التاريخ السرّي للعقرب
    الأثنين 23 نوفمبر / تشرين الثاني 2015 - 22:22
    محمود يعقوب
    (الإنسان طيب قال روسو ، إذن فلنأكله)

    قال :
    " ليس من السهل أن تكون قاتلا ً . في الأعماق ، يلوح الأمر بالغ التعقيد . البعض يوهم نفسه بأنه بين عشية ٍ وضحاها ، ما أن ينتزع قلبه النابض من مكانه هناك ، ويستبدله بقطعة ٍ من حجر الصوان الأسود .. ما أن يُفرِغ كل ما في ثيابه من حاجياته الشخصية :  منديله النظيف ، ومحفظة نقوده ، وسلسلة مفاتيحه ، ليعبأ بدلا ً منها موادَ ناسفة ً ، أنه أصبح قاتلا ً يخافه الداني والقاصي ..                                                                                                             الأمور ليست هكذا ، أبدا ً ، إنها أصعب وأصعب من ذلك بكثير ..
    يولد القاتل ميتا ً ، ثم يعيش قليلا ً لأجل أن يموت .                                                                 إنه يعوم في بحر الظلمات ، يصارع لجج الموج المجنون كالقرصان الغادر ، مترنحا ً ، منهوك القوى ، ومعصوب العين . يندفع بوجه الريح ، وفوق رأسه ترفرف رايته المهلهلة السوداء .. الراية التي رُسِمت فوقها ، بقرف ٍ ونفور، جمجمة تبسّم الموت في تجاويفها ابتسامة ً منخورة ً .. ابتسامة ًمنذرة ومتحدية ، يند منها خيط رائحة ٍ نكراء ، متلاشية .. رائحة تجعل الرفيف وحشيا ً ..
    كم من الأوقات تقاذفه بركان الموج ، وطواه بين جوانحه المعربدة ، وقـَبَرَه بعيدا ً حتى لامس الأعماق المميتة . لكنه سرعان ما يصعد من القعر مندفعا ً ، كاسرا ً ، مثل سمكة قرش خطرة . مكشّرا ً عن أنياب ٍ مخيفة ً تقطر ُ دما ً ، وقاضما ً كلَ شيء يصادفه . يخترق الموج نحو السواحل الوادعة ، الآمنة ، وزعانفه الدكناء تشق الماء كالسيف ، ثم لا يلبث أن يلوح بكامل جسده أمام الأنظار يتقلب ، خطرا ً ومخيفا .. ما أقبح الزعنفة المميتة أمام الساحل الوديع !..تقع عيناك عليه وهو يغمس سبابته في دم الضحية ، ويرفعها عاليا ً أمام نور الشمس ، وعيناه تقدح انبهارا ً بها . دم ٌ كالبلور الأحمر ، أشهى من دماء الطيور والغزلان  .. دم ٌ آدميٌ طيب المذاق . سرعان ما تزهر بهجة الألوان بين عينيه ، فيتلألأ اللون الأخضر التفاحي ، والأصفر الموزي ، وأزرق عين الطفل ، والفيروزي ، في طيـّات الأحمر الياقوتي المثير . تبدو لعينيه مسحة الدم مسحة ً قزحية ً ساطعة ً ، و سبابته المغموسة بالدم تنتصب مثل شمعة ٍ متألقة الأنوار تضيء له جنائن الحياة !.ثم يقرّب الأصبع من منخريه المرتعشين ويشم رائحته ، فيهتاج ثملا ً. يستنشق أنفاسا ً من رائحة ٍ زكية . إنه لا يشم رائحة الصدأ في الدم ِعلى الإطلاق ، إنما يشم شذا ً عطريا ً نديا ً، ينبسط به صدره ويرتخي ، وتسري تلك الرائحة إلى الأعماق البعيدة في كيانه . لتوقظ فيه نداء بداءة الوحشية الأولى .. وعلى الفور تتنبه أحاسيسه من غفوتها ، وتتفتح عيناه على وسعهما ، ويكشر عن أنيابه ، ويزمجر في غضب ٍ عاتي ، بينما يقدح الشرر في عينيه وهو يخطف كالشهب ، فيسارع ليغرز تلك السبابة المدماة في جوف فمه ، ويمتص هذا الرحيق بتلذذ غريب  وعجيب . يمتصّه بالجوع المسعور ، بالنشوة العارمة ، والشهوة الذئبية المدمرة ، ثم يرفع رأسه نحو السماء ، وقد غالبته رغبة ٌ لا تُقاوَم في أن يُطلِق عواء ً عاليا ً ومديدا ً ..  "                                                                      


    نظر بعيدا ً ، كمن يشرد ذهنه ، ثم تابع قوله :
    " إنه رجل ٌ مُكَلـّف بأن يقحم العصي بين برامق دولاب عجلة الحياة ويوقفها عن المسير . يقاوم الرحمة والسلام بسدود ٍ من الأشلاء .. الرحمة .. السلام ، تلك مجرد لمسات أنثوية تليق بصفات الحريم والأطفال فقط ، ولا تليق به ، هكذا يتهيأ له . ليس شجاعا ً بالفطرة ، لكن الكتب الحكيمة تقول أن الذئاب تولد جبانة ، غير أنها سرعان ما تبدأ تعلم الافتراس ..
    يتوهم البعض فيحسب أفعال القتل بأنها مجرد ردود أفعال ، ولكن في كل الأحوال ، وأيٌ كانت تلك الأفعال لا يمكن أن تبررها هذه الردود التي ستبقى غريبة جدا ً بالتأكيد ، بالنسبة لوئد حياة ٍ بريئة ٍ . إن الطبيعة الشريرة هي من تحدو بأصحابها إلى ارتكاب الفظائع بلا ريب .
    ما أقصر حياة القتلة .. حياة لا تحسب بالسنين . تاريخها القصير يشبه تاريخ حشرة زاحفة ، حافل باللسع والخطر .. تاريخ تعني كتابته تسويد صفحات ٍ غزيرة ٍ وهدرها ، ويظل الحبر الأسود يتقاطر منها كالصديد .. "                                                                                               


