قصة .. جحيم الموانىء
    الخميس 23 أبريل / نيسان 2015 - 20:25
    أحمد النجار
         ارتعدت فرائصها ؛ إنه يقف قي الزاوية المعتمة . ترى كيف اقتحم عليها المكان وهـؤلاء النسوة يتحلقن حولها ، فتحت عينيها على وسعهما ، وتأملته مستنكرة ، اختلج بدنها ، ثم كأنه فقد ما به من حرارة ، أطرقت لثوان، وشفتها السفلى ، الصغيرة  ترتجف، ثم تحاملت على نفسها ، ورفعت رأسها ؛ اكتشفت أحد فساتينها فـــــي الزاوية المعتمة يتحرك مع اندفاع الهواء الندي الذي رجّته المروحة السقفية ، وكان اجتماع الظلال انعقد
    مع بعضه فتشكلت هيئة غامضة له ، عندئذ شعرت أنها دمية ، دمية جميلة ، تسر النظر.
    ـ ماما ما بك ؟ .
      سألت نفسها:
    ـ يبدو شحب وجهي ! .
      والتفتت إلى المرأة :
    ـ لا شيء يا خالتي .
      وغمغمت مع نفسها :
    ـ يا للمرأة الشيطان ، كيف قرأت ذلك في وجهي ؟.

       تلفتت حولها . لم ترَ سوى النسوة يثرن لغطا تتخلله ضحكات لاهية ، وعادت إلى نفسها ، وهي تشعر أن إحساسا غامضا شرع يناكدها، ورأتها أشبه ببندول يتحرك يمينا، وشمالا قلقا ، موزع الشـعور بين السرور ، والحزن ، أو النـــدم ، رأت ، وكأن الأيام ليست سـوى لعبة لاهية ، ساذجــة ، والانغماس في غمارها نوع من الضياع ، والجهــل ، وابتعـــاد عن الحقيقة المؤلمة ، وهي خاضت غمار تجارب صعبة ، حملها هذا الخوض على التنازل عن الكثيـر من أحلامها، ولم تنس أنها اعترفت لنفسها أنها خسرت ما خسرته بســبب تطرفهـا ، وقلة تسامحها مع ذاتها في أكثر الأحوال ، وأصعبها ، وشجبها للـ ( بد) ، الذي يفــرض  نفسه في داخل وعيها على هيئة حقيقة مرّة ، مؤلمة ، وقدحذفتها من مفردات نصها الذي تعاملت به مع أكثر الأمور بجفاء .

        وهاهي تخضع لإرهاص الواقع ، فهو لم يكن موجودا بجسده ، إلا أنه بخيالـــه يستثمر حضورا طاغيا ، إنه يلاحقها ، وهي تهرب بلا جدوى ،وكانت مسخت صورته ، بل قاربت محوها من ذاكرتها ، حتى وجدتها تشوهت في خلل السنوات السبع التي قعدتها إلى جــوار أمها . وفي البدء كانت تطردها من رأسها  كما تطرد القطط السائبة التي تتسلل إلى البيــت مساء . ولكنها ، في خلل تلك الأيام تراءت أشبه بنقطة صغيرة فـــوق خط الأفــق ، وكانت
    تقترب ، ولما تراءت ، أشاحت بوجهها إلى جهة أخرى ، إلا أنها وجدتــه ، وكأنــه لا زال يحملها إلى القعود إلى جواره ، ويبحر في قارب مثقوب ، هكذا رسخت تلك الصورة فـــي بالها ، حتى رأتها تعذبها .

       وتركته ، وفرّت إلى الشاطىء  البعيد ، واعتمل ، في جميع كيانها المرتعش ارتعاشـة مصباح يدوي في ديجور الظلام ، بل اختلط الشـك  باليقين حتى كان صدرها يضيـــق به وسمعتها تهتف خلفه : اغرب أيها المعتوه .

        أمّتْ المكان امرأة أخرى ، سبقتها بسملتها بصـوت جهوري ، وأمها إلى جوارهـا لم تكف تمطرها بالدعوات ، والأمنيات بقلب يرســـل وجيبه محبــــة ، وحنانا ، فقد عانــت من أجلها الأشجان أكثر مما عانته هي حينما خاضت زواجا فاشلا ، وقد لقيت ما تقولــه أمها من أنها ينبغي أن ترى الأشياء من حولها  على حقيقتها ، وقد خاضت تلك التجربة المّرة ، مثلما شعرت بها .

