لماذ نبكي ؟
    الثلاثاء 24 نوفمبر / تشرين الثاني 2015 - 14:15
    هاني الحطاب
    ثمة تيار غالب لدي العراقين ، مولع في حب الأموات ، وهذا التيار في دخيلته بالعادة يكره الأحياء ويناصبهم العداء ، ولكن ما أن يموت احد حتى يصبح عزيز عليه ، ويبدأ يكيل المديح له  والبكاء عليه ، ويأسف لضياعه وعدم انصافه في حياته  .  وهذا التيار في ذات الوقت  ، من ناحية ثانية ، أيضاً يناصب العداء الأشد الناس أخلاص وطنية ، ولم يترك تهمة إلا ولصقها بهم ، ومن جهة آخرى تجده يهيم ويتدله في حب الطغاة والمفسدين ويسبغ عليهم افضل الصفات والألقاب . وليس هذا الان بينه وبين هؤلاء المخلصين عداء أو كرهية مصلحية او حزبية أو طائفية وغير ذلك ، وأنما فقط لكونهم مخلصين او وطنيون أو شرفاء . ولو تسألنا وحاولنا البحث عن سبب هذا ظاهر ، وراء هذا الميل والسلوك وما علته  الواضحة  ، ولما قدرنا على تفسير بسوى علة دفينة ، فما هي هذا العلة الدفينية وراء سلوك هذا التيار الغالب لدى بعض العراقين ؟ ولكن عادة ما تكون من طبيعة العلة الخفية آن تصيب فرد واحد او عائلة ولكن لا تصيب تيار عريضة مثل ذلك التيار الذي في العراق المولع في حب الأموات وزدراء الأحياء ، إلا إذا تعرض هذا التيار كله لنفسة المعاملة او عاش نفس الظروف التي أملت عليه أعراضها . وعليه علينا لنحاول البحث  عن سر ذلك التعلق الغريب في الأموات  وكرهم الأحياء  . وبما أن لا شيء يمكن ان يفهم على حقيقته إذا هو عزل عن تاريخ ولم يحاول إيجاد حل لغز من الألغاز في نفسياتهم ودخائل الأفراد بعيداً عن تاريخهم وبيئتهم وظروفهم المتعاقبة . وبما ان الأفراد يختلفون في استجابتهم لظروف التحدي ويخلف أثار مختلفت فيهم ، فأننا نرى أن هذه التيار يمتاز عن البقية هو أنهم من اشد النفوس حساسية وعجز في آن واحد عن مواجهة تلك التحديات والاستجابة السليمة لها ، وأن هذا التحدي يترك بنفوسهم أثار لا تمح توارثه الابناءهم عن طريقة معتقدات واراء في الناس الآخرين . فنتيجة ، الأوضاع العراق المتعاقبة ، والتي تميزت في الثورات والانتفاضات ، تكون  آراء لدى تيار عريض من الناس ، من اصحاب النفوس الحساسة والعاجز على مواجهة تحدي السلطة ، بأن سبب ما يحل في البلاد هو سببه هؤلاء الناس الذين لا يرضخون لسلطة ويتمردون عليها . ورغم ان هؤلاء الثائرين شخصيات سامية محبوبة من قبلهم في دواخلهم ، ولكن ما حدوث من خراب نتيجة فشل ثوراتهم ، جرت وراءها الكثير من الألام والمآسي ، لذلك اضطربت مشاعرهم إزائهم وتعارضت ، فهم من ناحية ، يحبوهم لما رادوه ولما سعوا وثاروا من اجله ، ولكن من ناحية ثانية ، حينما يرون ما ألم في الناس من كوارث التي انزلتها السلطات في بقية الناس   ، جعلهم يردون مصدر المصائب والكوارث في سلوك هؤلاء الثائرين ، وهكذا ، تكونت عواطف متضارب في نفوسهم نحوهم . ولأنهم من ناحية ، لا يريدوا ، أن يظهروا بمظهر العائق لهؤلاء ، فأنهم عمدوا إسباغ القديسة على مماتهم ، وجعلوا من الموت بحد ذاته قيمة أعلى من الحياة ، فألميت له مقام أعلى من الحي . ومن هذا المنظر بداء الموت وكأنه هو الهدف والغاية من الحياة في نظر تلك الشريحة ، فمادام الإنسان حي فهولا قيمة له .
