لعبة الديمقراطية
    الأحد 28 سبتمبر / أيلول 2014 - 05:57
    عادل درويش
    تصويت مجلس العموم باشتراك بريطانيا في التحالف الدولي ضد خلافة البغدادي المعروفة بـ«داعش» بمجرد 6 طائرات قاذفة مقاتلة، قصة متعددة العناصر في اللعبة الديمقراطية، ورغم أنها أفضل ما وصل إليه العقل البشري من النظم السياسة، فإن بالديمقراطية تناقضات تغل أيدي الحكومات عن مواجهة أخطار تستهدف تقويض الديمقراطية نفسها.
    هناك عنصر العامل الإنساني، الساسة أنفسهم أو لاعبو مباراة الديمقراطية من زعماء الحكومة والمعارضة، رغم التزامهم بقواعد اللعبة وعدم الخروج عن لوائحها، تجدهم يمطون هذه القواعد إلى أقصى الحدود، ويفتشون بعيون ميكروسكوبية ثغرات لا تلحظها العين المجردة لتحقيق المكاسب.
    عنصر التاريخ، المعاصر القريب، كالهزيمة البرلمانية التي حمل رئيس الوزراء ديفيد كاميرون أثقالها منذ العام الماضي، كان أول رئيس وزراء منذ 300 عام، يستدعي المجلس من عطلته ليصوت على قرار طارئ، فيخسر التصويت (كان وقتها لمشاركة الأميركيين شن غارات على سوريا عقابا على استخدام سلاح كيماوي)، والتاريخ الأقدم نسبيا هو العقدة النفسية السياسية في الضمير الجماعي سواء للساسة أو لصناع الرأي العام باتهام رئيس الوزراء الأسبق، توني بلير، بتضليل البرلمان بأسباب دخول حرب العراق عام 2003 للبحث عن أسلحة الدمار الشامل التي خزنها صدام حسين (بصرف النظر عما إذا كان التضليل متعمدا أو أن حكومة بلير صدقت التقارير بالفعل)، واكتشاف عدم وجود أسلحة، وما ترتب عنه من تداعيات، ولا يريد أي زعيم سياسي أن يكرر التجربة ويصبح وحده مسؤولا عن قرار الحرب.
    ورث المستر كاميرون هذه التركة، والتصويت البرلماني بالنسبة له المخرج من المأزق؛ بحيث تتحمل الأمة كلها في شكل ممثليها المنتخبين مسؤولية الحرب.
    زعيم المعارضة إدوارد ميليباند، كان وزيرا في الحكومة العمالية (بلير ثم غوردن براون 1997 - 2010) التي خاضت حربي العراق وأفغانستان، بما يقتنع الرأي العام اليوم (خطأ أو صوابا) بأنه كان تضليلا للبرلمان، وهو يريد أي فرصة للتخلص من شبح أو «عفريت» توني بلير وحرب العراق، وصوت حزبه العام الماضي ضد قرار الحرب في سوريا.
    مجموعة عناصر الضغوط الداخلية والخارجية التي يتعرض لها كاميرون، ما بين 500 و800 من إرهابيي «داعش»، هم مواطنون بريطانيون، وكاميرون بصفته رئيس حكومة يتحمل المسؤولية، منهم قاطع الرؤوس المعروف بـ{جون الجهادي}، والعائدون منهم من القتال مع «داعش» يشكلون خطرا داخل البلاد. ضغوط من الحلفاء العرب، خاصة الحكومة العراقية وزعماء الأكراد، بضرورة مشاركة بريطانيا، فالعرب يثقون بالسياسة البريطانية بحكم صداقة 3 قرون ولا يثقون بالأميركيين الذين يفتقرون الخبرة والحكمة والدهاء السياسي.
    ضغوط من أميركا؛ فمن الناحية العسكرية لا حاجة بالتحالف إلى القوة العسكرية البريطانية بوجود الطائرات الحربية الأميركية، وسلاحي طيران السعودية والإمارات، وصواريخ الكروز، لكن وجود بريطانيا سيقنع العرب بالخطوة القادمة الضرورية؛ وهي الانتشار العسكري بقوات أرضية.
    ضغوط من الخبراء العسكريين بأن قصف قوات «داعش» في العراق وحده لا يكفي، فلا بد من استهدافهم في سوريا، والقصف وحده لا يكفي، فلا بد من قوات أرضية. هل ستوافق صفوف المعارضة العمالية على ذلك؟
    عنصر التوقيت ضروري، فقد تكون هذه هي الولاية الأخيرة لكاميرون، فموعد الانتخابات المقبلة هو مايو (أيار) القادم، وبعد 10 أيام المؤتمر السنوي لحزب المحافظين الذي يحدد مانيفستو خوض الانتخابات بالوعود للشعب، وهو يريد تصفيق أعضاء المؤتمر بنجاحه في اتخاذ قرار خطير بإجماع مشترك خاصة بعد إنقاذه المملكة المتحدة، وكانت على شفا التمزق بانفصال اسكوتلندا قبلها بأسبوع واحد.
