الكرامة والسيادة في خدمة "داعش"
    الأربعاء 24 سبتمبر / أيلول 2014 - 05:30
    د. عبد الخالق حسين
    كاتب ومحلل سياسي عراقي مغترب
    يواجه العراق اليوم هجمة شرسة من عدو إرهابي شرس وخبيث، اسمه (داعش)، والذي وهو نتاج تحالف البعث وجناح منشق من القاعدة. يتمتع هذا العدو بقدرات كبيرة في مختلف المجالات: العسكرية، والسياسية، والإعلامية، والمالية، وبدعم دولي، وإمكانية فائقة في تسخير الدين والتراث العربي الإسلامي وكل المفاهيم والقيم الاجتماعية لخدمة أغراضه الشريرة، وتضليل الناس وقيادتهم إلى الهاوية. فكما نجح قادة الأخوان المسلمين ومشايخ الوهابية في تحويل الإسلام إلى أيديولوجية للإرهاب ضد الحضارة والبشرية، كذلك نجح البعث الداعشي في تسخير الكرامة والسيادة لأغراضه الإرهابية.  

    فالثقافة الاجتماعية العربية (الموروث الاجتماعي- culture)، منبعها البداوة التي قال عنها المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي، "أنها حضارة متجمدة". والمجتمع العراقي كما وصفه العلامة علي الوردي هو "نتاج التلاقح بين البداوة والحضارة". ورغم أن الشعب العراقي قطع شوطاً كبيراً في التحضر منذ تأسيس دولته الحديثة عام 1921، إلا إن الجانب البدوي فيه مازال متغلباً في شخصية الفرد العراقي، وبنسب متفاوتة حسب درجة ثقافة الناس، خاصة وقد حاول البعث خلال 35 سنة من حكمه الجائر قمع الجانب الحضاري وإحياء البداوة وقيمها الصحراوية، وبالأخص السلبية منها مثل الثأر والانتقام، ومناهضة الحداثة والديمقراطية. لذلك فمازالت قيم البداوة هي السائدة في الثقافة الاجتماعية في العراق ولصالح الإرهاب.

    فالبدوي لا يمكنه أن يتخلص من نزعة الثأر والانتقام، والعداوات السابقة، فهو لا يفهم مقولة: (ليس في السياسة عداوات دائمة ولا صداقات دائمة بل مصالح دائمة)، وغالباً ما يستهزئ منها ويعتبرها مسيئة للكرامة، لأنه يعاني من عقد الكرامة. وهذا واضح من مواقف شريحة واسعة من العراقيين، وخاصة ما يطلق عليهم بالتيار الصدري، من عداء مستفحل ضد أمريكا ورغم أن الأخيرة أسقطت لهم أبشع نظام همجي عرفه التاريخ، النظام الذي أعدم العديد من أفراد عائلة السيد مقتدى الصدر (زعيم التيار)، ومئات الألوف من أبناء الشعب العراقي، وبالأخص من أبناء طائفته، الشيعة، إلا إننا نرى هذا التيار يغالي في رفع الشعار الإيراني: (كلا كلا أمريكا) والذي صار نشيد إنشادهم، وحتى لبعض المتعلمين والمثقفين العلمانيين الذين تشبعوا بكراهية الغرب مع حليب الرضاعة.

