نوري السعيد رجل المهمات البريطانية الكبرى -14-
    الأحد 4 أكتوبر / تشرين الأول 2015 - 21:30
    حامد الحمداني
    حركة الكيلاني الانقلابية عام1941 وموقف نوري السعيد

    بدا الوضع السياسي بعد تشكيل حكومة الهاشمي يميل نوعاً ما إلى الهدوء بعد تلك العاصفة التي حدثت بين الكيلاني والوصي. لكن النار كانت لا تزال تحت الرماد، فقد كان عنصر الثقة بين الوصي والهاشمي شبه مفقود، كما كانت الثقة بين الكيلاني ومن ورائه العقداء الأربعة المسيطرين على الجيش وبين الوصي قد تلاشت.

    وكان الوصي ومن ورائه السفارة البريطانية يعمل في الخفاء من أجل تشتيت شمل قادة الجيش تمهيداً للتخلص منهم ومن الكيلاني، ومارست السفارة البريطانية ضغوطها على رئيس الوزراء من أجل إبعاد العقداء الأربعة عن أي تأثير سياسي في البلاد، كما ضغطوا على الهاشمي لقطع العلاقات مع إيطاليا، وكان الهاشمي يخشى رد فعل الشعب إن هو فعل ذلك.
     ونتيجة لتلك الضغوط أقدم الهاشمي بصفته وزيراً للدفاع وكالة بتاريخ 26 آذار 1941 على نقل العقيد[كامل شبيب] إلى قيادة الفرقة الرابعة في الديوانية، ليحل مكانه صديق الوصي الذي أواه في الديوانية اللواء الركن [إبراهيم الراوي]، كما أصدر قراراً آخر بنقل مقر قيادة الفرقة الثالثة التي يقودها العقيد [صلاح الدين الصباغ ] من العاصمة بغداد إلى جلولاء. (30)
    كانت تلك الإجراءات التي اتخذها الهاشمي بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، كما يقول المثل، فلم يكد يبلغ القرار لقادة الجيش حتى قرروا على الفور التصدي له ورفضه، واتخاذ التدابير السريعة والضرورية لحل الأزمة بصورة جذرية.
    ففي مساء يوم 1 نيسان 1941، أنذر العقداء الأربعة قطعات الجيش في بغداد، وتم إبلاغها بما ينوون القيام به حتى إذا انتصف الليل، نزلت القوات العسكرية لتحتل المراكز الهامة والحساسة في بغداد، كدوائر البرق والبريد والهاتف والجسور ومداخل الطرق الرئيسية، وجميع المرافق العامة في بغداد، وتوجه العقيد [ فهمي سعيد ] وبرفقته وكيل رئيس أركان الجيش [ محمد أمين زكي ] إلى دار رئيس الوزراء السيد[ طه الهاشمي ] وأجبروه على الاستقالة. واضطر الهاشمي إلى تحرير كتاب استقالة حكومته إلى الوصي، وسلمها لهما حرصاً على عدم إراقة الدماء. (31)
    أما الوصي  فقد أيقضه الخدم من النوم، وأبلغوه أن هناك أوضاع غير طبيعية في منطقة القصر، وأن الجيش متواجد في المنطقة، فما كان من الوصي إلا أن صمم على الهرب مرة أخرى، واستطاع الإفلات من قبضة الجيش، ولجأ إلى السفارة الأمريكية بعد أن تعذر عليه الوصول إلى السفارة البريطانية، وقامت السفارة الأمريكية بنقله إلى قاعدة الحبانية، ومن هناك تم نقله على متن طائرة حربية بريطانية إلى البصرة حيث نقل إلى الدارعة الحربية البريطانية [ كوك شبير] الراسية قرب البصرة، وكان برفقته كل من [علي جودت الأيوبي ] ومرافقه العسكري [عبيد عبد الله المضايفي ] ثم لحق بهم [ جميل المدفعي ]. (32)

    وحاولت السفارة البريطانية الاتصال بأعضاء وزارة طه الهاشمي في محاولة لنقلهم إلى البصرة للالتحاق بالوصي، لكن العقداء الأربعة حالوا دون خروجهم، كما نصبت القوات البريطانية للوصي إذاعة لاسلكية حيث قام بتوجيه خطاب إلى الشعب في الرابع من نيسان، 
    وقامت الإذاعة البريطانية في لندن بإعادة إذاعة الخطاب مرة أخرى، وقد هاجم الوصي في خطابه الكيلاني والعقداء الأربعة، واتهمهم بالاعتداء على الدستور، والخروج على النظام العام واغتصاب السلطة.