    ثم روى :
    " فتح ( محمد العقرب ) عينيه في قرية ( المدّاحية ) عند الأطراف الجنوبية النائية من أودية مدينة ( كركوك ) ، ليجد نفسه يركض لاهثا ً خلف الماعز والأغنام  مثل كلب حراسة .
    في تلك الأودية البرية القاسية ، وتحت شواظ لهب الشمس ، وبين تقلب الأنواء ، نشأ وترعرع مثلما تنشأ وتترعرع  ذوات القوائم الأربعة .    
    منذ الطفولة أُنتِزع من البيت ورُمي به إلى البرية ، ليفقد في العزلة دفء الحنان ورقة العاطفة والكثير من تلك الوشائج الجمة التي تجعل الإنسان أكثر إلفة ً من الحيوان ..
    شبّ في خيمة واسعة من المشمع الرمادي الحائل اللون ، بين بضعة شبّان غلاظ الطباع ، عاشوا جميعا ً بعقليات ريفية محضة ، رؤوسهم تفيض بالخيالات والأوهام ، وبالكثير من أخبار النساء الجميلات .
    لم يتمتع باللعب والمرح ، كل ما تعلمه وأتقنه هو تقليد أصوات الحيوانات بشكل ٍ يذهل حتى هذه الحيوانات نفسها . على تلك الأرض الفسيحة الجرداء لم تكن للحياة معان ٍ عميقة .. معان ٍ ثمينة يجدر بالمرء التمسك بها . كان يسرح طوال يومه ويؤوب مساءً بنظرات مبهمة تشبه نظرات الخراف . إن الأيام الطويلة إذ يصيبها الملل فإنها تسقط أرضا ً ، وهي تُرغي وتُزبد ، كما يسقط مريض الصرع ..
    في سلوكه الوعر وملامحه القاسية تكمن آثار تلك الحياة المجدبة التي عاشها . كَبُرَ سريعا ً في البراري . ما أن أغمض عينيه وفتحهما حتى وجد نفسه شابا ً مستحقا ً امرأة ، وكان بإمكانه ، أيضا ً ، أن يغمضهما مرّة ً أخرى ويفتحهما ليجد نفسه في أحضان ملاك الموت  . كان ( العقرب ) رجلاً غير ألوف ، وملامحه ليست جذابة . تبدّلت صورته تماما ً عما كان عليه في فتوته . فقد إحدى عينيه إثر ركلة مفاجئة من حمار ٍ حرون ، وانطفأت إلى الأبد ، انطمست الرؤيا فيها ، ودأب يغلقها على الدوام بصورة لا إرادية ، وأمسى لها لونا ً زجاجيا ً ، أخضر َ مضبّبا ً ، وبات مظهرها مخاطيا ً مقزّزا ً . لم تعد له سوى عين صغيرة مدورة ، واحدة ، غير أن لها نظرة جريئة نافذة  تخترق الأعماق . كانت النظرة تخرج منها مثلما ينفلت الضوء الباهر من وقب ٍ ضيق ٍ ..  يسوق المواشي أمامه ، ثم يتخلف عنها بضعة خطوات ، متلفتا ً ، ينظر إلى الآخرين نظرة غريبة ، غامضة ، وكأنه عائد من الموت ، يقولون أن نظرة الرعاة هكذا تكون ، طالما أهدروا نظراتهم ، وبدّدوها سدى ً طوال ساعات اليوم ، حتى سلخت منها الكثير من المعاني !.
    عندما يجلس بين الرجال يجلس بطريقة هاربة ، غير مبال ٍ في التعرف إليهم ، ثمة برازخ فاصلة تشوش ذهنه الهائم  . تزيحه إلى عالم ٍ لا يشبه عوالم الآخرين ، يترآى لجلسائه مثل كوب شاي غـُفِلَ عنه حتى برد تماما ً ، ولم يعد أحد ٌ يستسيغ شربه .
    كان الإيمان في قلوبهم مترجرجا ً ، تنحسر موجته أحيانا ً ، وتعود طاغية ً مندفعة ً بحماس ٍ في أحيان ٍ أخرى ، إن انقلاب الفصول يحرث آثارا ً عميقة في أرواح الرعاة .
    لطالما كانت تلك الأودية التي يعيشون فيها صناديق َ مقفلة الأسرار . كانت لديه القوة الكافية لغلق أعماقه والختم عليها ،   فلم يبح بمكنوناته حتى لأقرب المقربين .
    إن ثمة حيرة وضياع ظاهرتان في وجهه منذ الطفولة ، لم يستطع ذلك الإيمان المتذبذب من محوهما .تراصت التجاعيد على صفحة وجهه الصغير مبكرا ً . طوال النهارات كان يمكن رؤية شفتيه سوداوين ومتيبستين . سرعان ما اكتسب غرائز البر وطباع الحيوان ، فكان ينام كالقطط ويصحو كالكلاب .. قال له أحد أصدقاءه مازحا ً :
    " لا أظن أن أحدا ً يستطيع يوما ً أن يراك مبتسما ً ، إن وجهك يشبه مخفرا ً من مخافر الشرطة .. "
    إن من يرخي بصره متأملا ً في ذلك البر الخاوي ، المترامي الأطراف ، سيشعر بالجوع والعطش الموّار لفوره ، حيث تنكمش طراوة الحياة ، ولا شيء يوحي بالامتلاء ..   
    تلوح الخيمة للقادم من بعيد وهي تعلو منظر البر ، تحيط بها من الخلف والجانبين حظائر لإيواء المواشي ، بدائية ، بعضها مسقوف والبعض الآخر منها مكشوف ومتداعي .                                           

    لم تعد خيمة الرعاة خاملة ً، كما كانت تنتصب واقفة ً في صمتٍ وخَرَس ٍ ، في سالف الليالي ، إن رياحا ً أخرى باتت تهز المشمع الرمادي ، وتجعله يرتعش في الظلام الندي ارتعاشا ً لذيذا ً ، يبدأ من طرف الخيمة القصي حتى يصل عند بابها .. رياح ٌ تسوق سحب الرغبة الماطرة ، تعتصرها فوق الخيمة ، وتندي بها الجسد اليابس للوادي الفسيح . إن باب الخيمة الذي كانت تُرفـَع أذياله وتُلقى على الجانبين ، لتُترك الخيمة مفتوحة أمام تدفق نسائم البر المتضمخة بضوع العشب كل مساء ، عزّ على المرء أن يراه مشرعا ً ، فيما بعد ، ثمة روائح أخرى ، أخذت أجواء الخيمة تألفها وأمست تسيطر على كل أريج ، وأمام الخيمة مباشرة ً ، على بعد بضعة أمتار بات خزّان الماء المعدني ينضب سريعا ً !..

