره في مواقف محددة وبناء وجهات نظر معينة وتأسيس نظريات مختلفة، فهذا "كارل بوبر" يجعل من الخيال الإبداعي العلمي شرط تأسيس العلم والاكتشاف العلمي والتثبت من الفرضيات العلمية على حساب الاستقراء التجريبي، فالخيال الجاد بالإضافة إلى ما يقدمه من إبداعات يقوم بدور بلورة الأحكام المميزة بين الموضوعات بجلاء، هذه الأحكام والمواقف تعالج القضايا الأخلاقية والفلسفية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها، كما تدفع المتعاملين مع هذه المواقف والأحكام إلى المساهمة في إيجاد الوسائل والسبل وتقديم المقترحات لتطوير الخيال الجاد باستمرار وتطوير أجهزة وأساليب عرضه.
    * أصبحت التخايلية في شقهّا الجدّي وفي شقّها غير الجدّي ميزة من الميزات الأساسية في عصرنا وأحد توجهاته البارزة، وذلك لما عرفه ويعرفه العصر من تطور غير مسبوق في تقنية إنتاج الأعمال الخيالية وفي تطور أجهزة وأساليب عرضها وكثرة المنتجات الخيالية بغير ضابط أو قيد وانتشارها بدرجة شاسعة جدّا وتجاوز ما هو عادي مألوف وما هو طبيعي واقعي، فأصبح الإسراف في ممارسة الخيال بعيدا عن تحقيق التوافق والانسجام بين الإنسان والطبيعة أمرا عاديا، الأمر الذي وضع الإنسان في ظروف غير عادية وترتبت عنها آثار سلبية خطيرة وكثيرة.
    * من آثار وانعكاسات التخايلية خاصة في جانبها الهزلي إقصاء العديد من القيّم الإنسانية الموروثة الأخلاقية والدينية والإنسانية عامة، التي تأسست عليها الكثير من الحضارات القديمة، وشهدت لهذه الحضارات بالرفعة والسؤدد ماديا وروحيا، فرديا واجتماعيا، نظريا وعمليا، كما أفقدت الإنسان إنسانيته وتوازنه وأفسدت صلته بالطبيعة وصلة الفكر بالوجود والكون ككل، ونجحت في إبعاد الإنسان عن حالته الطبيعية المثمرة وعن رسالته التاريخية ودوره الحضاري، وهو دور مؤسس واعي غائي وهادف يعي المنطلق والمبدأ والمنهج والمصير بعيدا عن العبثية والندم، أصبح الإنسان في حالة من عدم الجدية، حالة غاصة باللهو واللعب والتسلية، يسيطر عليها الهزل والإهمال واللامبالاة، وأصبحت الأجيال تتزاحم وتتسابق في استهلاك ما تنتجه التخايلية حتى وإن كانت هذه المنتجات تصطدم بالقيم التراثية التاريخية الحضارية للأمم والشعوب، وتُكرّس توجّهات فكرية وفلسفية وثقافية غريبة عن الإنسان في هذا العالم، وتتعارض مع الثقافات الموروثة لدى الأمم المختلفة، مثل توجهات ما يسمى بما بعد الحداثة كالتوجه العبثي والتوجه العدمي وغيره، هذه التوجهات التي غيّرت من مواقف الإنسان فاتجهت صوب تسييب الحياة والخضوع لليأس والقنوط والملل وللانتحار في بعض الأحيان.
    * تأثرت الثقافة المعاصرة في العالم المتقدم وفي غيره بالتخايلية واتسمت بها، وبان ذلك بجلاء في مختلف الآداب والفنون وغيرها من مظاهر الثقافة والفكر، فأصبحت مظاهر الثقافة والفكر تحمل هذه التخايلية وتعبر عنها، كما حملتها وتحملها المنتجات الترفيهية التي عرفت تطورا هائلا في تقنية إنتاجها وفي أساليب استعمالها خاصة من حيث تجددها وتنوعها، الأمر الذي أدّى إلى تنامي وتعاظم الاهتمام بالمنتجات الترفيهية على حساب غيرها والتي صارت مصدرا للكسب الوفير وعاملا من عوامل تفشي العبثية وانتشار العدمية السلبية الأمر الذي أحدث انقلابا في عالم القيّم، فتحوّل توجه الإنسان إلى قيّم غريبة لا يستوعبها الفكر الإنساني المألوف والأخلاق الموروثة، وأصبح مجتمعنا المعاصر مجتمعا يعج بالفساد وخيبة الأمل.

