3 ثغرات خطيرة في التحالف ضد داعش!
    الثلاثاء 16 سبتمبر / أيلول 2014 - 10:56
    عباس البغدادي
    سنضع جانباً ان أميركا كانت منذ البداية حليفاً لمحور الإرهاب في المنطقة (السعودية وقطر والأردن وتركيا وإسرائيل)، والذي ساهم بصورة حثيثة في نشأة ودعم وتدريب التنظيمات الإرهابية التكفيرية، والتي منها "جبهة النصرة" و"داعش" و فصائل مماثلة، مثلما أنشأت "الجيش الحر" فكان بوابة تسريب العناصر القتالية لتلك التنظيمات التكفيرية، وكل ذلك كان في أغلب فصوله بصورة علنية، بذريعة تقويض النظام السوري "لإقامة نظام ديموقراطي بديل"، أما ما خفي من أدوار المحور وأميركا، فقد أثبتتها فيما بعد الوقائع والدلائل والاعترافات والتسريبات!
    ينصب تركيز السطور اللاحقة على الطبخة العاجلة للتحالف الدولي الذي بشّرت به أميركا، وكان السيد أوباما قبل أيام من (زفّ البشارة) للمجتمع الدولي بولادة التحالف، قد صرّح بكل وضوح انه "لا يمتلك أية استراتيجية لمحاربة داعش"! وطبعاً جاء هذا التصريح بعد قرابة 90 يوماً من سقوط الموصل، وهكذا وبقدرة قادر، وبعد التصريح (المخيّب لآمال الكثيرين) السالف بأيام؛ أطل أوباما معلناً عن (استراتيجية) التحالف الدولي لمحاربة تنظيم داعش (نثبّت المفارقة للتذكير فقط)!
    قيل الكثير حول أهداف التحالف الدولي الجديد، من المؤيدين والمشككين والرافضين، ولقد تناولت بالتفصيل المخاوف من تدويل الحرب القائمة ضد داعش ضمن مقال سابق؛ "حروب داعش ومنزلق التدويل"، ولم يطرأ ما يمكن أن يغير قناعتي بما كتبت، رغم ان التحالف الدولي لم يتبلور كلياً حينها مثلما هو حاصل الآن. وحتى نكون موضوعيون، ودرءاً للإطالة، فرضت ثلاث ثغرات أهميتها ضمن دائرة منطلقات وخارطة طريق التحالف الدولي ضد داعش، اذ يمكن وصفها بالخطيرة، كما يمكن القول ان أحد أوجه هذه الخطورة هو تجاهلها؛ وعدم الالتفات الى أهميتها من قبل أغلب المتابعين، ممن يتوجسون من (النوايا الأميركية) في المنطقة -على اقل تقدير-!
    * * *
    » الثغرة الأولى..
    على المرء أن يغيّب عقله حتى يهضم مزاعم دول مثل السعودية وقطر والأردن في أنها (جادة) في الإسهام بمحاربة الإرهاب التكفيري في المنطقة، بعد انغماس هذه الدول وتورطها في دعم الإرهابيين، كما سلف في المقدمة، وكان الدور السعودي هو الأخطر، اذ لم يقتصر على الدعم المادي، بل شكّل المرجعية (الفقهية) لـ"السلفية الجهادية" التي هي عماد وخميرة الفكر التكفيري، وهذا بطبيعة الحال أخطر من الدعم المادي أو اللوجيستي، لأنه كفيل بتوليد أجيال من التكفيريين الإرهابيين، ينتظرون دورهم لدورات عنف وإبادة جديدة، تتخذ لها مسميات مستحدثة، فما دام هذا الفكر ينشط بحرية تامة، مع غطاء من الصمت الدولي؛ بل وتسهيلات قائمة، ومادامت الحواضن التكفيرية الإرهابية لا تُمس ولا تُجرّم، ويضمن لها التحالف الدولي القائم حالياً (خروجاً آمناً)، فهذا معناه أن ما يُروّج من جهد دولي لـ"دحر الإرهاب" ما هو سوى مخطط موازٍ ارتأى القائمون عليه تأطيره بمسميات الحرب على الإرهاب، والقضاء على تنظيم داعش!