    يرقد ( العقرب ) نصف نائم ٍ في العتمة . وحينما يستيقظ ليلا ً يستعيد صبوته فيأرق ..
    عندما تبحث عن طبيعته فإنك تبحث في الظلام الدامس عن شيء دقيق غاية الدقة ، لا يمكنك أن تعثر عن معنى واحدا ً من المعاني السامية ، أو على الأقل عن شيء مما في الروح الإنسانية النبيلة .. إنك في النهاية ستجد نفسك أمام وجه ٍ شديد التصحر ، تسف فيه رمال الغدر هائجة ً .
    عاش في جفاف العاطفة وضمورها بين قطعان الحيوانات ، في محيط كانت تُسحق فيه الرقة والشفقة بين الحوافر .
    لم يعد يهاب شيئا ً في ذلك المكان الذي يجوب أطرافه طوال النهار ، كان جريئا ً غير هيـّاب . كثيرا ً ما شاهدوه وهو يتسلـّى بالحيـّات والعقارب الزاحفة هنا وهناك ، يمسكها ويرفعها مباشرة ً بكفه العارية ، ويروح يُمازح الآخرين بها ، وهو يثير رعبهم ، من دون أن يدخل في روعه منها شيء . لأجل ذلك كان يعرف باسم ( محمد العقرب ) . كانت العقارب أكثر الكائنات الدابة فوق الأرض تأثيرا ً على غرائزه .يندر أن يتشوق لزيارة الأهل في قرية ( المدّاحية ) ، وإن حدث ذلك فإنما يحدث في المواسم التي تُباع فيها جميع الماشية ، وتخلو الحظائر منها . في مثل تلك الأيام ، يقصد غالبية الرعاة عائلاتهم للتمتع برفقتهم .

    طوال الأيام كان يفتح عينه السليمة على معاملات الغش والتدليس . كانت لهم أساليبهم الشيطانية التي لا تُحصى في طرائق نفخ الخراف وبيعها . ليس من السهولة على الإنسان جني الربح الوفير في وقت ٍ محدود ٍ من الزمن بدون اللجوء إلى الخديعة والغـَرَر .
    عشرات الطرق تلك التي يُسلـّمونك فيها خروفا ً سمينا ً يملأ عربة النقل بحجمه الكبير ، ولكن ما أن تضع نصل السكين في رقبته حتى يزفر الهواء من أعماقه دفعة ً واحدة ً وكأنه بالون مثقوب . في النهاية سوف تتيقن من أنك ابتعت لعبة ً مجلـّلة بالصوف لا غير .

    يتباهى الرعاة جميعا ً بدقة التصويب ، إنهم نادرا ً ما يخطأون أهدافهم ، لا تقع العين عليهم إلاّ وهم مسلحين ببنادقهم  ليل نهار . وعلى الرغم من وجود عين واحدة فقط في وجه ( محمد العقرب ) .. وعلى الرغم من افتراضات الرعاة المناكدين له بأنه نصف بني آدم ، إلاّ أنهم كانوا يعجزون عن مجاراته في مهارة التصويب .. في السهوب تبدو السماء عالية حقا ً ، والآفاق شاسعة ً ومترامية بصورة ٍ مهيبة . . فيها  يتجرد الإنسان من الجبن والخوف ، وغالبا ً ما يتحلى بالجرأة والإقدام . وأي كان نوع القيود التي توقف الناس عند حدودهم ، فإنها لا تقبض على معاصمهم وتمنعهم في هذه الأماكن النائية . فيها يبدو الإنسان وكأنه ثائرٌ ، متمردٌ في أغلب الأحيان .


          في بواكير أحدى الصباحات ، أقبل ( لافي ) ، رب عملهم ، تاجر المواشي المشهور في تلك النواحي ، في مركبته الكبيرة المقعقعة ، والمصبوغة بالبوية الحمراء المتسخة ، المغطاة أرضيتها بروث الحيوانات دائما ً. جلس بين الرعاة زهاء ساعة من الزمن . كان يلوح أكثر انشراحا ً من أي صباح ٍ مضى . لا يتوانى من أن يعرب عن إعجابه بكل شخص ٍ من الرعاة ، وهو يردد في أسماعه مشيدا ً ومادحا ً :
    " أحسنت .. أحسنت ، والله أنت كفؤ ٌ لعملك .. "
    عبّرَ عن سعادته ورضاه بأن احتسى ثلاثة أقداح ٍ من الشاي ، وكان يروق له احتساء المزيد غيرها لولا عجالة أمره .
    سرعان ما أمر بتحميل المركبة بعدد ٍ من رؤوس الماشية الكبيرة ، الجاهزة للبيع ، ثم التقط معه ( محمد العقرب )  وتوجها صوب مدينة ( كركوك ) . الأمر الأكثر إثارة في هذه السفرة القصيرة ، إن التاجر لم يحشر ( العقرب ) على ظهر المركبة ، مقرفصا ً بين الخراف ، كما دأب فعل ذلك ، بل أجلسه الآن إلى جواره في قمرة المركبة . وشرع يمازحه بلطف طوال الدرب ..طوال الدرب تعذّب ( العقرب ) جراء هذا الحنان الراعف ، إن الضحكات الديكية ، الزاعقة ، التي أطلقها ( لافي ) ، وهو يواصل الثرثرة ، أصابته كالجدري ، وكادت تطرحه أرضا ً . لأول مرّة ٍ في حياته راح يمطره بمثل هذه العناية السمحاء ، التي لا يغدقها سوى الشيطان .رفع نظره إلى السماء ، كانت ندف ٌ بيضاء من سحب ٍ منتشية ٍ تحلق تحت الشمس الساطعة كأنها سرب طيور ، وشعر بحنين ٍ إلى المطر . أحنى ( لافي ) رأسه ونظر إليها أيضا ً ، وقال :
    " إنها جميلة ٌ بلا شك ، وتشبه قطيع أغنام ٍ بيضاء .. "
    طوال الطريق ، ما برح تاجر المواشي يناديه ( أبو جاسم ) ، وهو الذي لم ينده عليه في وقت ٍ من الأوقات بغير ( العقرب ) . كان ( محمد ) يمد نظره كل حين ويحدق في وجهه مليا ً ، خائضا ً في حيرةٍ وذهول ٍ في ملامحه الرابضة تحت ظلال كوفيته السابغة ، وهو يبحث في حماس ٍعن معنى صريح لمثل هذه الرأفة التي انهمرت فجأة ً ..
    " يسرني أن تناديني على الدوام بكنية ( أبو جاسم ) .. "                          
    " أنت بمثابة ولدي ، وأكن لك حبا ً صادقا ً في قلبي .. "

    شقت المركبة طريقا ً وعرا ً بين الرجال والأغنام  ، في سوق الماشية ، متقدمة ً في حذر ٍ وبطء ٍ . التفتت عيون الجميع صوبها ، ورفعت الأغنام ، المعروضة في الشمس ، بدورها أعينها الحزينة وتطلـّعت بصمت . ثم ما لبثت أن توقفت العربة قرب مجموعة من تجار المواشي ، دأب ( لافي ) على التعامل معهم في أغلب الأوقات .                                                                                     ترجّل ( العقرب ) على الفور ، دون أن ينفض جسده ، مهتزّا ً ، كما تهز الخراف الصوف الذي يجلـّلها ، في كل مرّة ٍ ، إثر اجتياز ذلك الدرب الترابي الطويل . وسرعان ما تحلق حولهم نفر ٌ من الناس ، شرعوا يروزون الأغنام بعيونهم ، ومن ثم يوزنون ألياتها بأكفهم العريضة ، الماهرة  .