    هذه العناصر المتداخلة والمتنافرة أمام خلفية فريدة لا يتعرض لها كثير من زعماء العالم، وهي صحافة حرة كوحش مفترس غير قابل للترويض، وصحافيون مبدأهم التشكيك في صحة كلام ونيات أي مسؤول حتى يثبت العكس.
    استدعاء البرلمان من العطلة للانعقاد ليس بالأمر السهل، وقرابة 600 عضو ليسوا فقط في مختلف أنحاء البلاد، بل في أركان الكرة الأرضية، ولا توجد في بريطانيا قوانين ولوائح مكتوبة، وإنما سوابق واجتهادات وتقاليد.
    استدعاء البرلمان للانعقاد عادة بطلب من رئيس الحكومة، عن طريق ما يعرف بالـ«chief whip» (والترجمة الحرفية كبير حَمَلة السياط)، وهم لا يحملون سياطا ليلهبوا بها ظهور النواب، وإنما سياطا معنوية؛ أي قسم مسؤول عن الانضباط الحزبي للنواب ليصطفوا وراء قرارات الحزب ويصوتوا لها، زعيم حملة سياط الحكومة يجتمع بنظرائه من أحزاب المعارضة، ومعهم زعيم الأغلبية البرلمانية المعروف بـ«leader of the house» أو قائد البرلمان، ثم يجتمعون برئيس المجلس، الترجمة العربية لـ«speaker» (ترجمتها الحرفية المتحدث)، والمعنوية الفعلية (من يمتلك حق إعطاء الكلمة أو منعها، والنواب أثناء المناقشات يوجهون الحديث لـ«Mr. Speaker» للسيد رئيس المجلس، وليس لبعضهم البعض)، ويقرر هو من تقدير الموقف ما إذا كان الأمر يستحق استدعاء المجلس للانعقاد.
    قائد المجلس، أو زعيم الأغلبية يقدم مشروع القرار الذي سيقدم للمناقشة والتصويت، ويشترك حَمَلة السياط من الأحزاب الأخرى (العمال المعارضين، والأحرار الديمقراطيين شركاء الحكومة في التحالف، لكن موقفهم مختلف تجاه الحرب) في إضافة وحذف وتعديل فقرات مشروع القرار للتوصل إلى الحد الأدنى من الإجماع المشترك قبل التصويت، وهنا تبدأ التنازلات، ونزع مخالب وأنياب القرار الذي هو في الأصل حول عمل عسكري يجب أن يكون متكاملا، لكنه جاء ناقصا بلا مخالب، فالعمال اشترطوا للتصويت قصر العمليات العسكرية على العراق وعدم نشرها في سوريا، بل قرار مجلس أمن، وعدم نشر أي قوات بريطانية على الأرض في العراق أو غيرها؛ أي خوض الحرب بيد مقيدة خلف الظهر رغم إجماع القادة العسكريين بأن الحرب الجوية وحدها لا تكفي.
    كان يمكن دعوة المجلس للانعقاد يوم الخميس، فلماذا اتفقت الأحزاب الثلاثة على استدعاء المجلس يوم الجمعة؟
    السبب التوحد ضد حزب استقلال المملكة المتحدة، وهو حزب يميني لا يدعو فقط لانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، بل هو حزب تتنامى شعبيته باطراد، لأنه ضد المؤسسة السياسية التقليدية التي فقدت شرائح معتبرة من الشعب الثقة بها. موعد المؤتمر السنوي لحزب الاستقلال كان يوم الجمعة، وبالتالي يضرب رئيس الحكومة كاميرون عصفورين بحجر واحد؛ كسب تصويت في المجلس (رغم أن القرار لا معنى تأثيريا حقيقيا له من الناحية الاستراتيجية العسكرية) يغسل به عار فقدان تصويت العام الماضي، إلى جانب سرقة الأضواء الصحافية من مؤتمر حزب الاستقلال، فيحظى بأقل تغطية ممكنة في الصحافة، وهو هدف تشاركه فيه زعماء الأحزاب الأخرى الذين يسرق الحزب المتمرد الأصوات منهم.
    الجميع ملتزم بقواعد لعبة الديمقراطية، وكل يستغل القواعد لأقصى الحدود لتحقيق مكاسبه الحزبية وطموحاته كرجل سياسة.

    "الشرق الأوسط"
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media