    وهل أمكن لأحد حتى اللحظة الحصول على إجابة للسؤال الأشد مصداقية؛ كيف يكون الجاني شريكاً في الخلاص؟ وكيف تكون السعودية المحرضة على الإرهاب عبر حواضنها الوهابية؛ ودعمها للمتشددين السلفيين، وشحنها الطائفي المستعر مع تدخلها الفاضح والصارخ في شؤون بلدان كسوريا والعراق ولبنان والبحرين واليمن، هي ذاتها "شريك أساسي" في التحالف الدولي للقضاء على الإرهاب التكفيري؟!
    لقد شهد العالم مصاديق التدخل المقيت والتخريبي للحكومة السعودية في شؤون العراق وسوريا، وكيف أنها مهّدت لهذه الحرب التدميرية، وهيّأت عبر منابرها في السعودية، ومنابر أتباعها في بلدان أخرى، وكذلك فضائيات الفتنة والإرهاب، لتسخين مرجل الطائفية والكراهية، وتلقيم أسلحة الإرهابيين بهذه الذخيرة القاتلة، فأطلقت نيران حقدها باتجاه الطائفة الشيعية التي تشكل الأغلبية في العراق، واستخدمت ذات الشحن الطائفي في سوريا ولبنان، وشهد العالم أجمع مجازر التطهير الطائفي والعرقي في العراق وسوريا، وحتى شهور قريبة، كانت السعودية منتشية مما يحصل، وتمنّي النفس بحصاد، لا يَقل عن قلب نظام الحكم في سوريا والعراق، والقضاء كليّاً أو جزئياً على حزب الله اللبناني، كتوطئة لمرحلة جديدة تفرضها "الفوضى الخلاّقة" التي بصَمت لها السعودية منذ أن أطلقتها الوزيرة الأميركية الأسبق رايس. ولم تكتف الدوائر السعودية بذلك، بل كانت تضع العصي في عجلات الحكومة العراقية عبر عملائها في العملية السياسية من أزلام المحاصصة؛ الموصومين بشبهات التبعية والعمالة لبندر بن سلطان، مهندس المطبخ السعودي التآمري في المنطقة، فكان إعلامها المسموم، ووزير خارجيتها، وكذلك المسؤولين السياسيين، يطلقون تسمية "جيش المالكي" على القوات المسلحة العراقية التي كانت منشغلة بمحاربة الإرهاب التكفيري على أرض العراق، نيابة عن المجتمع الدولي (ألم يزعم أوباما وتحالفه اليوم ان هذا الإرهاب يهدد المجتمع الدولي برمّته؟). وكان تشويه الحقائق في مخرجات الحرب قائماً على قدم وساق من قبل الجانب السعودي، حتى تم وُصم "الحشد الشعبي" المقاوم بأنه مليشيات تستهدف السنّة، وطبعاً كان على الجميع، بما فيها أميركا أن تُسلّم بأن كل هذه الخطوات العدائية السعودية لا تُعتبر تدخلاً في الشؤون الداخلية العراقية، وكانت جريمة "الحشد الشعبي" انه تَشكل وبسرعة أذهلت الأعداء قبل الأصدقاء؛ تلبية لفتوى المرجع الأعلى السيد السيستاني (دام ظلّه)، اذ لم يرق هذا بتاتاً لساسة السعودية ومشايخ الوهابية.
    لم يلمس أي متابع خطوات جادة وحقيقية من الطرف السعودي لحد اللحظة لتجفيف منابع الإرهاب؛ التي تستمد ديمومتها من حواضن الدعم والرفد والإسناد والتجييش التي تعمل حتى الساعة في السعودية، وما شهدناه باتجاه محاربة الإرهاب، هي مجموعة تصريحات إعلامية فقط مع إجراءات تتطلبها البروباغندا السياسية! أما (التبريد) الإعلامي لسخونة الحرب ضد الدولة العراقية، والذي تمارسه السلطة السعودية، كتخفيف اللهجة العدائية ضد العراق بعد انتخاب حيدر العبادي وتشكيل الحكومة، إضافة الى (التصعيد) المفاجئ ضد داعش وأخواتها، والمدفوع بظروف المناورة السياسية، لا يمكنه أن يستغفل المراقبين والمتابعين للدور السعودي الحقيقي في تغذية النزاعات القائمة في المنطقة.
