يمكن تحليل أية ظاهرة من وجهات نظر عديدة، وظاهرة داعش لا تختلف عن ذلك. ونحن إذ نحللها هنا على أساس انها "سلاح جديد"، فإننا ننطلق من افتراض اولي بأن داعش من صنع إسرائيل - أميركا، وأن أميركا تتصرف بشكل عام كوكيل لإسرائيل في الشرق الأوسط وتلتزم اجندتها (مع استثناءات نادرة جداً) وبالتالي فأن اميركا تعامل داعش كفرقة أمريكية سرية أو كسلاح سري أميركي. ومن حق القارئ ان يرفض هذا الافتراض وبالتالي يتوقف عن القراءة لأننا لن نناقشه في هذه المقالة فقد تم ذلك مرات عديدة وسنعيد ذلك كلما شعرنا بالحاجة إليه، اما الآن فهذه المقالة مخصصة لنا نحن الذين اقتنعنا بهذه النقطة ونريد أن نتقدم خطوة أخرى في تحليلها لنعرف كيف نتعامل معها.
عندما نقول "سلاح جديد" فإننا لا نقصد بالضرورة "سلاح حديث" بالمعنى التكنولوجي، وإنما سلاح يتم إدخاله لأول مرة في المعركة، وهذا ما يعطيه صفات معينة من القوة والضعف.
فمن المعروف أن إدخال سلاح جديد إلى المعركة كثيرا ما يتسبب في قلب موازين المعركة لصالح الجهة التي تستعمله، حيث لا تمتلك الجهة المقابلة ما يقابله. لكنه بالمقابل يكون سلاح غير مجرب وغير مهذب أي يحمل وفرة من نقاط الضعف ويحتاج الكثير من الوقت لتطويره، وفي هذه الأثناء يكون العدو قد فهم الجهاز واتخذ ما يلزم لمواجهته بعد فهم نقاط ضعفه، أو تقليده.
ويتيح لنا تاريخ "الأسلحة الجديدة" وتعامل المقابل معها، فرصة جيدة لدراسة والتعامل مع أي سلاح جديد. دعونا نأخذ جولة قصيرة مع ذلك التاريخ.
بشكل عام فأن السلاح "الجديد" يأتي دائما للتغلب على مشكلة أو نقطة ضعف في الحرب فيحقق الأفضلية لأصحابه. وقد يكون السلاح الجديد لسد ثغرة في الدفاع، كما قد يكون لسد ثغرة في الهجوم. لنأخذ على سبيل المثال تاريخ أسلحة مهاجمة القلاع. لقد كانت بوابة القلعة هي نقطة الضعف الكبرى في دفاعاتها. فاخترع المدافعون البوابات المتعددة التي تصل بينها الممرات الطويلة ليمر بها الغزاة ليلقى عليهم من ثقوب في اعلاها الماء والزيت المغلي أو الأحجار والسهام. وإن كان سور القلعة هو الاختراع الدفاعي الأساسي فيها، فقد كان الآشوريون الذين حكموا إمبراطورية عراقية عظيمة لثلاثمئة عام منذ 900 ق.م.، يستعملون عربة تحمل جذعاً ضخماً معلق بشكل افقي بواسطة حبال، وله رأس معدني. وتتم أرجحة الجذع بالقرب من السور وضربه به لتحطيمه. لكن ذلك كان يعرض الجنود القائمين عليه إلى قصف المدافعين بالسهام وغيرها من الأعلى، مما يعطي المدافعين أفضلية الضرب من الأعلى. فصنع المهاجمون الآشوريون "الأبراج المتحركة" المصنوعة من الخشب والحصران، وتحمل في اعلاها رماة الأسهم، فأعطتهم الأفضلية وعنصر المفاجأة. لكن خصومهم سرعان ما اكتشفوا ان النار خير دفاع بوجه هذا السلاح.
ثم اخترع المقدونيون المقلاع الذي كان يوتر بواسطة حبل يتم برمه فيتقلص طوله ثم يفلت فيطلق الحجارة أو النار على الأسوار لتحطيمها او داخل القلعة المحاصرة لحرقها. لكن نقطة الضعف لهذا السلاح انه كان ثقيلا ولا يسهل نقله مع الجيش إلى المدن البعيدة، وأحيانا يتطلب نقل حجارته معه.