    وإذا اردنا ان نفهم البكاء كظاهرة إنسانية ، بعيداً عن تمظهر في هذا الشكل المرضي او ذاك لدى طبقة ، أو أمة شعب ، وعالجناها من حيث هي ظاهرة فقط ، بحد ذاتها ، بمعنى مثل العديد الظواهر البشرية الأخرى كالضحك مثلاً . وتسألنا لماذا نبكي ؟  وقبل ان نجيب عن هذا السؤال الذي يبدو به شيء من التعقيد ، علينا أن نسأل السؤال الذي يمهد للإجابة  من سؤالنا لماذا نبكي ، لماذا نضحك ؟ هذا السؤال الذي طرح الفيلسوف الفرنسي برجسون في كتاب لماذا نضحك ؟  وأجاب عليه ، أننا نضحك من التصلب الذي أصاب الجسم الإنساني ، فالانسان حينما يصادف عائق ولا يستجب بحركته بسرعة وخفة لتفادي الموقف ، نضحك من ذلك التصلب والجمود الذي اعترى الجسمي الإنساني ،   ونضحك من الميكانيكية من السلوك الانساني ، فمثلاً ، لو صادف إنسان قشر موز مرمية في طريقه ولم يستطع تفاد الدوس عليها وانزلق وسقط ، فأن وضعه سيبعث على الضحك . فالمفروض في الجسد البشرية أن يكون  مرن وسريع الاستجابة لموقف ويبدل من وضعه بسرعه ، لكي لا يقع ضحية العائق . فالضحك ظاهر بشرية محضه لا يشاركه بها احد من بقية المخلوقات الإنسان  . لذلك قال نيتشه ، بأن الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يضحك  لأنه الحيوان الوحيد الذي يتألم ! وعليه ، لو رجعنا لسؤالنا ، وقلنا  لماذا نبكي ؟  ، بعد أن اظهر الضحك موقف نقف من إنسان فقد القدرة على التكيف الإلزام في مواقف معينة . لا شك أن ظاهر البكاء مناقضة لضحك ، ولها دلالة أعمق من الضحك ، فتراجيديا خصت بمكانه متميز وأعطت مكانه أعلى من الكوميديا في الدراسات ، واللذان ، الضحك والبكاء هما في التعابير العادية .  رغم انهما يبدوان وجهان لعملة واحد ، ومتلازمان في مواقف كثيرة ، فقد ينقلب الضحك في لحظات لبكاء والعكس صحيح أيضاً.  فنحن نبكي ، بحسب أرسطو ، لكي نقوم بعملية تفريغ أو تطهير من العواطف الذي يثيرها فينا موقف أو حدث ما ، فإذا كانت احد وظائف البكاء التفريغ ، وهذا ما نلاحظ كلنا في حياتنا في أن البكاء يجلب الراحة بعد الحصر . وبما أننا لسنا معنين في تفسير ظاهرة البكاء بحد ذاتها . وانما كنا نطمح أن نعلل شيوع تلك لدى الكثير من العراقين ، وتكاد تكون خاصية مميزة لهم . ونتسأل عن  كيف اصبحت وكأنها طبع وسلوك معتاد ومبرر ولا تثير الانتباه والاستغراب . وشيء طبيعي الطبيعي ان الضحك والبكاء ظاهرتين فاسيولوجتين صحيتين ، فما الذي حول البكاء من ظاهرة صحية لظاهرة مرضية في العراق ؟  لا شك أن تحول ظاهرة جتماعية من حالة صحية لحالة مرضية ، يجب ان تفسر وفقاً لتاريخ الظاهرة ، فهي لا تتحول بغته وبصورة مفاجأة ، فهي لابد أن عانت صيرورة وتغير على فترات متعاقبة ، وبما أننا قلنا  ان تاريخ العراق الدامي هو الذي أشاع هذه الظاهر ومازال يغذيها ، ولا اختلاف في ذلك ، ولكن لماذا اصبح لها وجهة مزدوج. ، وجانب مريض ؟ فما عادة البكاء تعبير عن الحزن والألم والمعاناة ، ولكن اصبح له وجه اخرى يعبر في عن الرياء والنفاق والكذب ، فبات البكاء لا يدل على الألم فقط وإنما على التظاهر في الألم والحزن أيضاً . وتخذه منه أداة في إخفاء نية المرء وأهدافه . وما عاد البكاء يعبر عن حاجة الجسد في ما اعتراه من مشاعر ، وإنما اصبح قناع يعبر عن نية المرء ومقاصده . وبذلك فقد البكاء طابعه الصحي  ، فبدل أن يكون وسيلة لتتماه ولاندماج مع الحدث غدى حاجز يصد عن أي ندماج ويخلق مسافة تتيح له التأمل في ما يرى ، فبدل من أن يكون مع أرسطو صار من جماعة برخت لا يتماه مع ما يراه . وكذا نرى تحول البكاء في العراق من وسيلة صحية إلى أداة مرضية ، لا تعبر سوى عن الرياء ولتكلف والنفاق . لذلك نرى الاحتفال في الأموات وإسباغ الصفات الحميدة عليهم بات شائع . وتعبر عن تحول البكاء لظاهرة مرضية ، القصد منها التقليل من قيمة الأحياء ، وتحويل الموت لقيمة عليا . هذا في الحقيقة ما أثارة فينا خبر موت الراحل احمد الجلبي ، المناضل العراقي . فقد أبلس هذا الرجل في حياته ، ولم يشد به سوى قلة في ما قدمه للعراق ، ولكن بعد بعد موته ، بدأ الكل في ذكره الرجل والإشادة به ، منطلقين كما نرى من حب الأموات ، وليس في تقدير قيمته الحقيقية ، وليس كذلك من باب ذكر محاسن الأموات . فحينما يأبلس شخص لحد الذي نظر فيه لجلبي ، تغدو محاسنه لا قيمة لها ولا تستحق الذكر . فما الذي يستحق أن نذكره  ، مثلاً ، من محاسن صدام ( إذا كانت له محاسن ، بالطبع ) إزاء الدمار والخراب الذي خلفه وأحدثه في حياته !  ونحن أيضاً مثلاً لم نذكر البكاء على الحسين ، والذي يمثل علامة بارزة على حب البكاء على الأموات لكونهم أموات ، ولو كانوا أحياء ، ربما لحروب بمثل ما حورب به الجلبي وهو حي .
                                                          هاني الحطاب
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media