    6- الفصامية:
    * الشِيزُوفرِينيااسم يُطلق على مرض يسمى انفصام الشخصية أو الفصام  وهو مرض عقلي خطير تصاحبه اضطرابات في التفكير يصعب التنبؤ بها، ويدل مرض شيزوفرينيا على انقسام العقل، ويُبيّن أنّ السلوك المميز للشيزوفرينيا هوالانسحاب من الحياة في الفكر والواقع بأساليب مضطربة وليست منطقية ولا يعني هذا المرض تعدد الشخصية.وهو مرض أكثر الاضطرابات العقلية انتشارا، بعض المرضى تسيطر عليهم الأوهام وكأنهم يعيشون في عالم خيالي كما يعانون من توترات في المزاج والسلوك، ويفقدون العواطف والتعاطف ويبتعدون ن الأسر والأصدقاء ويفضلون الانطواء، يصعب على الأطباء في أغلب الحالات المرضية اكتشاف أسباب المرض وقد تكون الوراثة مسئولة عنها جزئيا.
    * الأمراض العقليةتَشمل عددا من الإصابات التي تصيب العقل وتؤثر على تفكير وأحاسيسوسلوك الإنسان، وفي العموم يمر أغلب الناس في حياتهم بفترات قصيرة من الحزن والغضبوالخوف، ولكن يمر بعضهم بفترات طويلة يعانون فيها من اضطرابات شديدة في الأمزجةوالأحاسيس والسلوكيات الطبيعية، مما يؤدي إلى شعورهم بعدم السعادة وبعدم الرضا عن غيره، وبعدم الرغبة في إنجازأعمالهم، وبصعوبة التعامل مع الآخرين، يتعامل المرْضَى عقليا مع حالاتهم الصحية بعدة طرق، فمنهم من يُفسر سلوكهبإلقاء اللوم على الآخرين، ومنهم من يحاول الهروب من الواقع وعدم الاهتمام بمايدور حوله، ومنهم من يضر نفسه وغيره.
    * تصيب الأمراض العقلية الإنسان في جميع البلدان المتقدمة والمتخلفة، ولكن يتباين تعريف المرض والتعاطي معه بتباين المجتمعات، وتُعرف الأمراض العقلية في الطب النفسي والعصبي باسم الأمراض الانفعالية أو الأمراض النفسية، وعلى الرغم من النجاح الذي حققه الطب النفسي والعصبي مازالت أسباب هذه الأمراض غير واضحة وغير دقيقة لارتباط هذه الأمراض ببعض الإصابات الدماغية وبعدم التوازن الكيميائي والغذائي وبعوامل بيئية أو باجتماع عدة عوامل.
    * . تُعدُّ كل من أمراض الفُصام والهوسالاكتئابي من الأمراض العقلية، إذ كشفت البحوث وراثة الأطفال للعوامل الوراثيةالتي تؤدي إلى الاختلالات الكيميائية في الدماغ، ومن ثَم الإصابة بهذه الأمراض، ولكن تجدر الملاحظة إلى أن لبعض العوامل البيئية اليد العليا في الإصابة بهذه الأمراض، ويحدث الكرب العاطفي وهو أحد الأمراض العقلية من كثرة العمل، والضعف الصحي والمشكلات المالية، والمسؤوليات العائلية، ويؤدي الكرب العاطفي الخطير إلى صعوبةمواجهة الإنسان لمشكلاته اليومية والروتينية، وعند اشتداد الكَرب بصورة كبيرةينهار الإنسان ويُصاب ببعض الأمراض العقلية، وتعتمد قدرة الإنسان على مجابهةالكَرب على بُنيانه الجسدي وتجاربه الماضية ومشاكله الحالي.
    * لما كانت الأمراض العقلية بمختلف أنواعها تصيب الإنسان ومرتبطة سببيا إمّا بالوراثة وإمّا بعوامل بيئية فإنّ بيئة العالم المعاصر وظروفه المختلفة وتحوّلاته المعقدة والسريعة مما عرفناه في السابق من أتمتة وتسارعية وذرائعية وغيرها كثير هي كانت وراء انتشار الفصامية وغيرها من الأمراض العقلية والنفسية، بل ظهرت أمراض جديدة عجز الطب النفسي والعصبي تماما عن تشخيصها وعلاجها، لكنها مرتبطة في الأصل بأوضاع العالم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعلمية والتقنية وبما أفرزته هذه الأوضاع من تداعيات وانعكاسات وتوجهات سلبية على حياة الإنسان وعلى توازنه العقلي والنفسي والفكري والاجتماعي، خاصة في بلدان العالم المتخلف، فأدّى إلى اضطراب العقول والنفوس والشخصيات، للعجز عن التوفيق بين تحوّلات العصر ومظاهرها وبين ما تدعو إليه الأديان و الأخلاق والقيّم العملية، وأصبح الإنسان عرضة للشر في اتجاهات متعددة في ظل مؤثرات عديدة.
