جدلية الحرية والقانون
    الأثنين 26 يناير / كانون الثاني 2015 - 04:59
    راغب الركابي
    منذ احداث باريس الدموية جرت مناقشة لأكاديميين وكنت أحد المدعوين إلى ذلك  عن جدلية -  الحرية والقانون -  ،  وجرت المناقشات في مساحة واسعة عن الطبيعة الموضوعية لمعنى الحقوق المتبادلة بين الفرد والمجتمع  ،  وما هي الأولويات في ذلك حمايةً للمجتمع ؟ ، ولقد ركزت في بحثي على الحرية التي أؤمن بها كأسساس مفاهيمي موضوعي يُعرف الطبيعة المادية للفرد وللمجتمع ، كذلك  ركزت على القانون بإعتباره المواد التي تسالم الأفراد على القبول بها حمايةً لهم ولحقوقهم  مؤكداً على أن القانون في ذاته لا يكون كذلك من غير الحرية  -  أي إنها الأساس الموضوعي الذي يهب للقانون صفته القابلة للتطبيق والقبول -  ،   ولا يجب بل ولا يفترض أن نعتبر إن بينهما تصادم وتقابل  يدعونا للفصل بينهما أو لفك الإرتباط   .
     فالحرية   :   في التعريف  هي القاعدة التي تؤوسس للقانون   ، وبعبارة أدق هي القاعدة  التي  يُصاغ  على أساسها و يكتب القانون  ، وفقاً لقيمها  ومعانيها ، والقانون   :  في طبيعتة الموضوعية  ليس  منفصلاً  عنها  ،  ولا ينبغي  له  أن يكون  كذلك   ،  كما لا ينبغي له ان يكون  كابحاً للحرية ولا يجب له ذلك   ،   والقانون الذي يتصادم مع الحريات هو قانون مستبد لا يجوز الخضوع له  أو الإلتزام به ،  ولا يجوز أن يُكتب القانون وفقاً لمعاني الإعتقادات الدينية والحزبية   ، وهنا تبرز عندنا قضية المقدس بالنسبة لبعض الأفراد   ،  التي جعل منها هذا البعض حجة ملزمة لجميع الأفراد  في مسوغ يدخل في باب الجبر والإكراه   ،   مع إن المقدس مهما  علا  صفته الموضوعية صفة ذاتية لا يجوز تحميل الأخرين تبعاتها ، وهذا الذي أقوله  ورد  بحسب الديباجة القرآنية لمفهوم الإيمان والإعتقاد  ، إذ إن القرآن يجعلهما  شديدي الخصوصية  ،  يتحركان في دائرة المسائل الشديدة الخصوصية بالنسبة للفرد   ،  ولا يعمم  القرآن  هذا الإيمان أو هذا الإعتقاد  إلاَّ من باب الكلمة الحسنة  أو الكلمة السواء   .
     إذن  العلاقة مع المقدس  هي  علاقة أو قل هو  صيغة لا يجوز فيها الإلزام أوالإكراه أوالجبر ، بإعتبار إن المُراد  منها  هو منع تحميل الأخرين  في صيغة الممكن الوحيد  وجعل ذلك ممتد تحت بند التلاقح الفكري ،  وقد  طُرحتها  الفلسفة في صيغة ومعنى التبادل الذي يخضع العقيدة والإيمان  لليقين الذي يحصل بالبحث والبرهان والإثبات  ، وحصول هذا بالنسبة   لشخص ما لا يعني  بالضرورة  حصوله لشخص أخر ، ولهذا تعدد المقدس لدى الأفراد  البشريين  ،  وهذا التعدد  صفة إيجاب يهب لمن يريد ملاحقة الحقيقة أن يستقرئها ويحقق فيها ويمحص الأدلة عنها ، وذلك الفعل جزء من حق الوجود المطلوب   ،  وحتى هذا الحق المطلوب جاء في صيغة التراخي  ،  وليس في صيغة الإلزام  والجبر   مع العلم ان ليس كل العقول تتمكن أو تتحصل على المقدمات  نفسها التي يحصل عليها الغير  وضمن الشروط الموضوعية التي تحقق القناعة واليقين المطلوب .