    كما أخذ الوصي يحرض قائد الفرقة الرابعة في الديوانية  [إبراهيم الراوي] وقائد حامية البصرة العقيد[رشيد جودت] وعدد من شيوخ العشائر الموالين للبلاط والإنكليز للتمرد على الكيلاني وقادة الجيش، والزحف على بغداد، لكن الراوي وجودت رفضا السير مع الوصي بهذا الطريق الذي لو تم لوقعت حرب أهلية لا أحد يعرف مداها.

    بادر العقداء الأربعة بعد هروب الوصي إلى تشكيل مجلس الدفاع الوطني، وتم اختيار [رشيد عالي الكيلاني] رئيساً للمجلس ليقوم مقام مجلس الوزراء.
    وفي أول اجتماع لمجلس الدفاع الوطني قرر المجلس إرسال مذكرة إلى الحكومة البريطانية تحذرها من التدخل في شؤون العراق الداخلية، وتقديم الدعم والمساندة للوصي عبد الإله. كما قرر المجلس إرسال قوات عسكرية إلى البصرة لمنع أي تحرك ضد مجلس الدفاع الوطني، وتم اعتقال متصرف البصرة [ صالح جبر ] الذي قطع صلاته ببغداد تضامناً مع الوصي، وتم تسفيره إلى بغداد. (33)

    عزل عبد الإله وتعين شريف شرف وصياً على العرش
     رداً على تحركات الوصي الرامية إلى إسقاط حكومة الدفاع الوطني وهروبه من العاصمة، وتعاونه مع المحتلين البريطانيين في هذا السبيل فقد وجهت حكومة الدفاع الوطني إنذاراً له بالعودة إلى بغداد فوراً وإلا فإنها ستضطر إلى عزله من الوصاية وتعين وصي جديد على العرش بدلا منه. ولما لم يستجب عبد الإله للإنذار قررت حكومة الدفاع الوطني عزله من الوصاية، وتعين [ الشريف شرف ] وصياً على العرش بدلاً عنه، وقد صادق البرلمان على هذا الإجراء في جلسته المنعقدة في 16 نيسان 1941. (34)
    وبعد أن تم تعين [الشريف شرف] وصياً على العرش، قدم مجلس الدفاع الوطني برئاسة رشيد عالي الكيلاني استقالته إلى الوصي الجديد في 12 نيسان 1941 لغرض تشكيل حكومة مدنية جديدة، وقد كلف الوصي السيد الكيلاني بتشكيل الوزارة الجديدة في اليوم نفسه، وتم تشكيل الوزارة على الوجه التالي :
    1 ـ رشيد عالي الكيلاني ـ رئيساً للوزراء ووزيراً للداخلية .
    2ـ ناجي السويدي ـ وزيراً للمالية .
    3 ـ ناجي شوكت ـ وزيراً للدفاع .
    4 ـ موسى الشابندر ـ وزيراً للخارجية .
    5 ـ رؤوف البحراني ـ وزيراً للشؤون الاجتماعية .
    6 ـ علي محمود الشيخ علي ـ وزيراً للعدلية .
    7ـ يونس السبعاوي ـ وزيراً للاقتصاد .
    8 ـ محمد علي محمود ـ وزيراً للأشغال والمواصلات .
    9 ـ محمد حسن سلمان ـ وزيراً للمعارف .
    وفور تشكيل الوزارة أعلن الكيلاني عن عزم الحكومة على عدم توريط العراق في الحرب مع الالتزام بمعاهدة التحالف مع بريطانيا، والتمسك بالتعهدات الدولية. وقد لاقت حكومة الكيلاني تأييداً كاسحاً من أبناء الشعب الحانقين على الاستعمار البريطاني وعملائه.