    فالعراق اليوم مهدد بحرب إبادة الجنس من قبل أخطر تنظيم إرهابي يهدد البشرية كلها وباسم الإسلام، وليس بإمكان الشعب العراقي لوحده، أو أية دولة أخرى لوحدها القضاء عليه. لذلك قلنا مراراً وتكراراً، أن الإرهاب الوهابي- البعثي (داعش) هو ليس مشكلة عراقية أو سورية فقط، بل مشكلة دولية، و لدحره وسحقه يجب تضافر وتنسيق جهود دولية بقيادة الدولة العظمى أمريكا. ونظراً لتفاقم خطر داعش حيث راح يهدد أمن وسلامة جميع دول المنطقة، بما فيها تلك التي ساهمت في صنعه وتمويله وتسلحيه وتلقينه بالأيديولوجية الوهابية التكفيرية، مثل السعودية وتركيا وقطر، حيث أنقلب الآن السحر على الساحر، مما أدى إلى قيام هذه الدول بعقد مؤتمرات دولية عديدة لدعم العراق في حربه على الإرهاب الداعشي البعثي. 
    ولكن المفارقة، و بدلاً من الترحيب بهذه الجهود الدولية وتوظيفها لصالح العراق، قابلت  شريحة من العراقيين هذه الجهود بالرفض والجحود بحجج واهية، مدعين أن الدعم الدولي بقيادة أمريكا للعراق يمس كرامة الشعب العراقي، ويسيء إلى السيادة الوطنية!!! والغريب أن هذا الاعتراض يأتي من قيادات للمكون الشيعي الذي هو الأكثر تعرضاً للإبادة من قبل داعش. فقد دعا التيار الصدري إلى تظاهرة "مليونية" في بغداد والمدن الأخرى ضد أمريكا، مردداً هتافات و شعارات إيرانية مثل (كلا كلا أمريكا). و نائب صدري يهدد: "أنهم سيجعلون العراق مقبرة لأمريكا إذا ما حاولت إرسال قوات برية للعراق". فيا ترى، من المستفيد من هذه التهديدات الفارغة؟ ألا يصب ذلك في خدمة داعش؟
    وماذا لو جاءت هذه المساعدة من إيران؟ و هل سيردد التيار الصدري هتافات (كلا كلا إيران)؟ أم يرحب بها؟ والغريب أننا نسمع تصريحا مجانياً لوزير خارجية إيران، محمد جواد ظريف، أدعى فيه "انه لولا المساعدة الايرانية العاجلة للعراق لسقط بيد داعش". نرى أن في هذا التصريح الكثير من التجني على الحقيقة وادعاء أدوار لم تقم بها إيران. فالذي ألحق الهزيمة بداعش، وحمى العراق من السقوط في براثنه، هو الجيش العراقي، وفصائل الحشد الشعبي وقوات البيشمركة، والقوات الجوية العراقية والأمريكية. ولم نسمع لإيران أي دور في محاربة داعش في العراق إلا من السيد ظريف بعد أن بدأ الدواعش بالهزيمة وذلك لسرقة النصر من القوات الأمنية العراقية المدعومة بالقوة الجوية الأمريكية. وإذا كانت هناك إساءة للكرامة والسيادة من تواجد قوات أجنبية في العراق، فلماذا يسكت هؤلاء السادة عن وجود قوات إيرانية وهي أجنبية أيضاً، فيما لو صح إدعاء وزير خارجية إيران؟

    والأسوأ والأغرب من كل ذلك، أن هناك كتاب علمانيون ويساريون لا يختلفون عن البدو وعن التيار الصدري في فهمهم للكرامة والسيادة. فهم أيضاً يعتبرون أي نوع من التعاون مع الدولة العظمى وحلفائها في مواجهة الإرهاب الداعشي الوهابي هو إساءة لكرامة الشعب والسيادة الوطنية. عجيب أمرهم.
    ونحن إذ نسأل: أية سيادة وطنية هذه وقد احتل داعش ثلث مساحة العراق؟ وأية كرامة بقيت والمئات وربما الألوف من الأطفال والنساء العراقيات يتم بيعهن في أسواق النخاسة من قبل عصابات داعش في القرن الحادي والعشرين؟ أيهما إساءة للكرامة والسيادة الوطنية، هذا الوضع المزري، حيث ثلث مساحة العراق تحت هيمنة داعش، ومجرمين من شذاذ الآفاق ينتهكون أعراض وحرمات شعبنا، أم التحالف مع المجهود الدولي بقيادة الدولة العظمى وفق قرارات دولية شرعية لدحر الإرهاب الداعشي وغيره من التنظيمات الإرهابية؟

    لا شك أن هذه النداءات والمطالبات الغبية برفض المجهود الدولي ومعاداة أمريكا تصب في خدمة الإرهاب الداعشي سواءً بقصد أو بجهل وغياب الوعي. ونحن نعرف أن معظم أتباع التيار الصدري هم من البعثيين الشيعة وفدائي صدام، الذين وجدوا في التيار الصدري ومليشياته ملاذاً آمناً لهم لضرب العملية السياسية بذريعة محاربة "المحتل الأمريكي"، وهم في الحقيقة ينفذون المخطط الإيراني والسعودي والبعثي لتخريب العملية السياسية. فعن أية كرامة وسيادة يتحدثون؟ أنهم في الحقيقة يعيدون إلى الذاكرة لعبة معاوية وعمرو بن العاص يوم رفعوا المصاحف على أسنة الرماح صارخين "لا حكم إلا لله"، ونجحت الخدعة. واليوم تتكرر ذات اللعبة فيرفعون شعارات الكرامة والسيادة زيفاً، ويصرخون: (كلا كلا أمريكا) في حرب العراق على الإرهاب، والغرض واضح وهو إنقاذ داعش من ضربات التحالف الدولي.    