    * مظاهر وتداعيات الفصامية كثيرة ومتنوعة، نذكر منها غياب التمسك بالقيّم العليا وبالمبادئ السمحة المقررة في المنظومات الأخلاقية والدينية التي قامت عليها ثقافات وحضارات قويّة جمعت بين ما هو روحي وما هو مادي في توازن وانسجام؛ الانغماس فيما يجري في الواقع المعيش من تطورات ومستجدات على غير بيّنة ومن دون تبصر للأسباب والمناهج والنتائج والآثار؛ اصطباغ العمل بصبغة الآلية والروتين والمادية ولم يعد سوى وسيلة لتحقيق القوت اليومي والكسب المادي والمال والرفاهية الاجتماعية وانتفت عنه تماما صفة الواجب الأخلاقي أو الديني؛ الصراعات الهامشية والضيقة من أجل السفاهات والتافهات وغياب العناية بما يؤسس لبناء تاريخي وحضاري واجتماعي قويّ ومتطور ومستمر يحفظ للإنسان حقوقه ويضمن العدالة والمساواة بين الجميع أفراد ومجتمعات ودول؛ الانكفاء على الذات وتجاهل الآخر واستعمال كل الأساليب المشروعة وغير المشروعة أخلاقيا ودينيا وقانونيا وإنسانيا لتحقيق المصالح الخاصة والضيقة على حساب الغير؛ انتشار الجريمة بمختلف أنواعها وتعددت بتعدد قطاعات مجالات الحياة، وساعدت تحولات العصر على التفنن في التخطيط لها وفي ارتكابها وكثرة الاختصاصات في ممارسة الإجرام؛ انتشار الانحراف السلوكي والانحلال الأخلاقي والشذوذ الجنسي وغيره؛ انحصار الاهتمام في البحث عن الملذات والانغماس في اللهو واللعب والترفيه والتسلية؛ بناء الحياة على الاستلاب من الأقوياء نحو الضعفاء على مستوى الأفراد والفئات والمجتمعات والدول؛ انتشار العنف والعنف المضاد؛ العبث بالقيم كالصدق والحق والخير والعدالة والمساواة وغيرها؛ انتشار العنفوية والميوعة في أغلب المجتمعات، وأثّر ذلك سلبا على شبكة العلاقات الاجتماعية التي لم تزدد إلاّ تصدعا وتفككا ومعرضة للانهيار فينهار المجتمع ككل.
    * إذا كانت الفصامية مرضا عقليا ونفسيا يصيب الإنسان في أي مجتمع وفي أي مرحلة من مراحل حياته قد تكون أسبابه معلومة أو مجهولة، مرتبطة بالوراثة أو متصلة بالبيئة أو بهما في الوقت نفسه، فإنّ الفصامية في عالمنا المعاصر صارت ميزة من ميزاته وتحولا من تحولاته البارزة، ومرضه المزمن العضال، فهي تنخر جسم الإنسانية باستمرار، ويتضاعف خطرها ويقوى تأثيرها السيئ بمقدار مدى ودرجة التقدم الذي يعرفه العالم في مختلف مجالات الحياة، وبمقدار تنامي وتعاظم توجهات العصر وتحولاته نحو عولمة متوحشة وأتمتة صمّاء وعلمنة مجردة من مكارم الأخلاق وذرائعية ماكرة وتسارعية غير محسوبة وتخايلية غير مسئولة وغير هادفة، كل هذا يجري على غير بصيرة.
    7- تداعيات الحداثة وما بعد الحداثة:
    أ- الحداثة:
    * الحداثة مفهوم واسع يدل على اتجاهات ومواقف وأعمال نقدية كثيرة في المجتمع والدين والأخلاق والأدب والسياسة والعمران وغيره، كما يدل على إنكار دور التقليد والتقاليد والماضي والحرص على إيجاد توجهات جديدة تلغي المطلق المقدس في النظر والعمل وتُقوّي دور الفرد وتؤكد حريته، والحداثة هي حركة نقدية مناهضة لتقاليد الكنيسة الرومانية الكاثوليكية نشأت في بلدان أوربا الغربية وفي الولايات المتحدة الأمريكية في القرن التاسع عشر الميلادي، دعت الحركة إلى إعادة قراءة وتفسير الدين والنصوص الدينية من منظور تاريخي علمي سيكولوجي فلسفي عرفه القرن التاسع عشر، وتناول الدين ونصوصه برؤية نقدية صارمة وفاحصة، الأمر الذي جعل الكنيسة الرومانية الكاثوليكية تُدين رواد هذه الحركة وتعتبرها خارجة على قيّم النصرانية ومبادئها. أما في الحياة الأدبية والمعمارية والاجتماعية عامة فإنّ مفهوم الحداثة يختلط بمفاهيم أخرى كثيرة منها التنمية والتحديث والمعاصرة والتجديد والتقدم وغيرها، ويظهر هذا الخلط بجلاء في الخطاب الفكري الثقافي العربي الإسلامي، بين مفهوم المعاصرة التي تدل ضمنيا على التطور والتجديد والتحديث وبين الحداثة التي هي فكر نقدي غربي لما هو ديني كنسي.
