مبنى القصر الجمهوري: العمارة بوصفها مظهراً "للهيبة" 1-2
    السبت 21 نوفمبر / تشرين الثاني 2015 - 21:27
    د. خالد السلطاني
    معمار وأكاديمي
    ظلت العمارة، كاحدى تمظهرات الممارسة البنائية الرفيعة، هي التى عادة، ما تنطوي على المنتج البنائي المتحقق، مع ما يفرزه من جماليات موصولة بدلالات رمزية، تعد أحدى الوسائل الهامة والاساسية و"المنظورة" للرفع من مقام ونفوذ وهيبة الدولة ..وحكامها! من هنا، يمكن ايجاد تفسير لذلك الاهتمام الجدي، متعدد الجوانب بالشأن المعماري من قبل المسؤولين وخاصتهم، طمعاً في زيادة الحظوة والاعتبار لهم ...وللدولة التى "يحتكرون" تمثيلها. لقد شهد المسار المعماري التاريخي الطويل، بزوغ  "تابولوجية" تلك الابنية وعمارتها المعبرة عن مثل تلك التوجهات والمرامي. ومثلما يكون نظام الحكم متنوعاً ومتغيراً، تكون عمارة تلك المباني مختلفة، تجاري تلك المتغيرات و"تعبر" عنها. هكذا كان الحال منذ امد طويل، وسيبقى حاضرا في المشهد، طالما كان هناك حاكم ومحكوم و..عمارة تسعى وراء التدليل على ذلك!
    عندما تاسست الدولة العراقية في عام  (1921)، كان من ضمن ما تفتقده من ابنية ذات وظائف متنوعة، مباني "مقرات الحكم"، التى فرض وجود الدولة الجديدة مسوغات ظهورها. وعلى عجل تم تصميم وتنفيذ "البلاط الملكي" في 1923، بالكسرة في الوزيرية، كمقر إداري لرأس الدولة، من قبل مديرية الاشغال العمومية (المعمار: جيمس ويلسون). ورغم تواضع المبنى وقلة فراغاته، الذي اصر الملك المؤسس ان يكون كذلك، قائلا بانه لايريد <بلاطاً> فخماً بقدر ما يرغب ان يرى ابنية  آخرى تلبي احتياجات مواطني البلد الحديث، رغم ذلك فقد استمر العمل في مباني البلاط (التى شهدت فراغات المبنى العشريني بعض التوسعات) لفترة طويلة، امتدت الى ثلاثة عقود ونيف! واثر ارتفاع الواردات النفطية بصورة كبيرة في الخمسينات، ارتأت الحكومة وقتها ان تباشر ببناء جملة من المباني الجديدة التى وُجد في  تشييدها امر ضروري وملح، يتناسب مع "منزلة" البلد، وما احرزه من نجاحات في المنطقة وجوارها. وقد ترافق ذلك مع تاسيس "مجلس الاعمار" المعني في تقديم مقترحات لمشاريع تنموية عديدة شملت مختلف مناحي الحياة، التى يتعين ان يشهدها العراق في السنين القليلة القادمة.
    القصر الجمهوري (البلاط الملكي سابقا)، كرادة مريم، (1951-58)، المعمار" جون كوبر"، منظر عام.