    بريطانيا تسقط حكومة الكيلاني، وتعيد عبد الإله:
    تسارعت التطورات في البلاد بعد أحكام سيطرة رشيد علي الكيلاني والعقداء الأربعة على مقاليد الحكم، ولاسيما وأن الحركة قد لاقت تأييداً واسعاً من أبناء الشعب عامة الذين كانوا يحدوهم الأمل في التخلص من الاستعمار البريطاني الذي أذاقهم الأمرّين، وهكذا أصبحت الأمور صعبة للغاية بالنسبة لبريطانيا وتنذر بمخاطر كبيرة .
    وبناء على ذلك طّير السفير البريطاني [كورنوليس] برقية إلى [المستر تشرشل] رئيس الوزراء  جاء فيها : { إما أن ترسلوا جيشاً كافيا إلى العراق أو انتظروا لتروا البلاد في أيدي الألمان}.
    فلما اطلع تشرشل على البرقية أسرع بالإبراق إلى وزير الهند لإرسال قوات عسكرية، وإنزالها في البصرة على عجل. (36)

    كانت الحكومة البريطانية قد أبلغت العراق قبل وقوع الانقلاب أنها عازمة على إنزال قوات في البصرة لنقلها عبر العراق إلى حيفا في فلسطين حيث تقتضي ضرورات الحرب.
     وبموجب المعاهدة العراقية البريطانية يحق لبريطانيا ذلك، بعد إبلاغ ملك العراق بذلك، ولذلك فقد اتصل القنصل العام البريطاني في البصرة بوكيل المتصرف يوم 10 نيسان، وأبلغه أن فرقة من الجيش الهندي على ظهر ثلاث بواخر حربية، وبحراسة طرادين حربيين، وثلاث طائرات سوف تدخل المياه الإقليمية العراقية خلال 48 ساعة، وطلب منه إبلاغ حكومته بذلك للموافقة على نزول تلك القوات في البصرة .
    كما قام مستشار وزارة الداخلية المستر [ ادمونس ] في بغداد بزيارة رئيس الوزراء الكيلاني وابلغه بنفس الأمر. (37)

    وعلى الفور أجتمع مجلس الوزراء، وبحث الأمر، وبعد مناقشة مستفيضة اتخذ قرارا بالسماح للقوات البريطانية بالنزول، وفق الشروط التي اتفق عليها في 21 حزيران 1940، والتي نصت على نزول القوات لواء بعد لواء،على أن يبقى اللواء مدة معقولة وهو في طريقه إلى فلسطين، ثم يليه نزول اللواء التالي، بعد أن يكون اللواء السابق قد غادر الأراضي العراقية، وعلى الحكومة البريطانية أن تشعر الحكومة العراقية بعدد القوات المراد إنزالها.
    كما قررت الحكومة العراقية إيفاد اللواء الركن [ إبراهيم الراوي] إلى البصرة لاستقبال القوات البريطانية كبادرة حسن نية من الحكومة. لكن بريطانيا كانت قد قررت غزو العراق وإسقاط حكومة الكيلاني بالقوة وإعادة عبد الإله وصياً على عرش العراق، وكانت تعليمات القيادة البريطانية تقضي باحتلال [منطقة الشعيبة ] في البصرة واتخاذها رأس جسر لإنزال قواتها هناك، والانطلاق بعد ذلك إلى بغداد.

    وفي يومي 17  و 18 نيسان 1941 نزلت القوات البريطانية في البصرة، وعلى الفور أبرق رئيس الوزراء البريطاني تشرشل إلى الجنرال [ ايمسي ] في رئاسة الأركان البريطانية يأمره بالإسراع بإنزال 3 ألوية عسكرية في البصرة. وقد بدا واضحاً من تصرف تلك القوات أنها لن تغادر العراق، كما هو متفق عليه، بل لتبقى هناك حيث قامت بحفر الخنادق وإقامة الاستحكامات، وترتيب بقائها لمدة طويلة.

    وفي 28 نيسان 1941 أبلغ مستشار السفارة البريطانية في بغداد وزارة الخارجية العراقية بنية بريطانيا إنزال  قوة أخرى قوامها 3500 جندي وضابط في 29 نيسان، وقبل رحيل القوات التي نزلت في البصرة قبلها. عند ذلك أدركت حكومة الكيلاني أن بريطانيا تضمر للعراق شراً، وأنها لا تنوي إخراج قواتها كما جرى عليه الاتفاق من قبل، بل لتستخدمها لاحتلال العراق من جديد، وعليه اتخذت قرارها بعدم السماح لنزول قوات بريطانية جديدة في البصرة قبل مغادرة القوات التي وصلت إليها من قبل.