    * ارتبطت الحداثة بالحقبة التاريخية التي عرفها القرن التاسع عشر الميلادي، وتميّزت بصفات طبعت بقوة عطاء هذه الحقبة، اختلف المفكرون في التعبير عن هذه الصفات وعن أسبابها ونتائجها، فالحداثة تعني النهوض بشروط العقل والنقد ولوازم التقدم وأسباب التحرر، فاقترنت الحداثة بالعقلانية والروح النقدية وبالازدهار العلمي والتكنولوجي والاجتماعي وبالحرية والديمقراطية والتعددية، وتعني من وجهة نظر أخرى ممارسة الإنسان لسيادته بواسطة العلم والتقنية في المستويات الثلاثة الطبيعة والمجتمع والذات، وتعني لدى البعض طلب الجديد في النظر والعمل والحياة عامة والعقلنة وحقوق الإنسان وقطع الصلة بالدين. والحداثة كحركة نقدية ظهرت بذورها الأولى في القرن السادس عشر والقرن السابع عشر من خلال الصراع الذي قام بين السلفيين والمجددين واستمر هذا الصراع حتى القرن التاسع عشر وانتهى بغلبة أنصار الحداثة والتحديث وارتبط ذلك تاريخيا وحضاريا عبر ثلاثة قرون ومن العديد من التحولات الإستراتيجية الكبرى أهمها النهضة في إيطاليا و الإصلاح الديني في ألمانيا والثورة العلمية والثورة الصناعية في انجلترا و الثورة الفرنسية، هذه التحوّلات أفرزت المبادئ الأساسية للحداثة والتحديث، وأهم هذه المبادئ مبدأ الرشد الفكري وعدم التبعية للغير ومبدأ النقد الذي يقوم على التعقيل والتفصيل أو التفريق ومبدأ الشمول ومبدأ التوسع ومبدأ التعميم، هذه المبادئ عجّلت في انتشار الحداثة وتوجهاتها في الغرب الأوربي وفي الولايات المتحدة الأمريكية وفي مختلف أقطار العالم إذ صارت الحداثة وتوجهاتها السبيل الوحيد للخروج من التخلف وبلوغ التقدم والازدهار.
    * يتضح مما سبق أنّ الحداثة ليست مفهوما سوسيولوجيا بحتا وليست مفهوما سياسيا محضا وليست مدلولا تاريخيا صرفا ولكنها ميزة حضارية تعارض صبغة التقليد، وهي كمدلول حضاري تتركب من عدة مقومات يختل مدلولها عند غياب أي مقوم من مقوماتها، ومقوماتها هي العقلانية والنقدية والحرية والعلمية والعلمانية والتعددية وكل هذا يقوم على التوجه الليبرالي الذي يقوم على الإيمان الراسخ بالنزعة الفردية القائمة على حرية الفكر والتسامح واحترام كرامة الإنسان وضمان حقوقه في الحياة واعتبار المساواة هي أساس التعاون وهي منطلق لاحترام الأفراد ولضمان حريتهم، ويغيب دور الدولة في تحديد العلاقات الاجتماعية وفي ضبط الأنشطة الاقتصادية إلاّ في حالة الإخلال بمصالح الفرد والمجتمع. ومن الناحية السياسية يقوم التوجه الليبرالي على تكريس سلطة الشعب وتحقيق سيادته عن طريق التعددية السياسية وتعدد الأحزاب والمنظمات والجمعيات وتعدد البرامج وغيرها وعن طريق الاقتراع العام، وذلك من أجل التعبير عن إرادة أفراد المجتمع والتخلص من الفساد واحترام مبدأ التداول على السلطة والحكم ومبدأ الفصل بين السلطات وخضوع هذه السلطات للتعديل لضمان الحريات الفردية والحد من الامتيازات الخاصة ورفض العمل والممارسة بعيدا عن المؤسسات المعبرة عن إرادة الشعب برمته، وهذا ما يعرف بدولة القانون والمؤسسات، بما أنّ الليبرالية توجه يعتمد على قيّم حرية الفكر والرأي والتعبير والتسامح واحترام الآخر والإصغاء إليه فإنّها تحترم مبادئ السلم العالمي، حقوق الإنسان، الحفاظ على البيئة، نزع أسلحة الدمار الشامل، احترام وتطبيق قرارات الشرعية الدولية في النزاعات، وتشجع على العولمة وعلى الحوار بين الحضارات وبين الأديان لتشمل إشكاليات معرفية وعلمية، فتتحدد العلاقة بين الحداثة وغيرها من التوجهات الثقافية والدينية والتاريخية لشعوب العالم فيحصل التأثير المتبادل بين الحضارات ويستفيد الجميع من الحضارة الحديثة والمعاصرة.
