الأمة التي تحترم نفسها
    الأحد 28 سبتمبر / أيلول 2014 - 04:27
    د. جيلالي بوبكر
    استاذ جامعي / الجزائر
    يعيش العرب والمسلمون  في فُرقة ليس لها مثيل من قبل، في دول وقوميات وطوائف ومذاهب واتجاهات فكرية وسياسية كثيرة ومختلفة، وكل منها يقدّم نفسه كقوّة شمولية يمتلك اليقين المطلق ويقصي الآخر دون رجعة، وكل شعوبنا تعاني التخلّف والانحطاط في الفكر والسلوك ويسيطر الفساد والاستبداد في الحياة عامة، لا أمن ولا استقرار، كل دولة عربية من غير استثناء هي في حالة حرب أو خرجت من الحرب أو تستعد للحرب، جوّ مليء بهوس الحروب والنزاعات، أما العالم المتقدم فلا يبالي بهذا الوضع تماما على الرغم ما في المواثيق والتشريعات الدولية التي تعمل بها الهيئات الأممية من ضرورة حماية الإنسان وحفظ كافة حقوقه في أي بقعة من بقاع الأرض.

    لما كان حال العرب عامة وواقعهم بالصورة المذكورة، فأين هي الدولة العربية التي تشذّ عن هذا الوضع وتأخذ بشروط التحضر العلمية والأخلاقية والدينية والمادية، والعرب جميعا غرقوا في التعفن والفساد والانحطاط الفكري والاقتصادي والاجتماعي من فروة الرأس إلى أخمص القدمين، فلا يمكن أبدا لأي دولة عربية أو غير عربية هي ضمن العالم المتخلف أن تنهض في ظل الظروف الحالية على المستوى الذاتي المحلي الداخلي وعلى المستوى الموضوعي الخارجي العالمي معا، ذلك لغياب عوامل البناء الحضاري تماما، وليس بسبب منع الآخر لتقدمها وتصديه لنهوضها على رأي نظرية المؤامرة التي كثيرا ما زادت للطين بلّة في تقويّة الانحطاط وزيادة نسبة الخلل ودرجة الضعف  ، لكن هذا لا يعني أنّ التخلف مكتوب عليها إلى الأبد، بل يمكنها الخروج من التخلف إذا توفرت الظروف المواتية لذلك، والأمر يتطلب جهودا جبارة ووقتا كافيا وصناع نهضة وتاريخ وحضارة.

    الحياة منذ القدم يحكمها القويّ فإما يعدل وينصف أو يبطش ويجور، وهو الغالب المتبوع وغيره مغلوب تابع، وعالمنا اليوم يعيش حياة تطبعها القوّة الاقتصادية والعسكرية ووراء هذه القوّة الاقتصادية والعسكرية القوّة العلمية والتكنولوجية، المجسّدة في المنتجات الصناعية التي غيرت وجه الحياة وقلبتها رأسا على عقب بالنسبة لوسائل وأساليب العمل التي أثرت ولازالت تؤثر في الطبيعة وتسخرها لراحة الإنسان وفي الوقت ذاته جلبت له الكثير من الهموم والمتاعب، العرب في المنظومة الدولية يشكلون جزءا محدودا ينتمي إلى عالم التخلف لا حول له ولا قوة، وضعه المأزوم يتفاقم يوما بعد يوم، أنهكته المشاكل الداخلية والحروب والنزاعات والفرقة والمؤامرة والاستعمار غير المباشر بمختلف أشكاله، لا ينتج بل يعيش على الريع النفطي ويستخدم منتجات الآخر في الفكر والثقافة والعلوم وسائر التكنولوجيات، حتى أكثر الجهات العربية عداء للغرب دولا أو منظمات أو جماعات مسلحة أو غير مسلحة لا تستطع أبدا التحرّك خارج السياق الحضاري المعاصر لباسا وغذاء ونقلا واتصالا وعلما وثقافة وفي كل ميادين الحياة، ومفاتيح أبواب الحضارة الراهنة في يد الكبار في العالم محتكرَة تماما وليس للصغار إلا الحق في التبعية أو الهلاك إذا ما حاولوا التمرّد على المعتاد.

    الأمة التي تحترم نفسها ولا ترضى بالخنوع للطغاة والمستبدين في الداخل أو في الخارج هي التي توفر كافة الظروف الروحية والأخلاقية والمادية والبشرية للحرية والإبداع، وتأخذ بزمام المبادرة في اتجاه النهوض مستفيدة من تجارب الآخرين في الماضي وفي الحاضر من غير إقصاء أو تعصب، الحكمة ضالة المؤمن حيثما وجدها فهو أولى وأحق  بها، الحكمة النظرية والحكمة العملية معا، مادامت الحكمة صدقا في القول ومصلحة في العمل ومكرّمة أخلاقيا، وما دامت الحكمة تحيا حياة أبدية من غير وطن ومن دون حقبة تاريخية ما، لكن لا تتأتى الحكمة إلاّ إذا تجاوز الإنسان كل أسباب ومظاهر الدمار والانهيار واهتدى روحا وفكرا ووجدانا وممارسة وتسلّح بقوّة نحو تجسيد أسباب ومظاهر التكريم الرباني لبني البشر وأبرزها وأولها خلافة الله على أرضه ومع خلقه.

    جيلالي بوبكر
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media