    كما طلبت الحكومة العراقية من السفير البريطاني تقديم أوراق اعتماد حكومته كدليل على اعتراف بريطانيا بالوضع الجديد في العراق. وفي الوقت نفسه قررت الحكومة العراقية القيام بإجراءات عسكرية احترازية لحماية العراق، وأصدرت بياناً إلى الشعب بهذا الخصوص، وقد أشار البيان إلى إخلال بريطانيا بنصوص معاهدة التحالف، وأن الحكومة قد قدمت احتجاجاً رسميا إلى الحكومة البريطانية. كما أشار البيان إلى عزم الحكومة على التمسك بحقوق العراق وسيادته واستقلاله.

    لكن الحكومة البريطانية تجاهلت مواقف الحكومة العراقية واحتجاجاتها وأنزلت قوات جديدة في البصر في 30 نيسان، وحاولت تلك القوات قطع الطريق على القوات العراقية المتواجدة هناك، لكن القوات العراقية استطاعت الانسحاب إلى المسيب، مقرها الدائم .  وهكذا أيقنت حكومة الكيلاني أن الصِدام بين الجيشين العراقي والبريطاني قد أصبح أمرأً حتمياً، وقررت اتخاذ عدد من الإجراءات العسكرية لحماية بغداد. (38)

     فقد أرسلت عدداً من قطعاتها العسكرية إلى المنطقة القريبة من [الحبانية] حيث توجد قاعدة جوية بريطانية كبيرة. لكن ثلاث أسراب من الطائرات البريطانية قامت على الفور بقصف تلك القوات المتمركزة في [ سن الذبان ] بجوار بحيرة الحبانية وذلك صباح يوم الجمعة المصادف  2 أيار 1941، وبذلك اشتعلت الحرب بين العراق وبريطانيا، وقام على الأثر السفير البريطاني بإصدار بيان موجه إلى الشعب العراقي كان قد أعده سلفاً، وهاجم فيه بشدة حكومة الكيلاني، واتهمها بشتى التهم، وبذلك كشف البيان عن جوهر السياسة البريطانية  وأهدافها الاستعمارية العدوانية تجاه العراق. وفي اليوم نفسه قدم السفير البريطاني إنذاراً للحكومة العراقية بسحب قواتها من أطراف الحبانية، وهدد باتخاذ أشد الإجراءات العسكرية ضدها. (39)

    وعلى اثر تلك التطورات والأحداث المتسارعة أجتمع مجلس الوزراء واتخذ قرارات هامة للدفاع عن العراق كان منها:
    1ـ إعادة العلاقات مع ألمانيا، والطلب بإرسال ممثلها السياسي على الفور، وطلب المساعدة منها.
    2 ـ إقامة العلاقات الدبلوماسية مع الاتحاد السوفيتي فوراً.
     3ـ نشر بيان صادر من رئيس الوزراء حول العدوان البريطاني على القوات العراقي.
    4 ـ إرسال مذكرة احتجاج إلى الحكومة البريطانية على تصرفاتها تجاه العراق. (40)

    وعلى الأثر قام الوزير العراقي المفوض في تركيا بمقابلة السفير الألماني [ فون بابن ] وطلب منه تقديم كل مساعدة ممكنة للصمود بوجه القوات البريطانية، وقد أبلغه السفير الألماني أن تقديم المساعدة يتطلب مدة من الزمن، وسأله كم من الزمن تستطيع القوات العراقية الصمود أمام القوات البريطانية، وأخيراً تم الاتفاق على إرسال عدد من الأسراب من الطائرات الحربية الألمانية للدفاع عن مدن العراق التي أخذت تتعرض لقصف الطائرات
    البريطانية، ريثما يتمكن الألمان من تقديم مساعدة فعالة للحكومة العراقية.
    وفي الوقت نفسه تلقى العراق كميات من الأسلحة عن طريق سوريا حيث كانت ألمانيا وإيطاليا قد استولت على تلك الأسلحة بعد انهيار فرنسا.

    ورداً على سحب موجودات البنوك أعلن الكيلاني انسحاب العراق من منطقة الإسترليني، وحاول تغير العملة بالتعاون مع ألمانيا، لكن الزمن لم يمهله لتنفيذ ذلك، فقد تصاعدت الأزمة بعد أن فتحت القوات البريطانية النار على القوات العراقية المتواجدة في البصرة، واستطاع الفوج العراقي الموجود هناك الانسحاب من المنطقة في 2 أيار 1941.