    * المتأمل في واقع الفكر الليبرالي الذي تبنى الحداثة بكافة أنماطها وتبنّته قد عرف انتشارا كبيرا في العالم أجمع أثناء العقود السابقة، ونظرا للتواصل الفكري والثقافي والسياسي مع الغرب انتشر الفكر الليبرالي الحداثوي في العالم العربي والإسلامي المعاصر، من خلال عدد من المثقفين والباحثين والمفكرين الذين تشبعوا بأفكار الحداثة والليبرالية وحرصوا على نقلها وزرعها في أوساط الجماهير العربية والإسلامية لانتهاجها في الحياة الثقافية والسياسية والاقتصادية وغيرها، وتبنت العديد من الجهات الرسمية الحكومية في العديد من دول العالم العربي والإسلامي الحداثة والفكر الليبرالي بعد تحررها من الاستعمار، ولما كانت تلك الدوائر الرسمية والجهات الحكومية قريبة من الاستعمار والغرب، لكن من جهة أخرى لقيت حركة الحداثة والليبرالية معارضة شديدة من طرف تيارات إسلامية وأخرى قومية عربية وقومية اشتراكية، ولم تكن هناك قناعة تامة بالانتماء الفكري للحداثة ولليبرالية لدى الكثير من أبناء الشعوب العربية والإسلامية، إلاّ النخبة التي درست في الغرب واطلعت على تراثه وثقافته وحضارته، وقامت محاولات عديدة لطمس الهوية الدينية والثقافية والتاريخية والقومية والعمل على إجبار الشعوب بتمثل الفكر الليبرالي وثقافة الحداثة على النمط الغربي وتسييسها بالفكر الليبرالي ونهج الديمقراطية، وقام الصراع على أشدّه في الفكر العربي الإسلامي بين أنصار الليبرالية والحداثة ومعارضيهم من الإسلاميين وغيرهم، وأما هذا الجدل الواسع حول مفاهيم الحداثة والليبرالية والعروبة والإسلام وغيرها في الفكر العربي الإسلامي المعاصر لم يحدث أيّ تغيير يُذكر في جدوى الدلالات والقيم الفكرية والفلسفية الضرورية للنهضة الإصلاحية، وذلك لغلبة الشعارات الدعائية على الأطروحات المقترحة هذه الشعارات التي لا يعنيها أن تتحقق في الواقع أو حتى السعي نحو تحقيقها في المستقبل مادام الغرب هو الوجهة والمصدر والانتماء ومصلحته فوق كل اعتبار.
    * مع مرور الوقت اشتد الاختلاف واحتدم الصراع بين أنصار الحداثة والليبرالية وبين معارضيها في المجتمعات العربية والإسلامية وهي مجتمعات تراثية تاريخية تعيش على الماضي ولا يمكنها التخلي عنه، ومن التيارين الاثنين التيار الليبرالي والتيار السلفي ظهر تيار آخر يحاول من جهته تجاوز أزمة التخلف وحل إشكالية الحداثة بمنهج يجمع بين الليبرالية والحداثة والتراث، ويركب ويوحد بين التراث والوافد، وقامت دعوات عديدة تدعو إلى عدم الاكتفاء بالقول بأنّ التراث وحده يكفي، وبالموقف الذي يرد الحلول كلها إلى التراث الروحي الديني، الكتاب والسنة، الإسلام عقيدة وشريعة، فالقول يكون صحيحا والموقف يكون سديدا في حالة واحدة هي الاجتهاد في قراءة التراث واستثماره من غير تعصب للفرق والمذاهب التي يعتبرها الكثير من المهتمين بدراسة التراث فرقا ومذاهب ذات أبعاد سياسية وصراعاتها حزبية، وفي حالة التحرر من تأثير السياسة في الرؤى الاستشرافية وفي التوجهات نحو قضايا الحاضر والمستقبل بروح نقدية تعتبر المقاصد والمصالح، في هذه الحالة يمكن الاعتماد على الإسلام عقيدة وشريعة لأن التراث في هذه الحالة يصبح لا يمثل ما تركه لنا الأسلاف من اجتهادات بل يمثل بالإضافة إلى ما تركه الأسلاف ما تمّ التوصل إليه من اجتهادات تتمثل في حلول لمشكلات الحاضر والمستقبل، فيجتمع الماضي والتراث بالحاضر والعصرنة أي اجتهاد الماضي باجتهاد الحاضر.