وجاءت حرب الخنادق الطويلة في الحرب العالمية الأولى باختراعات عديدة للتغلب على نقاط الضعف فيها، وكانت نقطة الضعف الأساسية هي صعوبة الهجوم على المدافعين المتخندقين وكلفته العالية، خاصة بعد اختراع الأسلاك الشائكة. وأدى ذلك إلى حالة من التوازن الجامد، فاخترعوا الأنفاق التي تحفر تحت الخنادق والقيام بتفجيرها. فاستعمل المدافعون أجهزة تحسس للأصوات والارتجاجات ليفاجئوا المهاجمين قبل ان يفاجئوهم. واستعمل الألمان الغازات السامة عام 1915 فرد عليهم المقابل بالأقنعة الواقية والغازات السامة المقابلة، وتكررت نفس القصة مع قاذفات اللهب التي اخترعها الألمان عام 1915. ثم اخترع الإنكليز عام 1916 الدبابة التي لا تؤثر بها رصاصات الرشاشات الآلية، وتستطيع بفضل سرفتها أن تسحق الأسلاك الشائكة وتعبر من فوق الخنادق والحفر. فكانت مفاجئة الحرب المخيفة، لكن سرعان ما اكتشف العدو نقاط ضعفها وسهولة اعطابها، وصنع دباباته هو أيضاً. ولمواجهة الأسطول البريطاني القوي، استعمل الألمان الغواصات (U-boat) التي اغرقت الكثير من السفن البريطانية قبل ان يجدوا لها حلا، وهكذا تستمر الحرب وتتطور في وحشيتها في كل مرة بسلاح جديد للهجوم او الدفاع، ليعود الخصم ليجد له حلا او يصنع نسخته منه، الخ.
كيف ننظر إلى داعش كسلاح جديد؟ وما هي صفاته وما هي نقطة الضعف التي جاء من صنعه به ليسدها؟
قلنا إننا ننطلق مما نعتبره حقيقة، هي أن داعش من صنع الإسرائيليين والأمريكان، وبالتالي فهم أصحاب هذا "السلاح الجديد"، وبما انهم الأقوى والذين يهاجمون كل العالم اليوم، فمن المنطقي ان يخدم سلاحهم الجديد لسد نقاط ضعف هجومية. لكن هل هناك حقاً نقاط ضعف هجومية في منظومة اقوى دولة في العالم والتي تنفق على السلاح ما يعادل بقية دول العالم مجتمعة، علما ان معظم الدول التالية في القوة، هم حلفاء لها؟ وهل يعقل ان في سلاح الهجوم لأميركا وإسرائيل بأسلحتهما النووية والتقليدية المتقدمة، نقطة ضعف يمكن ان تسدها مثل داعش؟
إنه الرأي العام! الرأي العام في العالم، وحتى داخل البلدان المعتدية نفسها، صار يشكل عقبة بوجه الهجوم، وصار سلاح الدفاع الرئيسي للجانب الأضعف، حتى قال البعض أن في العالم اليوم قوتان عظيمتان، هما أميركا والرأي العام.
هل هذا حقيقة ام اننا نبالغ؟ اليس الإعلام الجبار كله بيد أميركا وإسرائيل؟ أليست الأمم المتحدة العوبة بيدها؟ أي رأي عام هذا المؤثر ليحسب له الأمريكان والإسرائيليون حساباً ويخترعون من اجله اسلحةً؟
ربما نحن لسنا راضين عن مستوى هذا الرأي العام، ولنا الحق في ذلك، لكن الإحصاءات تبين أن الأمر ليس بهذا السوء، وأن المعتدين لا يخدعون الجميع، بل لا يخدعون إلا أقلية، رغم حجم اعلامهم واموالهم!
فهذا استبيان تم في عام 2003، يبين أن جميع شعوب دول الاتحاد الأوروبي بلا استثناء رأت في إسرائيل الخطر الأكبر على السلام في العالم، وبمعدل مهول بلغ 60%! (1) وجاءت اميركا في المرتبة الثانية في الاستبيان المذكور. ولم تملك إسرائيل تجاه ذلك سوى "الغضب" المضحك ولم ترد إلا بتأسيس مؤسسات إعلامية جديدة للرد على "تشويه سمعتها"، وكأن تلك السمعة لم تأت من وقائع حقيقية.
وتوالت الإحصاءات وبقيت هاتان الدولتان في المراكز المتقدمة كمراكز تهديد كما تراها شعوب العالم (2). ورغم كل التمثيليات الكبيرة فأن استبياناً قبل عامين بين ان الأمريكان أنفسهم توصل إلى نتيجة مدهشة هي أن الأمريكان يخشون حكوماتهم أكثر مما يخشون الإرهاب! (3)
ولكن هل يعيق أي رأي عام، حتى لو كان داخل أميركا وإسرائيل، ساستها واثرياء حروبها من شن الحروب؟ لقد لاحظ جومسكي أن هناك توصية منذ منتصف القرن الماضي، ان تكون الحروب سريعة. وفسر الأمر على أن الرأي الشعبي المضاد للحرب ينمو تدريجياً، وأن صناع الحروب يخشون تفاقم الرأي العام داخل شعوبهم وفي العالم. وقد اضطرت أميركا للانسحاب من فيتنام بالضغط الشعبي والرأي العالمي. وصحيح أنها بعد ذلك هاجمت يوغوسلافيا والعراق رغم الرأي العالمي ورغم الأمم المتحدة، إلا أن ذلك كلفها الكثير من سمعتها وجعلها تبدو كتهديد لكل الشعوب، كما رأينا في الاستبيانات، وهي لا تستطيع الاستمرار بذلك بدون تهديد بنيتها الداخلية. وقد تجمع الضغط الشعبي ليظهر تأثيرا مباشرا لأول مرة في منع تشكيل التحالف لمهاجمة سوريا، حيث رفضت بريطانيا لأول مرة في تاريخها طلبا أمريكيا بالتعاون على الهجوم على جهة ما، وبالرغم من ان حكومتها كانت حكومة ذيلية لأميركا إلى حد بعيد، فحتى مثل هذه الحكومة قد تصل حداً تضطر فيه ان تحسب لرأي شعبها حساباً.