    أدى تصرف القوات البريطاني إلى هياج عام في صفوف الشعب العراقي، وتوالت فتاوى رجال الدين تدعو للجهاد ضد المحتلين البريطانيين، وكان على رأسهم المرجع الديني الأكبر لطائفة الشيعة [أبو الحسن الموسوي الأصفهاني ] والإمام  [محمد حسين آل كاشف الغطاء]  اللذان دعيا الشعب العراقي للجهاد ضد المحتلين البريطانيين، كما ناصرت الشعوب العربية شعب العراق في كفاحه ضد الاستعمار البريطاني.

    استطاعت القوات البريطانية تعزيز وجودها في البصرة، بدأت بالزحف بقواتها الآلية نحو [العشار] فجر يوم الأربعاء المصادف 7 أيار  ،1941 وتمكنت من احتلال جميع المرافق الحساسة، والجسور بعد معارك دامية مع الأهالي سقط خلالها عدد كبير من الشهداء والجرحى في معركة غير متكافئة مع جيش كبير ومنظم، وعلى أثر ذلك أمرت الحكومة موظفيها في البصرة بالانسحاب والعودة إلى بغداد.

    كما قررت  في 9 أيار إنهاء خدمات الضباط البريطانيين في الجيش  العراقي، وفي 11 منه قررت الاستغناء عن خدمات جميع الموظفين والمستخدمين البريطانيين، كما قررت في  13 أيار تخويل رئيس الوزراء صلاحية عقد اتفاقات لشراء الأسلحة من الدول الأجنبية.

    استمرت المعارك مع القوات البريطانية حول [الحبانية]، لكنها لم تكن متكافئة على الإطلاق، ففي الوقت الذي كان الجيش العراقي يمتلك الإرادة الشجاعة للدفاع عن الوطن، كان يعوزه السلاح والعتاد، في حين كانت القوات البريطانية تمتلك كل أنواع الأسلحة والطائرات، والخبرة القتالية، فقد أخذت الطائرات البريطانية تقصف القطعات العسكرية العراقية حول [سن الذبان ] منذ صباح يوم 2 أيار، كما أرسلت القيادة البريطانية في فلسطين قوة عسكرية أخرى تتألف من لواء خيالة وعدة كتائب مختلفة مجهزة بالآليات والمدفعية مع قوة أخرى من رجال الفرقة العربية التي كان يقودها  القائد البريطاني [كلوب باشا] في شرق الأردن.
    وفي 19 أيار بدأ الجيش البريطاني هجوماً واسعاً تحت غطاء جوي كثيف من الطائرات الحربية ضد الجيش العراقي، وخاض الطرفان معركة غير متكافئة استطاعت خلالها القوات البريطانية دحر القوات العراقية، وأسرت 320 جندياً و23 ضابطاً، وانسحبت بقية القوات باتجاه بغداد، وبذلك استطاعت القوات البريطانية احتلال [الفلوجة ]الواقعة على مقربة من بغداد في 20 أيار 1941.

    وفي اليوم التالي شنت القوات العراقية هجوماً معاكساً في محاولة لاستعادة الفلوجة، وكانت تلك القوات تتألف من فوجين  ومعززة بثمانية دبابات، لكنها فشلت في هجومها بعد أن استشهد  273  جنديا و11 ضابطاً، وتدمير7 دبابات.

    بعد اندحار القوات العراقية في معركة الفلوجة بدأت الحكومة تنظيم دفاعاتها حول بغداد، حيث أصبحت القوات البريطانية على بعد 60 كيلومتر من العاصمة، لكن القوات البريطانية عاجلتها بهجوم كبير على ثلاثة محاورمن منطلقةً من الفلوجة يوم 27 أيار، ومهدت القوات البريطانية هجومها بقصف مركز بالطائرات على مدينة بغداد لأحداث أكبر تأثير نفسي على قوات الجيش العراقي والحكومة وأبناء الشعب، وبدا في تلك الساعات أن الأمر قد أفلت من أيدي الكيلاني والعقداء الأربعة حيث أصبح احتلال بغداد مسألة وقت لا غير، ولذلك فقد قرر الكيلاني والعقداء الأربعة الهروب ومغادرة بغداد، والنجاة بأرواحهم تاركين البلاد والشعب تحت رحمة المحتلين، حيث رحل العقداء الأربعة إلى إيران مساء يوم 29 أيار 1941، ثم تبعهم رشيد عالي الكيلاني وأمين الحسيني، وشريف شرف، ومحمد أمين زكي، ويونس السبعاوي.