    * إنّ بذل الوسع والعطاء في التوحيد بين ما هو في الماضي وبين ما هو في الحاضر يمثل الدلالة الحقيقية لمعنى التجديد، وحسب تصور بعض المفكرين المعاصرين للموضوع هو أنّ التجديد المراد في الإسلام الذي يتناول ما جاء به الإسلام ببيان ما جاء في العقيدة والشريعة للناس، أما ما جاء خارج العقيدة والشريعة من العلوم والمعارف والأفكار والمناهج في السياسة والاقتصاد والبحث العلمي والصناعات فهذه لا صلة لها بمعنى التجديد بالمدلول الفقهي الإسلامي، ولا صلة لها بالتراث الإسلامي كتراث خاص بالمسلمين وملك لهم حتى وإن كانت من إنتاج أسلافهم، فإنتاج أسلافهم في ميادين العلوم العقلية والتجريبية والفنون والصناعات هو جزء من التراث الإنساني العالمي، هو إسهام حضاري للأسلاف وحضارتهم في التراث الإنساني الحضاري العام، وارتباط التراث الحضاري الإنساني العام في ميدان الفلسفة والفن والأدب والعلوم والمناهج والنظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية يبقى دوما متصلا بالماضي، وإذا كان الذي يطبع العصر الراهن هو حصول التقدم بوتيرة سريعة جدا فإنّ الشرعية العلمية تُضفى على العلوم الرياضية والتجريبية من خلال أخطاء العلم والأمر نفسه في العلوم الإنسانية والاجتماعية، لأن تاريخ هذه العلوم هو تاريخ لنظريات ومواقف لم تعد مشروعة في عصرنا، تجاوزها العصر وأصبحت تراثا، هذا ينطبق على جميع العلوم التراثية اليونانية والعلوم ما قبل اليونان وعلوم العصور الوسطى وعلوم العصر الحديث، مما يدل على عدم وجود معنى للتجديد بالمفهوم الإسلامي في المجال العلمي العقلي والطبيعي والإنساني لارتباط التفكير العلمي بالإنسانية ماضيا وحاضرا ومستقبلا على الدوام، ولارتباطه بالتراث الإنساني العام كلّما أصبح في الماضي.
    * الحداثة حسب المنظور التوفيقي في الفكر العربي الإسلامي وفي تناول الجانب الروحي الديني يدعو أصحابها إلى الاجتهاد في القديم والحرص على تجاوزه بواسطة التحرر من عوائق التقدم فيه، لأنّ الحداثة في حقيقتها انقلاب على التراث القديم لإبداع تراث جديد، وهي في عصرنا في العلم أو في غيره من حقول المعرفة والفكر وفي مجالات الحياة عامة لا ارض لها ولا تقبل الانحصار، فهي كاسحة وغازية إن لم يستوعبها الإنسان وأخذ بها أخذته، وإن اعتزلها اعتزلته ورمت به خارج الحاضر والمستقبل، والتجاوب مع الحداثة لا يعني البتة الإعراض عن التراث والسقوط الحر في أحضان الحضارة المعاصرة التي هي حضارة الآخر، فالانتظام في التراث شرط تأسيس وتأصيل الحداثة، ويدعو الكثير من المفكرين في العالم العربي المعاصر إلى إعادة بناء العلاقة مع التراث من منظور حداثي وبكيفية حداثية، فالحداثة المطلوبة هي تلك التي تبدأ باحتضان التراث واستيعابه وإعادة قراءته وإحداث جملة من الفواصل بين الحاضر والماضي للوصول إلى تراث جديد مرتبط بالتراث القديم على أساس الذاتية والهوية والمحلية، ومستقل عنه ومتصل بالعصر وبالإنسانية على أساس الشمولية والعالمية، ويخلص مفكرو العالم العربي والإسلامي المعاصر بأنّ هذا الأخير قد تزداد المسافة طولا واتساعا بينه وبين الحداثة إذا ما أعرض عنها كليا فترميه خارج العصر وخارج الحاضر والمستقبل، لأنّ الحداثة أصبحت أساس الحياة في كل مجالاتها، الحداثة في الفكر والثقافة والفلسفة والعلم وفي السياسة والاقتصاد وفي الحياة الاجتماعية عامة، فهي ضرورية لإنتاج المعرفة ولإنتاج التقانة ولإنتاج المؤسسات التي تحمي حقوق الإنسان وتحقق ممارسة هذه الحقوق والحريات الفردية والاجتماعية، وبما أنّ الحداثة صارت مفروضة على الجميع باعتبارها السبيل الأوحد لمسايرة الركب الحضاري المعاصر ولربط الحاضر بالمستقبل، المستقبل الذي يجب أن يكون للعالم العربي والإسلامي حضورا إيجابيا فيه ومن صانعيه.
    ب- التحديث:
    *التحديثمصطلح يعني التقدم والحركة. والتحديث ضد الثبات والجمود كمايحمل بين طياته معنى التغير والجدّة والنسبية فما كان حديثا بالأمس يصير تقليدياوقديما اليوم؛ وما هو حديث اليوم سيصبح قديما غدا والحركة مستمرة بدون انقطاع ومن غير توقف. فالمستقبل يعيش في أرضالحاضر. ولا يتجلى التحديث إلا من خلال الإبداع لا التقليد.