    هناك من يبرر العداء لأمريكا وفي هذه الظروف بما ارتكبته من حروب في فيتنام وغيرها في فترة الحرب الباردة. ففي رأي هؤلاء كان من الأفضل إبقاء نظام البعث الصدامي يضطهد الشعب العراقي بدلاً من إسقاطه بدعم أمريكي، وحجتهم أن أمريكا هي التي جاءت بالبعث عام 1963 و 1968. طيب، أمريكا جاءت بالبعث ودعمت صدام في حربه على إيران وعملت ما عملت في فيتنام في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، فلماذا لا نوظف ما حصل الآن من تغييرات في السياسة الدولية والنظام العالمي الجديد، ونستفيد من إمكانيات أمريكا في إسقاط هذا النظام الجائر، ومساعدتنا في ضرب الإرهاب؟ أيهما أفضل للعراق إبقاء حكم صدام الجائر وتعريض شعبه للإرهاب، أم قبول الدعم الأمريكي؟ أليست السياسة وراء المصالح؟ فلماذا العراقيون وحدهم يقفون دائماً ضد مصالحهم بحجة الكرامة والسيادة؟ أليس هذا تنفيذاً لمقولة: " شيِّم البدوي وخذ عباته"؟ 
    فالذين يطالبون الحكومة العراقية برفض الدعم الأمريكي والتحالف معه بحجة الإساءة للكرامة والسيادة، في الحقيقة لا يختلفون عن فهم البدوي الجلف للكرامة والسيادة. لذلك أود أن أذكرهم للمرة الألف أن هناك 28 دولة أوربية بما فيها بريطانيا العظمى، وتركيا ضمن حلف الناتو، و هناك العديد من دول جنوب شرق آسيا ودول خليجية، فيها قواعد عسكرية أمريكية، فهل هذه الشعوب بلا كرمة ولا سيادة؟

    وهذا يذكرني بقصة ذكرها عالم الاجتماع الدكتور علي الوردي في أحد كتبه، وهو يتحدث عن مفهوم الشرف عند البدو، فقال أن شيخ قبيلة بدوية جاء إلى بغداد في العهد العثماني يبحث عن عائلة بغدادية شريفة ليتصاهر معها. فراح يستفسر من الناس، فذكروا له بعض البيوتات البغدادية المعروفة مثل بيت الباججي، والجادرجي، والجرجفجي، والدفتردار والكليدار.. الخ. فاستغرب الرجل أن يصفوا هذه العائلات التي تحمل ألقاباً مهنية بالشرف. لأن البدوي يعتبر المهنة إهانة وأصحاب المهن غير شرفاء حسب مقاييسهم البدوية للشرف. والمهن الشريفة عندهم هي الغزو، والتجارة وزراعة الحبوب (الحنطة والشعير) فقط. فقالوا له إذا تريد عائلة شريفة حسب مفاهيم الصحراء، فلن تجده إلا في الصحراء.
    لذلك نقول لهؤلاء السادة أن مقاييس الشرف والكرامة والسيادة الوطنية ليست بمعاداة العالم، وشعارات "كلا كلا أمريكا"، فلو قارنا مفاهيم الثقافة العربية السائدة الآن لوجدناها لا تختلف كثيراً عما كان عليه في العهد الجاهلي حيث المبالغة في التباهي والتفاخر الفارغ كما عبر عنه عمرو بن كلثوم:
    إذا بلغ الفطامَ لنا صبيٌ.....تخر له الجبابر ساجدينا.