    ومن هنا تبدو عملية قتل الصحفيين في مجلة -  شارلي أبيدو -  جريمة منظمة بإمتياز   ، جريمة يصح معها الوصف  القائل  :  بانها جريمة مع سبق الإصرار والترصد ، وأنطلق هنا في وصفي لها من خلال السياقات الموضوعية العامة  ، وإيضاً  لما أطلعت عليه من النصوص القرآنية  التي  تُحرم قتل الإنسان لمجرد إعتقاده  وإيمانه   من قبيل   -  من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر -   ومثلها كثير   ، و لهذا  حصر القتل ضمن  بند -  الظلم   -  أي إن جواز القتل والقتال المسموح فقط وفقط مع وجود الظلم ولرفعه  ،  وهذه المحدودية لا تُحاكي قضايا الإيمان وقضايا المعتقد فتلك تقع عنده ضمن ساحة الحرية المُصانة للجميع ، و هذه الصيغة يقع  فيها حق النقض والإبرام  المباح   وفي قوله تعالى -  حتى يأتيك اليقين  -   .
     وضمن ذلك  لا نجد إن المسلم  قد أستوعب ذلك ووعاه  بعد    في  معنى ومفهوم الحرية   (  في الدين وفي الحياة   )   ،  كما إن  المسلم الذي يتلقى تعليمه من المنابر الجوالة   لا يميز بين قضايا القانون ومواده وقضايا الحرية ومساحاتها ، وعدم الفهم هذا منشأه التلقين الديني المغلوط الذي يؤوسس في ذهن الفرد  المسلم  طبيعة الحق من وجهة نظر واحدة وإعتبار ذلك ملزماً للجميع ، وتلك هي مغالطة معرفية وبيانية   ،  إذ إن  المسلم  لا يميز بين حريته  ضمن القانون وحرية الغير ضمن القانون إيضاً ، لأنه يجعل   من حريته  فوق القانون  وإن مايؤمن به هو الحق  ودونه الباطل   ،  وعلى ذلك أسس حركته  وفهمه للأشياء  ،  وعلى ذلك إيضاً يريد إجبار الأخرين على القبول بها على النحو الذي يؤمن به  هو .
    وهذه ليست المرة الأولى التي يوظف فيها  المسلم معتقده الديني على أساس إنه الحق ومادونه الباطل ، ومعلوم  إن تلك إشكالية مبنائية لأن الذي يؤمن به وما يقدسه ليس بالضرورة ما يؤمن به الأخر ويقدسه ، فالله المقدس عنده هو ليس الله المقدس عند الهنود والنبي المقدس عنده  هو ليس النبي المقدس عند النصارى ، وحرية الإعتقاد لا تجيز جعل مايؤمن به حجة على الغير ، ناهيك عن إن أعمال جُل المسلمين تجعل من الأخرين يشككون في صدق وسلامة المعتقد  .
    وذلك للتناقض بين المفاهيم والواقع ، فواقع المسلمين يحدثنا عن الصورة البشعة المكروهة عن الحياة   ،   وجرائم التنظيمات الإسلامية للقاعدة وداعش تعطي للجميع إنطباعاً  ،  بان الدين الإسلامي دين للعنف والجريمة  والتخلف وقطع الأعناق وسبي النساء ، ولم نجد لذلك الحديث الطويل عندهم عن العدل والمساوات والمحبة والأخوة   أية وجود   ، بل إن جرائم تلك التنظيمات بحق المسلمين الشيعة   ،  والمخالفين لهم من أهل السنة   ،  أكبر وأفدح بكثير مما يناله أهل الديانات الأخرى ، ومن هنا نقول إن إسلام التنظيمات لا يشجع على تداعيات جدل إحترام المقدسات   ،  ذلك لأن المسلم نفسه لا يحترم دعوات وبيانات ما يقوله المقدس الإسلامي   عنده   ، ولهذا لا يجوز أن نُلزم الأخرين بما لا يلزم المسلمين به أنفسهم  ، أعني إن كنت تدعوا للخير وللجنة فعليك أولاً أن تكون قدوة في هذا المجال لكي يقتدي بك الأخرون .
    نعم إن جدلية -  الحرية والقانون -  تستدعي شروحات مستفيضة من ذوي الإختصاص ، حتى لا يتندر علينا من يدعي إنه في ذلك يساوي بين الملزمات القانونية لدى الغربيين أنفسهم تجاه بعض المسميات ، مع إننا نعيد ونكرر  إن التفريق بين ما يتعلق بحماية الإنسان وبين ما يعتقد به شيء مختلف والقانون ينظر إلى ذلك من خلال كون ذلك الشيء ذاتي وليس موضوعي ، والحماية القانونية تتركز على الأشياء الموضوعية وليس منها المعتقد الذاتي مهما أتسع وعظم ...

    راغب الركابي
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media