    *أما التحديث في اللّغة العربية فنقيض القديم. والحديث هو الجديد من الأشياء والأفعال والأفكار. وقداستعملت مصطلحات مثل : التحديث والحديث والاستحداث والحداثة وجعل الشيء حديثا،استعمالات عديدة متباينة ومميزة. فأولاً قد يعني الحديث المعاصر أو الأكثر معاصرةوبهذا المعنى فالمراد بجعل الشيء حديثا استبدال المناهج والوسائل والنتائج السائدة بمناهجووسائل ونتائج أكثر حداثة. ويرتبط التحديث والحديث بالتقدم والمعاصرة والتقدمية بالمعنىالمتداول حاليًا بين المفكرين والمثقفين. ويعرّف بعض المنظرين التحديث بأنه نتاجاتساع معرفة الإنسان وسيطرته على البيئة. وثمة تعريف ثان يرى التحديث مجموعة الآثارالتي تترتب على تراكم جديد من المعرفة الإنسانية، وسيطرة الإنسان على الطبيعة فيالعصر الحديث.
    *فالتحديث هنا يعني قدرة المجتمع على التفاعل مع المعلومات المتاحة والاستجابةلهذه المعلومات. كما عُرّف التحديث بأنه قدرة النسق على إحداث التغير، ولكن لن يكونهذا التغير عملية آلية، بل نتيجة تدبر عقلي وإرادة بشرية. وهناك تعريف رابع يقول إنالتحديث عملية تحول من البدائية التقليدية إلى المعاصرة ويصاحب هذا التحول تغير فيحجم المجتمع، وازدياد التخصص المهني، وتقسيم العمل والاعتماد على تبادل العلاقاتالنفعية في مجال أكبر وازدياد التحضر وتعقّد شبكة العلاقات الاجتماعية وتلاشيالاعتقاد بالسحر. ويرى تعريف آخر أن عملية التحديث ترتبط بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية وقديعني تغيير الواقع الاجتماعي والاقتصادي بما يتمشى مع مقتضيات العصر مع المحافظةعلى الهوية الثقافية.
    *ولنا أن نصنِّف هذه التعريفات المتباينة للتحديث إلى ثلاث فئات من المعاني؛فالمعنى الأول تحليلي يشير إلى أن التحديث وجعل الشيء حديثا، يقتضي تحقيق خصائصوعمليات اجتماعية مثالية في البناء الاجتماعي، ومن ثم توصف المجتمعات بأنّها حديثةبقدر ما تحقق هذه الخصائص والعمليات المثالية. فالتحديث يرتبط بسعي الإنسان نحو الأفضل والأكمل. أما الثاني قد يعني معنى تاريخيا ويشير إلى وقوع الحدث في فترات تاريخيةمعينة من الزمان تتميز عن المراحل السابقة بخصائصها الجديدة وتتميّز المرحلةالمعاصرة بنمو الرأسمالية وازدهار العلم ولا يعني هذا القول انفصال الحاضر عنالماضي، فهذا تفسير خاطئ. فازدهار الحاضر يرتبط بالماضي إذ إنَّ هذه الخصائص قدنشأت في رحم الماضي. وترتبط هذه الرؤية بروح العصر. أما المعنى الثالث فيرتبط بمجموعة الخطط والسياسات الواعية التي يحققها الساسةوالصفوة لتغيير نمط حياة المجتمع من نمط المجتمع التقليدي إلى نمط المجتمع المتقدموالذي ينظر إليه قادة الدول النامية باعتباره النمط الرائد.
    *وتحدث عملية التحديث في كل المجتمعات وكل الأزمنة ولكن بدرجات متباينة،فالتغيرات المعاصرة تفوق التغيرات السابقة كمًا وكيفًا وسرعة في الوقوع. وقد مارس الغرب ظاهرة التحديث المعاصرة ابتداء بعصر النهضة، فحركة الإصلاحالديني اللوثري، فعصر التنوير ونمو الرأسمالية والثورتين الصناعية والسياسيةوالاعتقاد بالمنهج العلمي وقوة العقل وقد تجاوز الغرب هذه المرحلة إلى مرحلة مابعد الحداثة.