    بعد أن نجحا في بيع خرافهما ، قاده ( لافي ) إلى أحد المطاعم المعتبرة في المدينة . لم تكن شمس الخريف قاسية ، بالإمكان الجلوس في مواجهة السماء مباشرة ً ، واحتساء قنينة عصير ٍ قبل تناول الطعام . كان الضحى بلون العصير ومذاقه . ارتدت ( كركوك ) تنورة ً برتقالية قصيرة ، وزينت شعرها بالورق الأخضر اللاصف ، كأنها شجرة أعياد . بينما تهدّل ثدياها فوق مائدة الطعام التي كانا يجلسان خلفها ، كان الضحى مغريا ً في الحق ، وتفتحت شهيتهما إلى الطعام بلا حدود .. 
    قال ( لافي ) :
    "ما أن ننتهي من الغداء سنذهب إلى الصلاة في مسجد غير بعيد  .. "
    " كما تشاء .. "
    وعاد ( العقرب ) يحملق في وجه الرجل من جديد ، لم يكن واثقا ً من اقتراحه التالي ، ولم يكن باستطاعته تخيله راكعا ً في المسجد ، هذه أول مرّة ٍ يسمع فيها هذا التاجر المخادع يتحدث عن الصلاة ويسعى إليها في ورع !. تساءل في حيرة ٍ :" هل أن ( لافي ) نزل في إبريق الإيمان بصدق ؟ .. "إنه يخبر هؤلاء التجار خبرة ً وافية ، وهو يعلم كيف أنهم  يصدّون عن المساجد ، متهيبين بعد كل عملية بيع ٍ وشراء ٍ ، بفعل ما أهدروه من أيمان ٍ غليظة ٍ نثروها جزافا ً في السوق ، غشّا ً ومداهنة ً ..

             بعد أن فرغا من الصلاة ، هشّ نحوهما رجل ٌ تلوح على وجهه روح التدين الصارمة . تعانق مع ( لافي ) وجلسا جنبا ً إلى جنب ، دون أن تغيب عن وجهيهما البشاشة . وما لبث أن قال له ( لافي ) :
    " دعني أقدم لك ( أبو جاسم ) .. "
    وهزّ قبضة يده أمام مرأى الرجل ، كأنه يهز سيفا ً مسلولا ً ، وتابع قوله :
    " إنه أحد رجالي الأبطال . "" أنعم به ، أنعم به .. "قال الرجل ذلك ، وهو يبسط كفه بحرارة ٍ ونشاط ٍ ، ليهز كف ( العقرب ) ، بألفة ٍ ووداد ٍ بالغين ، انشرحت لهما النفس وانبسطت ..
    ولكن سرعان ما أضطرم لهب الوساوس في صدر ( العقرب ) ، وبان الارتباك جليا ً على مظهره . تنبه الرجلان إلى ذلك ، فسارع ( لافي ) ليخبره :
    " هذه أول مرّة ٍ أرى فيها الحرج يداهمك .. "
    أخذ المسجد يخلو من المصلـّين . وارتمى على أبسطته الحمراء هدوء ٌ بارد ، وفي فضاء قبته الشحيحة الأنوار ، راحت تختلج أطياف ٌ مرتبكة . حين يشرع رجل الدين بتلاوة كلامه السحري ، ذي النبرة العميقة ، باتئاد ،  يلوح المسجد جليا ً متلطخا ً بروائح الماضي ،  أشبه بالأماكن الأثرية الغارقة في القدم .انتبذ الرجال الثلاثة مكانا ً قصيا ، يتجاذبون أطراف حديث ٍ فضفاض استغرق زهاء ساعتين من الوقت ِ ، نحى منحا ً طائفيا ً ، وأوغل في أخبار السياسة وشجونها !..
    في نهاية اللقاء سار ( العقرب ) مبتعدا ً عن المسجد سير النائم ، كان محقونا ً بحقنة تخدير جعلت أفكاره تلتبس عليه وتختلط ، لاذ بالصمت وسَهِمت أذهانه ، وكان الليل قد نزل بين شفتيه .أذهلته مقدرة رجل الدين الغامرة في السيطرة على الحديث والإمساك بتلابيب الكلام . كان كلامه أقرب إلى الفصحى ، مفعما ً بالأحاديث القدسية وآيات القرآن ، كأنه يتحدث من شاشة تلفاز . لم يتسن َ له أن استمع لمثل هذا السحر الهامس من قبل ، دبّ الخدر في أوصاله إلى درجة ٍ أعيته من أن ينجح في إقحام قدميه في نعله بسهولة ٍ  حينما نهض وهمّ بالانصراف .
    وفيما كان يودعهم ، قال لهم رجل الدين :
    " تعالوا غدا ً إلى الصلاة ، سنكمل حديثنا إنشاء الله .. "
    عندما عادا إلى المقهى ، رمى ( العقرب ) بجسده على الأريكة ، بطريقة ٍ أوحت لتاجر المواشي بكل يقين بأن مفعول المخدّر السحري قد سرى عميقا ً في جسده وروحه .  في ذلك اليوم أمضى ( العقرب ) بقايا النهار شارد الذهن ..  طوال طريق عودتهما إلى المخيم كان ( لافي ) يقود مركبته ، وهو يعيد على أسماع ( العقرب ) مقاطعا ً من حديث رجل المسجد .. يعيدها باستحسان ، وبنبرة ٍ تذوقية ٍ ، مرهفة ٍ  ، في محاولة مكرّسة للسعي به إلى أمر ٍ بالغ الأهمية ، على ما يبدو .  في اليوم الثاني أعاد ( لافي ) الكرّة مجددا ً ، عطف على المسجد فور الانتهاء من بيع بضعة رؤوس أخرى من الخراف . ووضع ( العقرب ) بين يدي رجل المسجد بأمانة ٍ ، ليحقنه المزيد من حقن التحفيز ، ذات المفعول العجيب . كانت طلعة رجل الدين متوترة  بعض الشيء ، لذلك قدّر ( العقرب ) أن التوتر الذي يشوب قسمات وجهه ، وأسلوب تحدّثه  ، وحركة يداه تخفي خلالها شيئا ً خطيرا ً ، فجلس يستمع إليه بطريقته الغير مبالية كما يجلس التلميذ الكسول .بالفعل ، قبل أن يختم الرجل حديثه طلب من ( العقرب ) صراحة ً أن ينضوي للعمل مع أخوته(المجاهدين ) ، قائلا ً له :
    " إن أخوانك ( المجاهدون) يتشرفون بانضمامك إليهم ، وهم بانتظارك .. "وقبل أن يهم ( العقرب )  بالرد على قوله ، انبرى ( لافي ) ليجيب رجل الدين على الفور نيابة ً عنه :
    " إن ( محمد ) ولدي ، وهو رجل بطل ليس بوسعه أن يرفض طلبكم . "
    ثم التفت بوجهه إلى ( العقرب ) ، التفاتة ً توحي في مواجهة الشيطان للشيطان ، ليسأله :                                               
    " أليس كذلك يا ( أبو جاسم ) ؟ .. "في تلك اللحظات بالتحديد كان رجل الدين يلوح وكأنه يجلس بين نغلين من بني البشر .
    وقبل أن يؤوبا إلى المراعي ، طافا معا ً أسواق ( كركوك ) . ابتاع التاجر له أشياءً عديدة : كوفية بيضاء ، وسجائر فاخرة ، مسبحة .. وعاد به إلى الخيمة في حفاوة ٍ تثير الانتباه ..                        