    بدأت لجنة شكلت في بغداد برئاسة [أرشد العمري] مفاوضات مع السفارة البريطانية في بغداد على شروط وقف إطلاق النار، وإعلان الهدنة تمهيداً لدخول القوات البريطانية إلى بغداد، وعودة الأمير عبد الإله وصياً على العرش وولياً للعهد.
    وفي 30 أيار توقف القتال بصورة نهائية، وعاد الوصي إلى بغداد في 1 حزيران 1941 تحت حراب المحتلين البريطانيين، وكان برفقته كل من نوري السعيد، وعلي جودت الأيوبي، وداؤد الحيدري، وهكذا تخلص البريطانيون وعبد الإله من العقداء الأربعة والكيلاني، الذين لعبوا دور كبيراً في الحياة السياسية في البلاد، وتم إحكام الهيمنة البريطانية على مقدرات العراق من جديد.

    لم يهدأ لبريطانيا والوصي عبد الإله بال إلا بعد أن تم اعتقال العقداء الأربعة فقد بدأت المخابرات البريطانية تتابعهم حتى تسنى لها القبض عليهم واعتقالهم في إيران، كما تم اعتقال يونس السبعاوي، وصديق شنشل، مدير الدعاية العام الذي عينه الانقلابيون، وتم إحالة العقداء الأربعة إلى المجلس العرفي العسكري، الذي سبق أن حكم عليهم بالإعدام . كما حكم المجلس العرفي العسكري على يونس السبعاوي بالإعدام أيضاً، وعلى صديق شنشل بالسجن لمدة 5 سنوات. و جرى إعدام العقداء الأربعة  في 6 كانون 1942، وبذلك تخلص الوصي من نفوذهما إلى الأبد.

    أما رشيد عالي الكيلاني فقد تمكن من الوصول إلى تركيا، واستطاع السفير الألماني [فون بابن] أن ينقله مع أمين الحسيني إلى ألمانيا، حيث مكث فيها إلى أن أوشكت الحرب على نهايتها، وبات اندحار ألمانيا أمر حتمي، حيث هرب إلى سويسرا ومنها إلى السعودية.

    تم إدارة البلاد إدارة عسكرية صرفه، وتم تشكيل المحكمة العرفية العسكرية برئاسة العقيد [ مصطفى راغب]، وقامت الحكومة بحملة اعتقالات واسعة جداً شملت كل من كانت له علاقة بالنظام السابق، أو أيّد حكومة الكيلاني، وقد بلغ عدد المعتقلين أكثر من 20 ألفاً، بحيث عجزت السجون، ومراكز الشرطة عن استيعابهم، وبدأت المحكمة العرفية تصدر الأحكام الجائرة، وترسل بآلاف المواطنين إلى غياهب السجون، واستمرت الأحكام العرفية سارية المفعول حتى شهر آذار من عام 1946.

    كما قامت الحكومة بإلغاء امتيازات الصحف التي كانت تصدر على عهد حكومة الكيلاني، ومنحت امتيازات جديدة لصحفيين طارئين كانت مهمتهم التشنيع بحكومة الكيلاني والعقداء الأربعة، ومداهنة الإنكليز، وفرضت الرقابة الصارمة على المطبوعات، ومنعت أي إشارة أو دعاية ضد البريطانيين، ومنعت التجمع لأكثر من أربعة أشخاص، ولجأت الحكومة إلى إصدار المراسيم بدلا من الرجوع إلى مجلس الأمة الذي حاول الكيلاني حله ورفض الوصي ذلك،  فقد أصدرت الحكومة منذ 2 حزيران وحتى 7 تشرين الأول 1941 أحد عشر مرسوماً، كان من بينهم مرسوم تعديل مرسوم الإدارة العرفية الذي سمح بموجبه بمحاكمة القائمين بحركة الكيلاني، ومرسوم يقضي بفصل المشتركين والمساندين لحركة الكيلاني من مناصبهم، ومرسوم ثالث يقضي بإعادة الضباط الكبار الذين سبق لحكومة الكيلاني إحالتهم على التقاعد، إلى الخدمة وغيرها من المراسيم الأخرى.