    *وقد ظهرت بدايات التحديث في العالم العربي ابتداء من تأسيس دولة عصرية في مصرعلى يد "محمد علي" وتأسيس الدولة السعودية الثالثة على يد "الملك عبد العزيز"، وقد ظهرتمظاهر التحديث في بلدان شمال إفريقيا ولبنان وسوريا والسودان والعراق ولكن تشابهتحركة التحديث مع التغريب. والحقيقة أن الإسلام لا يرفض التحديث بل إن القرآنوالسنة، وما يتضمنان من تعاليم الإسلام في المعاملات والعبادات كانا تحديثا لمجتمعالجاهلية. بل كان ظهور الإسلام هو أساس التحديث. ولا يوجد تناقض بين الإسلاموالتحديث، ولكن الإسلام يمنع المسلم منالتغريببمعنى التشبه بالفرنجة فيالأفعال والاقتداء بهم في كل شيء. وعملية التحديث ليست سهلة بل عملية منظمة عمادها الإبداع،وتحدث في كل المجالات ابتداء من تحديث الاقتصاد، وأدوات ونظم الإنتاج والتعليموالأداء الحكومي، والطب والزراعة والإعلام، وانتهاء بتحديث الفكر والأدب، والسياسةوالفن والعمارة والعادات. وهناك أسباب عديدة تعوق عملية التحديث في بعض البلدان: أهمها الأميَّة والحروب الداخلية والصراعات القبلية والعرقية وجمود العاداتوالتقاليد والخرافات. وللتحديث خصائص تميز الحقبة الزمنية التي يوجد فيها إذ تحددخصائص التحديث بفترة زمنية محددة تسبق فترة قادمة في التاريخ وتعقب فترة أخرىسبقتها. ويمكن أن نوجز خصائص التحديث المعاصر في:
    1- التساوي في الفرص والتمتع بالحقوق وسيادة القانون.
    2- الإيمان بالمساواة وأهميةدفع المواطنين إلى المشاركة وتحقيق العدالة.
    3- سيطرة التفكير العلمي والاعتقادبضرورة التغيير.
    4- تأسيس المجتمع على المعرفة
    5- ظهور أهمية الروابط التي ينتمي إليها المواطن
    6- الربط بين السياسة والاقتصاد والثقافة والعلم
    7- الازدهار التقني في كل قطاعات الحياة
    8- احترامالطبيعة والمحافظة على البيئة من التلوث.
    *ومن أشهر منظري التحديث في علم الاقتصاد وعلم الاجتماع والتنمية، الاقتصاديالأمريكي "والت روستو" الذي صاغ وابتكر نظرية في التحديث. وللوصول إلى مرحلة التحديثيتعين على كل مجتمع أن يمر بمراحل خمس لا يحيد عنها هي:
    1- المرحلة التقليدية
    2- مرحلة التهيؤ للانطـلاق
    3- مـرحـلـة الانـطلاق
    4- مرحـلة النضج
    5- مرحلة الاستهلاكالضخم.
    أما التنميةيمكن البحث في جذورها الأولى منذ المحاولات المبكرة التي قام بهاالإنسان الأول لمعرفة التغيرات التي تجري من حوله. وقد ارتبط ذلك بالمشاهد الحيةوالتأمل في التغيرات التي تحدث في الموجودات كفصول السنة والنبات والإنسانوالحيوان. حيث أوضحت تلك التغيرات أن هذا الكون في حركة مستمرة وفي تغير دائم. وقدأدت هذه المشاهدات والتأملات إلى بروز جدل فلسفي متواصل حول ماهية الأشياء، وطبيعةالمتغيرات التي تحدث فيها.
    ج-التغريب:
    *التغريب تيار فكريكبير ذو أبعاد سياسية واجتماعية وثقافية وفنية، يرمي إلى التأثير في حياة الأفراد والشعوب والأمم عامة،بالأسلوب الغربي، وذلك بهدف إلغاء شخصيتهم المستقلة وخصائصهمالمتفردة وجعلهم أسرى التبعية الكاملة للحضارة الغربية.بدأ القادة والحكام في العالم العربي والإسلامي مع نهاية القرن الثامن عشر ومطلعالتاسع عشر بتحديث جيوشهم وتعزيزها عن طريق إرسال بعثات إلى البلاد الأوروبية أوباستقدام الخبراء الغربيين للتدريس والتخطيط للنهضة الحديثة، وذلك لمواجهة تطلعالغربيين إلى بسط نفوذهم الاستعماري إثر بدء عهد النهضة الأوروبية.
    *كتب المستشرقون في ظاهرة التغريب ومن ذلك كتاب "إلىأين يتجه الإسلام" الذي يرى فيه المستشرق الإنجليزي "جب" أن من أهم مظاهر سياسة التغريب في العالم الإسلاميتنمية الاهتمام ببعث الحضارات القديمة. وقد أعلن في بحثه هذا صراحة أن هدفه معرفة إلى أي مدى وصلت حركة تغريب الشرق وما هي العوامل التي تحول دون تحقيق هذاالتغريب.
    *يرى "لورنس براون" إن الخطر الحقيقي كامن فينظام الإسلام وفي قدرته على التوسع والإخضاع وفي حيويته. إنه الجدار الوحيد في وجهالاستعمار الغربي. ولهذا فلابد من الدعوة إلى أن يطبع العالم الإسلامي بطابعالغرب الحضاري.لابد منتشجيع فكرة إيجاد فكر إسلامي متطور يبرر الأنماط الغربيةويمحو الطابع المميز للشخصية الإسلامية بغية إيجاد علائق مستقرة بين الغرب
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media