             لم تكد تمضي الأيام حتى عاد ( لافي ) ليصطحب ( العقرب ) في جولة عشوائية أخرى عبر شوارع ( كركوك ) . جابا فيها العديد من المناطق ، وكان ( لافي ) قد أسرّه قائلا ً :
    " سنقابل شخصا ً مهما ً في أحدى المقاهي .. "
    كان ( العقرب ) مسترسلا ً في خيالاته ، لم يعلـّق بأي كلام ٍ على ذلك .
    " أعتقد أن هذا الشخص سيفيدك كثيرا ً في المستقبل .. "
    " أعتقد أنه سيكلفك في واجب ٍ سهل ٍ للغاية .. "
    " ربما سيطلب منك قتل ضابط ٍ .. "
    انتزعت العبارة الأخيرة ( العقرب ) من حومة أفكاره . فغر فمه وتساءل مندهشا ً :
    " أقتل ُ ضابطا ً ؟ .. " .
    " نعم ضابطا ً ، هل تجد في ذلك صعوبة ً ؟ .. "
    فترت النظرة في عين ( العقرب ) ، وظلـّت شفتاه مفترقتان ، وفمه منذهلا ً ..
    " إذا لم تجد في وسعك المقدرة على تنفيذ هذه المهمة ، دعنا نعود إلى خيمتنا ونأتي بالراعي  ( جاسم ) ليتولى أمر الضابط .. "كانت هذه العبارة مشحونة بقدر ٍ كاف ٍ من الخبث لجعل الغيرة تسري في جسد ( العقرب ) حتى الذَنَب ِ، لذلك انتصب صدره عاليا ً ورفع ذنبه ، وهو يرد بسخط :
    " وهل أنا اعتذرت لك عن التنفيذ لتأتي بـ ( جاسم ) ؟ .. " ..
    " كلا ، أنت رجل ، وأنا أخبرك جيدا ً ، ولكن قد تكون الآن غير مهيأ  . "
    " أنا مهيأ لمثل هذا العمل ولغيره . "ساقه التاجر إلى مقهى كان ينتظرهم فيه ثلاثة رجال ٍ ، لاحوا غرباء بالنسبة له ، ومظاهرهم الهزيلة لا توحي بالشراسة ، غير أنهم كانوا يتحدثون باستياء ٍ ، وبمرور الوقت لاحظ الرغبة الحثيثة تطفح في عيونهم لتدمير كل شيء !..
    جلس ( العقرب ) بينهم في تهيب ، وكان صاغرا ً يستمع لأقوالهم مثل صبي مأجور . لم يستغرق لقاؤهم وقتا ً طويلا ً . وحالما انتهوا من احتساء أقداح الشاي ، اتفقوا جميعا ً على خطـّة ٍ متواضعة ، أمَلوا تنفيذها في يوم ٍ قادم ، فيما لو كانت الظروف مؤاتية."                                                                                      
                                                                          
    وواصل روايته :
    " في صباح ٍ كدر ٍ ، كان الغبار يهيج متصاعدا ً مع ريح ٍ عصبية المزاج ، مضطربة ، تثير أخلاط روائح منفرة . توقفت عربة أنيقة ، بيضاء اللون ، عند باب الخيمة مباشرة ً ، ندهوا على ( العقرب ) ، وبعد دقائق حملوه معهم . ابتعدوا قليلا ً عن الخيمة ، وهناك ، خلف زرائب الماشية ، استعرضوا كيف يؤدون أدوارهم ، ويتمون مهمتهم بإتقان .
    في مدينة ( كركوك ) ، جالت العربة بضعة شوارع قبل أن تنطلق صوب نقطة تفتيش ، من نقاط السيطرات الأمنية ، القائمة عند مفاصل المدينة . كانت العربة تقل ثلاثة أشخاص فقط ، قائد العملية يجلس مجاورا ً للسائق ، بينما كان ( العقرب ) يجلس في المقعد الخلفي ، يطل بوجهه المكفهر من النافذة المفتوحة ، وهو يقبض على مسدس كاتم للصوت ، يخفيه في حجره . كان مرتبكا ً بعض الشيء ، ولكن ما إن همّت العربة تجتاز السيطرة حتى شهر مسدسه وأمطر ضابطا ً، يقف في هدوء ٍ ودعة بين رجال التفتيش ، بخمس رصاصات طرحته أرضا ً على الفور . وانطلقت العربة كالشبح المجنون في دوّامة ٍ من المفاجأة والذهول .غاص جسد ( العقرب ) المرتجف في مقعده ، وقد تقاذفته سيول هواجس ٍ غريبة . لم يكن قادرا ً على تركيز أفكاره المضطربة ، كان فقط يشعر بآلام ٍ تسري في أعماقه لا يعرف كنهها . بعد دقائق معدودة وجد العربة تلج به إلى داخل بيت ٍ كبير المساحة في ضواحي المدينة ، وهناك احتجبوا طوال اليوم .
    عند فجر اليوم التالي أُعيدَ إلى خيمته بواسطة عربة أخرى ، مغمورا ً بسيل اعتذارات ٍ من قبل من أتوا به ، وهم يؤكدون له بأنه يليق به العودة في موكب ٍ حافل ٍ لبطل ٍ مثله . وحال وصوله أخذ يشعر بالسكينة والآمان ، وغطّ في نوم ٍ متواصل أثار دهشة أصدقائه ..
    لم يمض ِ على الأمر أكثر من يومين ، لتأخذ هواجسه الكدرة بالصفاء ثانية ً . نزل الحجر إلى القعر ، واستقر هناك ، وماتت دوّامات الموج ، وعادت سريرته كنبع الصخور . إن صورة الرعب الفوّار ، الذي اكتسح ملامح الضابط فجأة ً ، وهو يتلقى الطلقة القاتلة في جبينه العريض ، بدأت تنحسر عن مخيلته ، كما لم يعد أيضا ً أي صدى لصرخته المكتومة حينما تداعى منهارا ًإلى الخلف بطول جسده .شعرَ بأنه نفـّذ المهمة المناطة به على  أتم وجه . على الرغم من المجازفة ، وثقلها الذي رزح على قلبه عدة أيام ٍ ، ها هو يحس بتحرّره وخفته من جديد . وثمة مبلغ ممتاز من المال ، دسّوه له فور عودته إلى المخيم ، جعل يقلـّبه من آن لآخر وهو يحس بالراحة لملمسه ، كان يعادل ضعف أجره الشهري . إن ذلك كثيرا ً عليه . كان بإمكانه أن يكتفي بتلك القبلات التي انهمرت على وجهه ، وبذلك الإطراء المحموم ، وبتلك الابتسامات المشرقة ، التي لوّنت الآفاق أمام أنظاره ! ..
    بعد أيام ، وفيما هو يحاول أن يستعيد تفاصيل ما حدث في ذهنه ، لم يكن يجد فيها أية صعوبات ٍ تُذكر ، كانت تشبه إلى حد ٍ كبير اصطياد الغزلان في البرّية ..                                                          
              