    ان من سمات الثغرة الخطيرة التي نحن بصددها، هي انعقاد المؤتمر التحالف الدولي في جدة، كخطوة تنطوي بدورها على مغالطة مخزية ومفضوحة، تسعى للقفز على الحقائق، وتضليل الرأي العام بأن السلطة السعودية ليست قاعدة للإرهاب وتصديره، انما هي راعٍ أساسٍ للحرب القائمة ضد الإرهاب التكفيري السلفي الوهابي! في حين ان كل الدلائل والشواهد والمصاديق؛ تثبت ان تلك السلطة لا يمكنها أن تكون طرفاً نزيهاً وجدّياً في المساهمة بأية جهود لوقف أو دحر الإرهاب التكفيري في المنطقة، اذا ما التزمنا بأقصى درجات الحياد!
    ومن نافلة القول التذكير هنا بأن السياقات الدبلوماسية، ودواعي الصدقية المفترضة في أجندة التحالف الدولي، كانت تتطلب أن ينعقد المؤتمر في بغداد، عاصمة الدولة التي تدفع الأثمان الباهظة لمقاتلة الإرهاب التكفيري نيابة عن المجتمع الدولي (باعتراف المجتمع الدولي متأخراً)، وهي ذات الدولة التي يراد منها أن تكون رأس الحربة لهذا التحالف، وأن تدفع الفواتير المكلفة لخطط لم تضعها لوحدها، ومع ذلك يتجاهل الجميع حقها الطبيعي في أن تستضيف المؤتمر عوضاً عن السعودية المثقلة بالشبهات، واذا كانت هذه البداية التي دشنت غمط حقوق العراقيين، فمن أين يأتي التفاؤل فيما بعد؟! خصوصاً وان الخطوة في حد ذاتها تحمل رسالة؛ بأن العراق شريك أساسي في هذه الحرب عند تسديد الأثمان، ولكن عندما يأتي الوقت لتثبيت ريادته ومركزية قراره في الحرب؛ سيكون أول المنسيين والمهمشين!
    ان السلطة السعودية وبعد انفضاح أدوارها في النزاعات المدمرة التي تجتاح المنطقة وتجرها الى شفا هاوية ونقطة اللاعودة، لهي أحوج ما تكون الى طوق نجاة لانتشال سمعتها المتفحمة و(بريستيجها) السياسي، لذا نراها تتحمس ظاهرياً للتشبث بمشروع التحالف الدولي، وتتظاهر بـ(جديتها) في دحر الإرهاب التكفيري، وجاء انعقاد المؤتمر الأخير في جدة ليقدم لها ما كانت تحتاجه -في هذه اللحظة- من خطوات إنقاذ تلك السمعة!
    لم يلمس أحد حتى الساعة أي "تأسف" ظاهري -على الأقل- من قبل المؤسسة الوهابية ومشايخها ومعهم الملك السعودي، على ضحايا المجازر والتطهير الطائفي والعرقي والديني التي اقترفتها داعش والنصرة وأخواتها، في العراق وسوريا، وكل الذي تم تداوله هو "إدانة الإرهاب"، مع بعض العبارات المستهلكة، والتي نسمعها دوماً من مسؤولين غربيين أو دوليين.
    كما لم نلمس مثلاً محاكمة لزعماء الفتنة والتحريض السعوديين الذي ينشطون علانية ويملؤون شاشات الفتنة والطائفية، ويدعمون الإرهاب ويدعون له ويباركونه ويكفّرون من يناوئه.
    اذا لم يقر زعماء التحالف الدولي بمسؤولية السعودية (من ضمن شركاء آخرين) في نشأة داعش والنصرة ونظرائهم، ممن يقودون الحرب التكفيرية الإرهابية، فمعنى ذلك؛ ان جديّة التحالف الدولي مطعون في منطلقاتها ومتبنياتها.