    في تلك الاثناء، وفي بداية الخمسينات (وايضا على عجل!)، تقرر تشييد مبنيين: احدهما للملك، والآخر "للرعية"، (حتى لا يقال بان راس الدولة " احتكر" لنفسه، بواكير مباني النهضة المرتقبة، ولم يراع متطلبات الناس الآخرى!).  وهذان المبنيان هما: "البلاط الملكي" (1951-1958)، و "مجلس الامة" <البرلمان> (1951-58). الاول خاص بالملك، والثاني  مكرس للشعب (لمندوبيه، على وجه التحديد!). اختير مكان لهما في ضاحية  "كرادة مريم" بالكرخ: "صوب" بغداد الذي ظل طويلا منسياً معمارياً، وبعيدا عن وجود مؤسسات حكومية مهمة فيه. كما وقع الاختيار على اسم معمار بريطاني لتصميم هذين المبنيين، سبق وان عمل في الثلاثينات ببغداد، وصمم الكثير من مبانيها المهمة وقتذاك. وهو المعمار " جون بريان كوبر" (1899- 1983)   J.B. Cooper.(ويقال ان من ضمن اسباب تكليفه في انجاز هذين العملين المهمين، هي الرابطة الشخصية التى ربطته مع افراد العائلة المالكة وقتذاك، وفي الاخص، مع الامير عبد الاله: الوصي على عرش العراق). معلوم ان نهج "كوبر" يميل الى الاسلوب الكلاسيكي في العمارة، او بالاحرى "الكلاسيكية الجديدة" Neo- Classic، والتى تعتبر امتدادا للمقاربة الكلاسيكية، ولكن مع التأكيد على بساطة التفاصيل، وايلاء اهتمام كاف الى المواد البنائية والاساليب الانشائية الحديثة. معلوم، ايضاً، ان نهج "النيو كلاسيك" في المشهد المعماري، قد تجاوزه الزمن، ولم يبق من مناصريه الا قليل من المعماريين المحافظين، وحلت محله توجهات الحداثة بكل تنويعاتها الاسلوبية.
    القصر الجمهوري (البلاط الملكي سابقا)، كرادة مريم، (1951-58)، المعمار" جون كوبر"، الواجهة الخلفية.
    اثار قرار تكليف "كوبر" <النيو كلاسيكي> لتصميم اهم مبنيين في الدولة العراقية، غضب واستياء المعماريين الشباب العراقيين "المؤمنيين" بالحداثة وقيمها المعمارية. واحتجوا، بان اتخاذ مثل ذلك القرار يعتبر، في نظرهم، تجاوزاً غير مقبول على المفاهيم الحداثية التى امست هي الشائعة في الممارسة المعمارية وخطابها. واذكر، في مقابلة شخصية اجريتها مع رفعة الجادرجي في نهاية السبعينات، عن <من> وقف وراء دعوة المعماريين الحداثيين العالميين (الذين كانوا ينظر لهم في بعض الاوساط المعمارية العالمية "كمتمردين"!)، للعمل في بغداد بالخمسينات، وتكليفهم في اعداد مشاريع مهمة (اعتبر تصاميمها من الاحداث المؤثرة في مسار العمارة العالمية الحديثة)، فاجاب، عندما علمنا بان كوبر حظى بذلك التكليف، ابدينا عدم ارتياحنا للمسؤولين، ورفضنا لمثل هذه القرار، رغم قلة عددنا. عندها قال المسؤولون وقتها: حسنا، ومن تقترحون؟ ما هي اسماء المعماريين الآخرين الذين يمكن دعوتهم للمشاركة في اعداد تصاميم مجلس الاعمار التى ستعلن لاحقاً؟   وتأكيدا على تلك الواقعة، ذكر لي ايضاً، المرحوم المعمار المخضرم جعفر علاوي، بانه قابل مع بعض المعماريين الشباب، بضمنهم : نزار جودت وزوجته الين الايوبي، ورفعة الجادرجي وقحطان المدفعي وعوني، وغيرهم الشخصية السياسية العراقية المتنفذة، والمناصرة للحداثة، وزير الاقتصاد "نديم الباجه جي" لعرض عليه اسماء المعمارين العالميين، الذين يمكن دعوتهم للمشاركة في مشاريع الاعمار. وكان في عداد الاسماء: فرنك لويد رايت، ولوكوربوزيه، وفالتر غروبيوس، والفار آلتو، وجيو بونتي، واوسكار نيماير، ووليم دودوك وغيرهم. وقد رحب معظمهم بفكرة المساهمة في المشاريع العراقية، عدا "اوسكار نيماير" <اليساري>، الذي برر عدم رغبته بالمشاركة بذريعة طبيعة نظام الحكم المستبد القائم وقتذاك، المعادي لشعبه. وهكذا حظيت بغداد، في النتيجة، بـ "لحظة" معمارية  تاريخية، اثمرت عن تصاميم متنوعة الوظائف، عدت وقتها اضافة نوعية في تقدم الفكر المعماري العالمي. لكن هذة ..حكاية آخرى! دعونا، اذن، نرجع ..الى "كوبر" ومبناه الملكي!
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media