        في نهاية ذلك الأسبوع ، وقي يوم الجمعة تحديدا ً ، حملته العربة إلى ( كركوك ) ، لأداء صلاة الظهر في ذات المسجد السابق . وهناك التقى مجدّدا ً برجل الدين الذي هشّ نحوه مرحّبا ً بحفاوة ٍ ، وطبع قبلة امتنان ٍ على خده ، مطقها بصوت ٍ أجوف ، وحالما جلسا معا ً أخبره بأنه أراح ضمير السماء بفعلته الشجاعة !..ما لبث أن التحق بهم الرجلان اللذان رافقاه في تنفيذ العملية ، التئم شملهم في المسجد بعد الصلاة مباشرة ً ، أخذوا يخطـّطون على الفور لعملية قتل ٍ واسعة أخرى . في هذه المرّة أرادوا استهداف عدد ٍ من كبار موظفي دوائر الدولة ، بغية إرباك عملها ، وبث الرعب بين صفوف الموظفين في المدينة ، كُلـّفَ ( العقرب ) بتنفيذها ، والذي بدوره رحّب بها ، وقد وجدها أيسر من المهمة السابقة .
    بعد أن أصغى لحديثهم ، قال لهم :
    " اعتبروا أن المهمة قد أنجزت تماما ً ، ولا تشغلوا بالكم في الحديث عنها . "                 
    في الصباح الباكر من يوم السبت ، أُذيعَ خبر مقتل ثلاثة موظفين مدنيين ، برصاص الغدر ، أحدهم كان رجلا ً متقدما ً في السن ، أفنى حياته في خدمة المدينة !..
    أثـْرَت المهمة الجديدة ، التي أنجزها بدم ٍ بارد روحه المعنوية المتوثبة ٍ . راحت جذوتها تتألق مع الأيام ، لتجذب أنظار مسؤوليه وإعجابهم بما أظهره من اندفاع غريزي ، وحماسي في القتل . لم تراوده نذر الشؤم على الإطلاق ، أخذ يعمل وكأنه عاملا ً في مجزرة دواجن .
    شاهت ملامحه ، وأصبحت نظرة عينه وحشية ً كاسرة ، وطوال الوقت الذي أعقب العملية الثانية ظل متنبها ً ، يقظا ً ، لا يفارقه السلاح على الإطلاق .
     بات قاتلا ً محترفا ً ، وليس هنالك من شك ٍ في ذلك ، حتى أنه أنجز سلسلة من أعمال القتل في وقت ٍ قصير ٍ ، من دون أن يرتجف له قلب ، أو يطرف له رمش . وجد في هذا العمل فرصة ً سانحة لإظهار مواهبه الشخصية ، والكسب الوفير للمال بعيدا ً عن متاعب الرعي المضنية وآلامه .. الرعي ؟.. إنه لم يعد واثقا ً في قدرته على تربية الأغنام ورعايتها . فها هو يجد ذاته وقد خـُلِقت لأجل الجهاد ، ولم يكن أحد ٌ من زملائه الرعاة على علم ٍ بما يجري ، وإن باتوا يكثرون الشك في رواحه  وغدوه ، وغالبا ً ما كانوا يسددون نظراتهم الحسود خلف ظهره ، قائلين له :
    " الله ربُك َ.. الله ربُك َ ..ما الذي تريده بعد ؟.. أنت تتسكع في شوارع المدينة كل يوم ، ونحن نرعى بدلا ً عنك .. "وكانت أعناقهم تلتوي وهم يراقبون تحركاته ، بينما يحاول أن يردعهم وهو يرشقهم بنظرات ٍ صارمة ، صموت ، فيها ضروب من الأنفة . وما أن يغيب عن أنظارهم حتى تتلمظ ألسنتهم بأغرب الأقاويل ..ولم يكد يمضي الوقت حتى أصبح يقود فريقا ً من الشبان مهمتهم الذبح . كانوا يخطفون المواطنين العُزّل ، وينطلقون بهم إلى أماكن بعيدة ً ، آمنة ، وهناك يتصدى ( العقرب ) لنحرهم على جناح السرعة . يتخلص منهم كما كان يتخلص من الحملان المريضة والماشية التي توشك أن تنفق . إن نصل سكينه مرهف ٌ وممتشق ٌ في كل الأوقات ، وهو تائق للإفاضة أبدا ..                                                                           انصرف إلى عمله الجديد برغبة ٍ جامحة . كان سعيد الحظ  وهو يتجاوز جميع الاختبارات بنجاح ٍ باهر ٍ . تفاقمت الدماء التي سفحها يوما ً بعد آخر ، وما فتيء يعد أرقام من أتى على حياتهم ، أولئك الذين  تم تشخيصهم  بأنهم أعداء الدين . وفي النهاية يلوح فخورا ً بقتله كل هؤلاء الكافرين .