إذن كان هناك بالفعل مشكلة كبيرة لدى المهاجم، وعقبة تقف بوجه طموحاته وتشل قدرته على استعمال تفوقه العسكري التقليدي، فتوفرت الحاجة، وهي ام الاختراع، إلى السلاح الجديد، فتم اختراع "داعش"!
ما هي افضليات هذا السلاح الجديد؟ اختراع "داعش" وأخواتها، كفرق إرهابية إسرائيلية – أمريكية تحمل علماً مزيفا يمثل ضحايا إسرائيل وأميركا نفسهم، من خلال جنود تم تجنيدهم من الدول العربية والإسلامية، ويرفعون أكثر شعارات عنف وجدها مؤسسوها في التراث الإسلامي، وبشكل مقنع للعالم وللكثير من الضحايا أنفسهم، يتيح لهاتين الدولتين تجاوز تلك العقبة تماماً، واستخدام هذه الفرق يوفر فرصة ذهبية للمهاجم، حيث يضع في يده سلاح خفي لا يستطيع الرأي العام أن يراه وينتقده عليه. فهذا السلاح منيع على سلاح الرأي العام لدى المدافع، تماما كمناعة طائرات الشبح أمام الرادارات. فهو يتيح له أن يشن الحروب بكل حرية دون أن يتعرض لاحتجاج الأمم المتحدة أو منظمات حقوق الإنسان أو غيرها، فالمشهد يبدو وكأن اعداءه قد جن جنونهم فصاروا يقتلون بعضهم البعض، وهو بعيد عن الساحة تماماً. إضافة إلى ذلك فهو يتيح له أن يصور ضحاياه كوحوش بشعة تستحق احتلاله لأرضها واستغلالها، بل والتظاهر باتخاذ موقف "مبدئي"، وتقمص دور المدافع عن الحرية والمهاجم للإرهاب. والأكثر من ذلك ان هذا السلاح يمنع التكاتف الذي يلجأ اليه المدافعون، ليصبحوا قوة فعالة بوجه المهاجم، فهو يحول مشاعر الغضب لتتجه داخليا بين فصائل الضحايا وخلافاتها الداخلية.
ويقوم عملاء أميركا في الإعلام وكذلك الذين تم اقناعهم بأجندتها دون علم، بإضافة اللمسات الأخيرة على كل المشهد، وبشكل يبدو بريئاً، فيبحثون في تاريخ الإسلام عما يؤكد للعالم أن "داعش" نتاج طبيعي لهذا التاريخ، بينما يقوم آخرون بمنع توجيه الاتهام إلى أميركا وإسرائيل بالتركيز على شعارات مثل "أن ننظر إلى أنفسنا أولاً". إضافة إلى كل ذلك يلعب هذا السلاح الدور الأساسي في التحطيم الطائفي للإسلام، كما انه يصبغه بصبغة الجنون والعنف في نظر العالم ونظر المسلمين أنفسهم ويبعث فيهم اليأس منه.
ويتم هذا التحطيم بخطوتين: الأولى إظهار وحشية داعش بأبشع ما يمكن، والثانية التأكيد هي أن داعش هي ما يمثل الإسلام الحقيقي، وأنها النتاج الطبيعي لأفكاره ومفاهيمه.
وإذا تذكرنا أن التنظيمات الإسلامية هي الجهات الوحيدة التي بقيت صامدة في مقاومة إسرائيل في الوطن العربي، وإن تنظيمات العلمانيين (اليساريين) قد ارهقت تماما إلى حد اليأس والاستسلام وتماهوا مع أميركا ومع عملاء إسرائيل، نفهم أهمية هذا السلاح الجديد لتوجيه الضربة القاصمة لبقايا من يقاوم من المدافعين على الصعيد النفسي، مثلما هو على الصعيد العسكري البحت.
الجزء الثاني والأخير من هذه المقالة سيكون عن كيفية تمكن إسرائيل من بناء سلاحها الجديد وعن نقاط ضعفه وتوقع نهايته. تجد الجزء الثاني هنا:
(1) - EU poll sees Israel as peace threat
http://www.theguardian.com/world/2003/nov/03/eu.israel(2) -Poll: Israel and US Biggest Threats to World Peace
http://www.twf.org/News/Y2003/1031-Poll.html(3) Americans fear government more than terror
http://www.wnd.com/2013/04/americans-fear-government-more-than-terror