    ولم يسلم من هذه الآفة البدوية في مفهوم الكرامة والسيادة حتى كتاب يعتبرون أنفسهم علمانيين وماركسيين، مثل الكاتب السيد عبدالرضا حمد جاسم الذي كتب مقالاً مطولاً في حلقات بعنوان (عبدالخالق حسين وأمريكا)، جاء في نهاية الحلقة الثالثة، موجهاً لي قوله بصيغة أمر: "عندما تريد ان تتكلم عن شعب العراق تَعَّلَمْ ان تقرأ جيداً التركيبة الاجتماعية و السياسية له وأن تدرس تاريخه لتعرف كيف تحلل حاضره لتقدم شيء لمستقبلة...لا أن تقارن الامور بسطحية.... الخ"
    لا أنوي الدخول في مناظرة مطولة مع السيد عبدالرضا في كل ما قال، فهذا يتطلب وقتاً وجهداً بلا نفع وجدوى. ولكني أؤكد له في هذه العجالة أني مدمن على قراءة كتب التاريخ وبالأخص ما يتعلق بتاريخ الشعب العراقي الذي تابعته من العصور الجليدية والحجرية وإلى الآن ولمختلف المؤلفين، إضافة إلى أوضاعه الاجتماعية والسياسية من مؤلفات الوردي وعبدالرزاق الحسني وحنا بطاطو وغيرهم كثيرون. ولكني أختلف عن السيد عبدالرضا بأني أقرأ بعقل منفتح ومتحرر من أية أحكام مسبقة، وليس من خلال فلتر أيديولوجية معينة، إذ أرفض الطريقة الببغاوية في قراءة التاريخ، فالأمور مرهونة بأوقاتها وظروفها. والسطحيون هم الذين يرددون ما حفظوه عن ظهر القلب دون أن يدركوا المعنى ودرجة علاقته بظروف العراق الراهنة وحسب "تركيبته الاجتماعية والسياسية".
    والغريب أن السيد الكاتب يوجه كلامه لي وبثقة عالية فيقول: "و انصحك ان لا تتبع الدكتور الراحل علي الوردي". و أوعدنا بأنه ينوي كتابة مقالات عن الوردي في هذا الخصوص. وبالمناسبة هناك كاتب آخر يدعي أنه أستاذ أكاديمي ومؤرخ، يتهجم بمناسبة ودونها على أفضل باحثيَن في الشأن العراقي وهما الوردي وبطاطو.

    ولماذا لا نتبع الوردي يا سيد عبدالرضا؟
    الجواب واضح، لأن الوردي هو أكثر من درس المجتمع العراقي دراسة علمية وبحيادية وعمق، واكتشف عيوبه وأمراضه الاجتماعية ونشرها على الحبل، وهو الذي شخص مرض الازدواجية في الشخصية العراقية، وبالأخص لدا الكثير من المتعلمين والكتاب والخطباء والوعاظ العراقيين، ومن أدعياء اليسارية والعلمانية وهم في حقيقتهم لا يختلفون عن أسلافهم البدو، إذ قال عنهم بحق: "يجب أن لا ننسى أن الكثيرين منا متحضرون ظاهرياً بينما هم في أعماقهم لا يزالون بدواً أو أشباه بدو، فإن قيم البداوة التي تمكنت من أنفسهم على توالي الأجيال ليس من السهل أن تزول عنهم دفعة واحدة بمجرد تقمصهم الأزياء الحديثة أو تمشدقهم بالخطب الرنانة."
    ورحم الله نزار قباني حين قال: (لبسنا ثوب الحضارة والروح جاهلية).

    خلاصة القول، وكما ذكرانا أعلاه، يواجه شعبنا اليوم أخطر هجمة إرهابية شرسة، يهدده بالإبادة، ومن مصلحة العراق توظيف هذا التعاطف الدولي معه، و المؤتمرات الدولية لصالحه، و عدم الإذعان لنعيق الغربان (كلا كلا أمريكا)، بل يجب عقد تحالف إستراتيجي مع هذه الدول بقيادة الدولة العظمى، واستثمار هذا التعاطف الدولي معنا ولصالح شعبنا.
    أما إذا كانت أمريكا لا تعمل كل ذلك لسواد عيوننا، بل من أجل مصالحها المتمثلة بالنفط، فهذا من حسن حظ شعبنا أنه يملك شيئاً يربط مصلحة أمريكا بمصلحة العراق، فأمريكا لن تأخذ النفط منا بالمجان، بل تشتريه بسعر السوق الذي يقرره قانون العرض والطلب، وتدفع ثمنه بالعملة الصعبة. وإذا لم نبع النفط على أمريكا وغيرها فماذا سنعمل به، تذكروا ما حل بالشعب العراقي خلال 13 عاما من الحصار الاقتصادي، خاصة وأن هذه الثروة قد تنضب أو تصبح بائرة كالفحم الحجري. وعلى العراق الاستفادة من الدولة العظمى إلى أقصى حد ممكن.
    قال حكيم: "العقل مثل المظلة، لا يعمل إلا إذا كان منفتحاً"
    ـــــــــــــــــــــــــــ
    روابط ذات صلة
    مصطفى الصوفي : اطماع في العقلية القديمة
    http://mufaker.org/?p=30193

    عبد الحليم الرهيمي: مؤتمر جدة والعلاقات العراقية السعودية
    http://www.akhbaar.org/home/2014/9/176804.html
     
    بهاء الدين الخاقاني: الرؤية السياسية والنظرة الستراتيجية العراقية
    http://www.akhbaar.org/home/2014/9/176848.html

    فاضل بولا: امريكا تلبي طلب النجدة والمستنجد يشكك بمراميها
    http://www.akhbaar.org/home/2014/9/176831.html
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media