    كانت زيارات ( لافي )  إلى المراعي ، فيما مضى ، متقطعة  وعجولة ، لكنها بدأت تتوالى  يوميا ً وتطول لساعات ٍ، بشكل ٍ لافت ٍ يثير الظنون .  اعتادوا أن يترك بين أيديهم كل شيء وفقا ً لاجتهادهم ، ويكتفي فقط بإصدار الأوامر عليهم ، ثم ما يلبث أن ينصرف . كان يثق بعملهم وتعاملهم السليم مع مواشيه ، كما يأمل ، ثقة طاغية .
    تبدّلت علاقته مع ( العقرب ) تبدّلا ً مدهشا ً ، توثـّقت سريعا ً إلى حد الريبة واستثارة الشكوك . وكان الرعاة حائرين بأمرهما .  لم تكن علاقتهما متكافئة أساسا ً ، ( العقرب ) الذي تشرّبت أدمة بشرته برائحة الماعز ، الذي لم يضع في قدميه نعلا ً طوال حياته ، ما عدا هذه الأيام التي راح يقصد فيها المدينة ، لا يمكن أن يكون نظيرا ً لتاجر المواشي . بالتأكيد إن النعل وحده لا يستطيع  أن يصنع منه رجلا ً معتبرا ً ، يمضي أوقاتا ً فائضة في المدينة ، ويمشي كتفا ً إلى كتف مع تاجر ٍ ، كما هو الآن ..                                                                                                         إن عذاب انبهارهم ظل ينبع من تلك الطريقة المريبة التي يجلسان فيها معا ً ، ومن حرارة التحية والتخاطب ، ولهفة السؤال ، إن أسلوب التهامس بينهما كان وحده يذبح بلا سلاح . ترى هل انقلبت أعراف المراعي فجأة ً ؟ .. أم أصبح ( العقرب ) تاجرا ً للمواشي هو الآخر؟ .. إن ما كان يمزق أعصابهم أيما تمزيق هي هذه الكنية الجديدة التي  تشدق بها التاجر وراح يطلقها على ( العقرب ) ، متى ما جلس قاعدا ً ، أو انتصب واقفا ً كان ينادي تعال يا ( أبو جاسم ) ! .." أين كان من ( أبو جاسم ) في الماضي ؟ .. أم تراه فـُطِمَ عليه اليوم ؟.. "هكذا راحوا يتساءلون ..في أحايين عدة ، حينما يختليان معا ً ، كان ( لافي ) يحسب له رزمة ً من الأوراق النقدية ، ويضعها بين يديه . وها هو ( العقرب ) يرسل إلى عائلته في قرية ( المدّاحية ) بعضا ً منها ، كأنه يفز من غفوة ٍ ويتذكر على نحو ٍ ما أن له أهلا ً هناك !..إن ذلك السر لم يبق َ مدفونا ً في الأعماق ، ومطويا ً تحت تراب البرية ، فها هو وابل أمطار الدم يكشف ذلك السر ، سريعا ً ، للعيان .                                                                                             

         أُصيب ( العقرب ) بطلق ناري ، من قبل شرطة المدينة ، وربما توصـّلوا إلى إدراك ملامحه ، وبات شخصا ً مشتبها ً به .  لذلك تلقفته تلك الجماعات ، وأرسلته إلى مكان آخر ليعالج ، وليكون في مأمن ٍ من تعقب الشرطة . هناك  في ذلك المكان المجهول ، أمضى أياما ً غير قليلة .  في غضون تلك الأيام حضر ( لافي ) إلى المرعى ، بوجه ٍ أكثر صرامة ٍ وتصميم . استدعى الراعي ( جاسم ) ، الأكبر سنـّا ً ، ليرافقه إلى المدينة ، مقتفيا ً نفس الخطوات الأولية التي استدرج بها ( العقرب ) من قبل . وفي مسجد المدينة ألقى به إلى أحضان رجل الدين ذاك ليتولى حقنه سريعا ً. لم تكد تمضي بضعة أيام ٍ حتى أضحى ( جاسم ) قاتلا ًحقيقيا ً ، يلبس نعلا ً صيني الصنع أنيقا ً ومليئا ً بالزخارف ، وكأن سحرا ً عجيبا ً بات يحرك قدميه ، ويدس حربته في حزامه .  يقتل بحرفية ٍ متقنة ، يذبح ويسلخ الجلد الآدمي وسيجارته مغروسة ً في فمه . تطوّع لأداء هذا العمل في سبيل الله ، ولأجله وحده رشَّ هذا السبيل وأنقعه بدفق ٍ من الدم العبيط .                                                                    

    جرى الأمر بسلاسة ومن دون أية محاذير بالنسبة لرعاة ( لافي ) ، في غضون شهر واحد بات جميعهم ، وعددهم أربعة ، يحملون لقب مجاهد ، مما أتاح لهم أن يشكلوا قطيعا ً بريا ً ضاريا ً.. قطيعا ًأخذ يأتي بأقسى أعمال الجزارة والتخريب ، وفازوا بسمعة طيبة بين فصائل القتلة .                       


              في المناطق الريفية يسهل تدفق الذخائر والأسلحة ، يمكن تبادلها وشراءها بيسر وبلا خوف من رقابة أحد . وكان ( مسعد ) وهو راعي في مقتبل العمر ، ضمن لذلك القطيع توريد الذخائر والأسلحة من أماكن مختلفة ، وعبر دروب سرّية ، ترابية ، مجهولة للآخرين . لم يكد يمضي كثيرا ً على هذه الأحداث المثيرة ، حتى تحول هؤلاء الرعاة عن رعي أغنامهم وماعزهم وأنشئوا يرعون العبوات الناسفة بدلا ً منها . وعوضا ً عن حمل الخراف السمينة الجاهزة للبيع ، إلى سوق الماشية في مدينة ( كركوك ) ، حملوا صباح يوم ٍ مكفهر ٍ حزين ٍ ، من أيام أول الشتاء ، الكثير من المتفجرات المدمرة ، ووضعوها جانبا ً في ذلك السوق الذي ضمّ الكثير من معارفهم ، وفجروها عند الضحى ، ليقتلوا الإنسان والحيوان معا ً ، وليلحقوا بالسوق الدمار الرهيب  ! . بعد ساعات ، عند موعد الغداء ، جلسوا سعداء ً في أحد المطاعم والبشاشة تغطي وجوههم . يمسّدون شواربهم الريفية المتباهية ، برجولة ٍ ، وبريق نشوة الانتصار يومض في عيونهم . في الوقت الذي كان فيه الغم يرين على أجواء المدينة ، كان بإمكان أي إنسان أن يتفرس في تجاعيد وجوههم ، وخطوطها المرطـّبة بعرق الخوف في تلك الأثناء ليعرف أنهم قتلة .                 

         سرعان ما وفـّروا اللحى التي ملأت عوارضهم . وانشغلت أذهانهم  بالأفكار المتطرفة بشكل لا يصدق ، لاحوا بمجموعهم مثل فرقة ضالـّة ، اقترفت الكثير من الآثام ، ولِغوا في دماء العالمين كالحيوانات المكلوبة ، لكنهم لجئوا إلى التعاليم الدينية المتشددة لتبرئة ساحاتهم أو تبرير أفعالهم على الأقل . وتحت مظلة هذه الأفكار تحولوا إلى رجال مستميتين ، يقتلون ثم يصلـّون ويركنون . 
    ربما يخطأ الإنسان يوما ً ، ثم يحس بفداحة خطئه فيندم ، ولكن أمثال هؤلاء لا يترك الإحساس بالخطأ في ذواتهم سوى الإصرار على التمسك به ، والمضي عليه حتى النهاية . ليست هنالك رغبة في المكاشفة والمراجعة ، وإنما الرغبة كانت تتفتق لأهراق الدماء ومشاهدة الخراب ..                     وضعوا أنفسهم في مواجهة رجال الأمن ، وأصبحوا هدفا ً لهم ، وكان في داخل كل واحد منهم صهريج من الحقد والغضب عليهم ، وحينما يجتمعون معا ً يبدون مثل حيوانات ساخطة ..                    