    * * *
    » الثغرة الثانية..
    حينما تستبعد أميركا الحكومة السورية من أي دور في التحالف الدولي المعلن، بينما سوريا هي إحدى الدولتين المعنيتين بأهداف التحالف، فهذا يشير الى أن وراء الأكمّة ما ورائها! حتى وان كان الظاهر من موقف الإدارة الأميركية هو "انها لا يمكن أن تتعاون مع النظام السوري وتمدّه بالشرعية"! وفي المقابل تتعاون مع المعارضة السورية، وتحديداً "الجيش الحر" كحليف يُعتمد عليه ضمن التحالف الدولي! وهذه مغالطة خطيرة أخرى بحد ذاتها، تكرّس التحالف مع المليشيات بعد أن كان مقتصراً على الدول، كما يُفند مزاعم أميركا وحلفائها الغربيين بأنهم لا يتعاملون مع تنظيمات أو مليشيات في الجهود الدولية لحل النزاعات؛ علاوة على انه يُعد خرقاً فاضحاً حسب الأعراف التي كانت أميركا (تُلزم) بها غيرها من الدول في ملفات دولية سابقة! وهنا يبرز سؤالان، الأول؛ كيف يمكن التواجد دولياً على الأراضي السورية -أو أجوائها- دون الرجوع الى الحكومة السورية المعترف بها دولياً ولها حق السيادة الكاملة؟ والثاني؛ ما معنى تهديد أوباما الأخير بأنه سيرد على القواعد العسكرية السورية اذا ما نفذت سوريا تهديدها باستهداف أية مقاتلات أجنبية تخترق المجال الجوي السوري دون اذن دمشق؟
    يتوضح جلياً بأن جزءاً من خطة التحالف -بزعامة أميركا- الالتفاف على الخطوط الحمراء الروسية التي كانت قائمة بوجه أميركا وحلفائها قبل أكثر من عام، حينما سعوا للتدخل عسكرياً في سوريا لقلب نظام الحكم، وها هم يستغلون انشغال روسيا بأزمة أوكرانيا، التي تشتعل بوقود أميركي - أوربي ايضاً، ويحاولون كسب الجولة ضد روسيا عبر استباحة المجال الجوي السوري وكسر الخطوط الحمراء تلك! ومن يدري؛ فربما يتبعه تدخل بري، والأمر -حتى اللحظة- يراوح بانتظار خطوات مرتقبة من روسيا، التي لم تقل كلمتها بعد!
    أما موضوع دعم المعارضة السورية "المعتدلة" ومنها "الجيش الحر" فهي في حد ذاتها ذريعة واهية ومهلهلة، اذ أفصحت السنوات الثلاث الأخيرة بأن "الجيش الحر" يتشكل من فصائل غير منسجمة من المرتزقة (الرُحّل)، والكثير من مقاتليها قد التحق بالتنظيمات التكفيرية لدواعٍ متباينة، وشكلوا زخماً لا يستهان به، في مقابل انهيار واضح في تشكيلات "الجيش الحر"، وهذا يقودنا الى حقيقة؛ بأن الأخير غير مؤهل ميدانياً أساساً للنهوض بمهمة من هذا العيار المعلن! والأخطر ان أي ضخ للإمكانات القتالية لهذا التشكيل، من السهل جدا أن تصبح بعد فترة وجيزة بقبضة التنظيمات التكفيرية، عبر شراء الذمم (الشائع هناك أصلاً)، وعليه؛ لن تكون خطوة اعتماد أميركا ومعها التحالف الدولي على "الجيش الحر" الاّ هروباً من استحقاق حقيقي، وهو ان الحكومة السورية ما زالت هي الجهة الأجدر -حسب سياق الأحداث والأعراف الدبلوماسية- في الشراكة في الحرب ضد الارهاب، طبعاً اذا افترضنا جدلاً (جدّية) أميركا في الحرب على الإرهاب!