     كما قامت الحكومة بإحالة عدد كبير من ضباط الجيش الذين كان لهم دور في دعم وإسناد حكومة الكيلاني، أو المشكوك في ولائهم للإنكليز والوصي على التقاعد.
    وفي المقابل قررت الحكومة إعادة الضباط والمستشارين الإنكليز الذين طردتهم حكومة الكيلاني إلى مراكزهم السابقة، كما أعادت الموظفين والمستخدمين الإنكليز إلى أعمالهم السابقة أيضاً .
    أما المحتلين فقد حولوا مدينة بغداد إلى معسكر كبير لقواتهم، فقد تم نقل ما يزيد على 100 ألف جندي إليها، وسمحت الحكومة ببقاء تلك القوات حتى نهاية الحرب، كما سمحت الحكومة للمحتلين أن يشاركوا في إدارة ميناء البصرة، وبذلك أصبح المحتلون هم الحكام الحقيقيون في لبلاد، وصارت الحكومة ألعوبة في أيديهم تنفذ لهم كل ما يطلبون.
     وفي ظل تلك الظروف القاسية تدهورت الأحوال المعيشية لأبناء الشعب حيث ارتفعت الأسعار، وفقدت السلع والحاجيات الضرورية، والمواد الغذائية، وبات تدبير أمور المعيشة لسائر الطبقات الفقيرة والمتوسطة أمر صعب للغاية.

     ومع كل تلك الخدمات التي قدمتها حكومة المدفعي للمحتلين، إلا أن السفارة البريطانية لم تكن راضية عن إجراءاتها بحق الذين ساندوا حكومة الكيلاني ودعموه، ورأت أن المدفعي لا يمارس القمع المطلوب ضد المعارضين للاحتلال البريطاني الجديد للبلاد، وتدل البرقية التي طيرتها السفارة إلى وزارة الخارجية البريطانية بتاريخ 8 آذار 1941 على الموقف الحقيقي للسفارة من حكومة المدفعي، ورغبتها في إبداله والمجيء بنوري السعيد، رجل بريطانيا المعتمد عليه كل الاعتماد، فقد جاء في تلك  البرقية ما يلي:

     {لقد تصرفت حكومة المدفعي الخامسة وكأن أحداث أيار شبيهة بأي انقلاب حكومي آخر، حيث تذهب حكومة وتأتي حكومة أخرى، وهو أمر أصبح مألوفاً بعد وفاة الملك فيصل الأول، وينظر المدفعي إلى أحداث أيار 1941 وكأنها فصل آخر من مسرحية مؤسفة، فيدعو إلى إسدال الستار عليها بوحي من الشهامة والكرامة، حتى أصبح الموظفون يتقاعسون عن أداء واجباتهم حين يرون الوزراء يتوسطون لأشد المعادين لبريطانيا، وعلاوة على ذلك فقد حدّ المدفعي من تدخل السفارة العلني في أمور العراق الداخلية، واستمر في غض النظر عن توصياتها الملحة في ضرورة تشديد القبضة على جميع العناصر المناوئة للإنكليز، وتطهير الجيش منهم، مما حمل السفارة على العمل على إسقاط الحكومة من الداخل، عن طريق إحداث خلاف بين أعضائها، وإثارة المشاكل أمامها، مما يودي إلى إضعافها، وبالتالي إسقاطها}. (41)

    بهذا الأسلوب سعت السفارة البريطانية إلى إسقاط حكومة المدفعي باختلاق الخلافات بين أعضائها، وخاصة الوزير[إبراهيم كمال] الذي اتهم المدفعي بالتهاون إزاء الانقلابيين، ودخل في مهاترات معه، مما دفع المدفعي إلى التوجه إلى الوصي باستقالة حكومته في  21 أيلول 1941، وتم قبول الاستقالة، وطلبت السفارة البريطانية من الوصي تكليف نوري السعيد بتأليف الوزارة الجديدة، فقد حان الوقت ليعود نوري السعيد إلى المسرح السياسي من جديد، ويؤدي الدور الموكول له في قمع الحركة الوطنية، والتنكيل بكل خصوم الإنكليز الذين وقفوا إلى جانب الكيلاني وساندوه، وتصفية كل العناصر الوطنية المناهضة للاحتلال في صفوف الجيش.
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media