         أمست ليالي المراعي مسكونة بالأشباح ، في ظلمة الليل  يخطف طيف رجل مجهول من هنا أو هناك ، ولربما ومض ضوء ٌ خاطف مرّة أو مرّتين في أحد الأركان كإشارة أبرِم َ الاتفاق عليها مسبقا ً. كم من المرّات حضر ضيوف غامضين ، وداست عرباتهم المسرعة على العشب آلاف المرّات وحرثت ترابها . حتى النجوم باتت كالحة ومتربة ، أشاحت بوجوهها وهي تومض بوهن غير عابئة ٍ بالتوهج . لم يعد الخوف والتأهب يتيح الفرصة لتنسم أريج العشب الليلي ، الذي كان يُفعِم هواء المراعي آنفا . كان الظلام الأسحم ، المخيم ، أشبه بالسحر الأسود . بان جليا ً أن هؤلاء الرعاة انتهكوا حرمة البرية ، وأساءوا إساءة بالغة لحيواناتهم المسكينة ، التي تركوا أمرها لشاب صغير ، سيبته الأيام باكرا ً ، وصيرته فتى غير مبال ٍ ، وهو لا يستطيع بالتأكيد أن يفي بمتطلبات قطيع كبير ، متنوع من الماشية ."                                                                         

    قال : "عاد ( العقرب ) بعد شفائه ليتولى إمرتهم ، ويجتاح بهم المدينة كالوباء عاد في أوج الانتشاء ، وكان في  عنفوان نشاطه ، يخرج كل يوم ٍ ليغزو ، يذبح ويغتال واحدا ً أو أثنين ، إن ذلك كثير ، ولهذا يتوجه إلى الله بالحمد والثناء .يجلس بوجه مكروب ، محاطا ً بأشباح المذبوحين وروائح دماؤهم تهاجم أنفه . لم يكن يجامل سوى الذبّاحين ، ولم يجالس غيرهم . الطموح يدفع به ليصبح مجاهدا ً من الصنف الأول ، بل أراد أن يظهر أمام الملأ أنه معلم ومدرسة ذبح لا يفوقه أحد .
    كان مبدعا ً ، استوحى طرقا ً جديدة في القتل والتعذيب . يستمع جيدا ً لأحاديث من يتصل بهم من رجال الدين ، فشغف إلى حد كبير بوصفهم الطرق الإلهية في الانتقام من أهل النار ، وسرعان ما أعلن عن رغبته في تجريب ذلك على ضحاياه .
    ذاعت شهرته وأطبق صيت هذا الرجل الذي يحاول أن يستوحي من السماء ما يعذب الإنسان على الأرض . يظل ذهنه طافح بعشرات الأفكار الإجرامية التي يمكن أن تخطر في بال كائن متوحش . إن لعقة واحدة بطرف لسانه ، من دم الضحية ، كفيلة بتفجير كل الأفكار الحبيسة في رأسه ، فيروح يجري باحثا ً عن ضحية أخرى ! ..
    إنها ليست أفكار سطحية عابرة تلك التي يتعامل بها الكثير من القتلة ، كلا ، إنها أفكار صميمية ، عميقة الأثر ، غالبا ً ما تبث الذعر وتروع من يسمع بها . إن أية خطوة دموية ينجحون في أدائها تسوقهم سوقا ً سريعا ً على دروب الإرهاب والمضي نحو الخطوات اللاحقة الأكثر تأثيرا ً وتعقيدا ً.
    دأب يخرج إلى الشوارع متخفيا ً ، يستطلع أهدافه ، ويتفحص بنظرات ٍ نهمة ٍ ، وحماسة لا تفتر ولا تنطفئ  ، ويختار من الأهداف ما يشفي غليله .
    حذره المتواصل رسم انطباعا ً شاردا ً ، وترقـّبا ً حاشدا ً على قسماته ، وثمة قلق غامض يؤطر نظرة عينه .
    يلوذ صامتا ً ، يندر أن بتبادل الأحاديث مع أحد ٍ ، يضع تلفونه الجوّال على أذنه ويستمع إلى محدثين مجهولين ، فاغر الفم ، شبه نائم ، يسترسل في الإصغاء لا تند عنه همسة ً واحدة ، وغالبا ً ما ينهي حديثه بكلمات مقتضبة ، حينما يقول :
    " الأمر سهل للغاية ، أطمئنوا سأنفذه غدا ً . "
    كان كئيبا ً في الواقع ، فالإنسان يكون أكثر كآبة واضطراب من يوم ٍ إلى آخر ٍ بسبب استيلاء الشيطان على قلبه . لا تستطيع أفكاره الدينية الواهية ، المتطرفة تحريره من هذه الكآبة ، لأنه يدرك في أعماق روحه جيدا ً بأن الأعمال الدموية والخراب الذي يخلفونه أعمال ليست طيبة.. أعمال لا يحبها الله الطيب .                                                                                
    عندما تعافى من إصابته ، أطلّ عليهم ذات ليلة وشرار الغضب الأحمر يتوهج في ملامحه ، كان يريد الانتقام والثار جراء إصابته ، وكأنه رجل مُعتَدى عليه !. وقف بينهم يكيل الوعيد والتهديد للحكومة ، ويضرب الأرض بقدمه غيضا ً ، كما يفعل الحصان الغاضب عندما يضرب الأرض بحافره . ولأجل أن يُسَكِن آلامه ، ويروض غضبه ،  خرج لفوره قاصدا ً المدينة ، وأطاح برقبة حارس مدرسة ٍ ابتدائية ، رآه مصادفة ً يجلس عند باب المدرسة ، وقت الغروب ، قبل أن يعود إلى خيمته .                                                                                                                  

           بعد أن شـُفي ، حمل لهم الكثير من الأموال . أخذ ينثرها عليهم كما ينثر التراب ، ومنذ تلك اللحظة كفوا جميعا ً عن مناداته بلقب العقرب ، بل أن الفتى ( مسعد ) استحوذ على كفه اليمين ، متهالكا ً ، وطبع عليها قبلة عرفان وامتنان ، وفي الواقع كان ( العقرب ) لا يبدي أية مودة صادقة نابعة من القلب مع أحد ٍ منهم إلاّ مع الفتى ( مسعد ) هذا وحده .                                                                                          

    أهملوا الحيوانات إهمالا ً جائرا ً ، حتى هزلت ، وعندما كانوا يمرون بمحاذاتها ، تأخذ بالتطلع إليهم بخيبة مريرة تثير العاطفة  .
    من نافل
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media