    بموازاة ذلك، يُعتبر تجاهل الدور الإيراني في موضوعة التحالف الأخير، شرخاً كبيراً لا يمكن تغطيته بأية مزاعم. فإلى وقت قريب يعترف المعسكر الغربي بأهمية الدور الإيراني في الملفين العراقي والسوري، كما جربت أميركا الحصاد المر من تجاهل ذلك الدور حتى الأمس القريب، أي في جولات مؤتمر جنيف 2 الذي تناول الأزمة السورية ودُمغ بالفشل لاحقاً. وها هي أميركا تقترف ذات الخطأ وبإصرار هذه المرة، انطلاقاً من ضيق أفق تقييمها للأوضاع، وترجيح حسابات الملف النووي الإيراني، لتغلق فجوات الحلول الإقليمية، عبر مشاركة أطراف فاعلة كإيران، لتقفز الى الحلول الدولية. ويستغرب أغلب المراقبين من تجاهل الدور الإيراني، وثقله في استتباب الأمن في المنطقة، وخصوصاً في ورقة الحرب على الارهاب التكفيري، في حين كانت إيران سباقة لتقديم الدعم السياسي والاستخباري للحكومة العراقية، خصوصاً بعد سقوط الموصل، ودار الحديث عن دعم ميداني لا يستهان به، بينما ما يجري الآن هو استبدال الدور الإيراني بأدوار لحكومات غير مبّرَأة بتاتاً من تهمة دعم ورفد الارهاب، كقطر والسعودية وتركيا والأردن! أليس هذا السلوك نوعاً من الصبيانية السياسية، والتي يُراد للعراقيين والسوريين، وكل شعوب المنطقة أن تدفع أثمانها؛ لإشباع نزوات أميركا والغرب في الانتقام من هذا الطرف أو ذاك؟ أليست هذه ثغرة خطيرة أخرى تكشف عدم (جدية) التحالف الدولي في دحر الارهاب؟ أم تخشى أميركا، وفق نظرتها الضيقة للأمور، أن تكون إيران، عدوها اللدود، شريكاً في أي خطط وجهود دولية لحلحلة النزاعات القائمة، حتى لا تجيّرها الأخيرة كعامل ترسيخ لدورها الإقليمي؟
    يبدو واضحاً ان أميركا تهدف الى تكثيف عزلة إيران، وهذا يكشف بأن تكالب أميركا لصياغة التحالف له دوافع وأجندات غير التي تعلنها.
    * * *
    » الثغرة الثالثة..
    لم يعد خافياً الحماس الملفت للحكومة الفرنسية في استعجال طبخة التحالف الدولي، وفاق بكثير الحماس البريطاني مثلاً، في حين ان بريطانيا معنية أكثر من غيرها بملف الحرب الارهابية، من جهة مشاركة المئات من مواطنيها مع داعش والنصرة، مما يشكل خطراً مرتقباً على أمنها الداخلي.
    حماس الفرنسيين وتصرفهم كتابع مطيع للإدارة الأميركية وسياساتها الدولية؛ أضحى سمة ملاصقة لقصر الأليزيه، وشكّل مادة للتهكم لدى شركاء فرنسا الأوربيين، وإحراجاً يعيشه الرأي العام الفرنسي، الذي يأنف أن يكون تابعاً لأميركا! ولكن مؤسسة الأليزيه ظلت أسيرة التبعية تلك، خلا بعض التمنع أثناء ولاية الرئيس شيراك. ويعود السبب الى العقدة التي تعانيها السياسة الخارجية الفرنسية بعد انكماش دورها دولياً، وتبخر أحلامها الكولونيالية، لذا، تسعى جاهدة للبحث عن مكان لها تحت الشمس، حتى وان كان على حساب سمعتها، التي تتآكل بفعل التبعية الآنفة. وشهدنا ذات الحماس الفرنسي في الخطط الأميركية في القارة الأفريقية، والشرق الأوسط مع العالم العربي، وملفات دولية أخرى كالأزمة الأوكرانية، أما التجلي الأبرز لهذه السياسة فكان في الملفين السوري واللبناني، وأحداث "الربيع العربي" في دول عدة، إضافة الى الملف النووي الإيراني. أما التحالف ضد داعش، فلم يأت من فراغ أو حماسة مفاجئة؛ بل له امتداد للتدخلات الفرنسية في الملفين السوري واللبناني، و(تصفية الحسابات) القديمة مع النظام السوري وحزب الله اللبناني، والتي تعود الى عشرات السنين، والى الكأس المر الذي تجرعته من الطرفين! والدخول بثقل واضح في التحالف الدولي الحالي يضمن دوراً أكبر لفرنسا في صياغة مستقبل العملية السياسية في سوريا ولبنان، إضافة الى تحجيم الدور الإيراني في كلا البلدين، بافتراض ان التعويل على تقوية "الجيش الحر" السوري كحليف ضمن التحالف، يعني إضعاف النظام السوري، والتمهيد لإسقاطه.
    كما تتطلع فرنسا الى ان (تسخين) أجواء المنطقة، مما يزيد -بالضرورة- من فرص سباق التسلح، وهذا يُنعش آمالاً لسوق السلاح الفرنسي؛ الذي يعاني من ركود وكساد، في وقت يكابد الاتحاد الأوربي أزمة اقتصادية خانقة مستمرة منذ سنوات.
    لقد ضمنت فرنسا أيضا منذ البداية دوراً عسكرياً رئيسياً في التحالف، لتكفل (استعراضاً) عملياً لقدراتها العسكرية ومعداتها الحديثة، كما تحجز دوراً أكبر في رسم مستقبل سوريا، باعتبار ان إقصاء الحكومة السورية عن المشاركة في التحالف هو مطلب فرنسي منذ البداية، ناهيك عن ذات الإقصاء الممارس ضد إيران. وهذا يكشف ان النوايا الفرنسية لم تأتِ (خالصة) لدحر داعش، كيف وهي -فرنسا- كانت تقاتل منذ بواكير الأزمة السورية لتسليح المعارضة السورية، وبالطبع لم تكن (تستثني) التكفيريين والمتشددين الإسلاميين من خطط التسلح تلك، ماداموا "يقاتلون ضد نظام الأسد"!
    عراقياً، خبر العراقيون ازدواجية المعايير التي مارسها الفرنسيون، وعبر رئيسهم هولاند، الذي داس على كل المعايير الإنسانية ومارس ازدواجية المعايير حينما خصّ الأخوة المسيحيين المنكوبين بالحفاوة والتسهيلات القانونية في استقبالهم كلاجئين، بينما تجاهل باقي المنكوبين من مكونات الشعب العراقي. وهذا السلوك كرره في زيارته الأخيرة للعراق، اذ كان على متن طائرته 140 طناً من المساعدات، وحطّت في بغداد، ولكن لم تفرغ شحنتها سوى في أربيل بعد جولته الثانية، مع العلم ان مكونات عديدة من العراقيين عانت نكبات الحرب وليس الأخوة في الإقليم فقط! يضاف الى التنسيق العسكري المريب مع الإقليم بعيداً عن اللياقات الدبلوماسية المتعارفة، التي ينبغي أن تمر عبر بغداد! ولا تُفسّر تلك التصرفات سوى تأجيجاً واضحاً للخلافات السياسية الداخلية للعراق، واستهانة بالسيادة العراقية في هذه المرحلة المصيرية.
    وبجردة بسيطة لواقع التحالف الدولي والأطراف (المتحمسة) له، نلمس أن لكلّ منهم أجندته الخاصة (غير المعلنة)، والتي يمررها بين سطور ورقة "الحرب على الإرهاب"، ويبقى الشعبان العراقي والسوري من يدفع أثمان هذه الحرب المدمرة، من ضحايا ونزيف لعافية البلدين، وينتظران الخلاص من الارهاب التكفيري، الذي لم يستفحل لولا دعم أطراف من "التحالف الدولي"، والصمت المشبوه لغالبيتهم قبل احتفالية هذا التحالف، أليس كذلك؟!
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media