      حين تَركنَ النسوة المكان ، انحنت أمها ، وقبلتها فوق رأسها ، وأردفتها فوق جبينها ، ولما رفعت قامتها التقطت أذن سيناء صوت أنـــّة ، أو آهــة ، عندئذ رفعت بصرهــا ، ورأت أمها تموه دمعتين بنهاية وشاحها ؛ فتنهدت هي الأخرى ، ولكنها لم تعثر على دموع في مآقيها لكي تطرحها عزاء على ما وجدت أمها عليه ، من أجلها .

        اعتقدت سيناء أن أمها ترجو لها حياة مستقرة تحقق سعادتها من خلالها ، فأبكتها ذكرى الزواج الفاشل الذي عزت أسبابه إلى الحظ لا غير ، ولكنها تستطيع ترميــم ذلك الصدع الكبير في جدار حياتها ، وربما تتهيأ لها الفرصة لتمويهه مثلما موهت أمـــها دمعتيها الساخنتين ، أو تستطيع ترميم تمثالها وحدها ، وإضفاء لمسات جميلـــة عليه؛ لأنه لم يتحطم تمامــا .
                                                    
       أطرقت ، وقد وجدت نفسها وحيدة فـــي المكان ، وبغتة داهمها عطره ، ورائحـة بدنه ، ارتجفت ، وقالت فــــي صوت امتلكـــه إحساس بالفزع : يا للشيطان ، إنــه عطره الذي لا يمكنني نسيانـــه ، لقد مكث متواريــا بين خزين الذاكـــــرة ؛ شعرت بالجزع ، وقد  راح ببالها أن زيدان ، زوجها الأول لازال يواصـــل بعـــث أطيافــــه  باتجاههـــا ، إنــه لا زال يحبها ، ولا ( .. يمكن أن تكون يوما لسواه ...) .

       كتمت شهقتها ، وشــعرت به يتخذ مكانه إلى جوارهـــــا ، مّسّ  وركــه فخذهــا ، وشعرت بذراع عظيمة تطوقها ، وتضمها إليه ، وصوت يوشوش فـي أذنها :
    ـ كيف الحال ؟.
     رفعت وجههــا إليه ثم أطرقت ، وبلا إرادة ، اتسعت شفتاها ، راسمة ابتسامـــة صغيرة  ، حذرة فوق وجهها ، بينما أناملها تتصارع فــــي حجرها ، فــي الحين نفسه كان ذهنها يغشــــى مرافيء لا تجـــد مبررا لزيارتها مرة أخــرى؛ إنها لا تجد رغبــة فــــي استذكار الماضي ، وربما ما قبل اقترانها به ، حيث الأماني الصبيانية ، والآمــــــال الشذية  فـــي سني شبابها الأولى ، فقد أمست مجرد خواطر ، وأمان تبددت تبدد حلم .

          فغم أنفها شذاه الشبيه بنسيم أول الربيع ، ارتجفت ، وقاومت ، بوهن شديد مشاعر النـــدم على كل ما حصل ، إلا قرارها الأخير الذي استنكرته أسرتها ، وصديقاتها فــــي الدائرة ، وانحت باللائمة على هشاشتها ، وقد تراجعت عن قرار الإعـراض عن الزواج  ، وإيثار القعود في البيت إلى نهاية المطاف ، إلا أن أمها  أثارت في فؤادها مخاوفـا لــم تضع لها ، في حسابها منزلا ، بل هي لم تخطر في بالها .

       رأتها لا زالت وحدها في الحجرة , لم ترَ أحدا إلى جوارها ، لا زيدان ، الذي غيرت أمها اسمه ،وكأنها تختصره ، إلى زيــّـان ، ولا راجـــــح ، إلا أنها تشعر بشيء يدفعها باتجاهه  ، شيء لم تتعرف إلى ماهيته ، أو كنهه ، ولكنه ، حسب إدراكها ، عللته أنه يشبـه آثار ما ما تتركه العواطف المؤجلة ، أو التي أصابها ما يشبه العطب ، أو الفساد ، ثم كأنها تشــعر بأنفاسه تلفح خدها ، وتؤجج الحرارة في وجنتها، تسمع كأنه يقول شيئا له يملك جرس ما
    يشبه العتاب . والشعور بالأسف . وكانت وكدت مرارا ، وتكرارا أن اقترانها بزيدان يشبـه إلى حد ما سوءة بدت أشبه بعاهة ظاهرة للعيان ، تبدو أشبه بخال أسود التصق بالوجنة .

      أنصتت ، كأنها تسمع صوته يعود هامسا في أذنها ، إلا أنها لم تميز بين صوت زيدان، صوت راجح في وقت فقد فيه بحتة المحببة في لفظ البعض من الحروف القمرية ، كذلك لم تتعرف إلى الذراع المشعرة التي تدفعها إليه ، وتربت بدلال .. لا تدري ، وكان ذلك النـزاع يبعث الألم في روحها .

        لا زالت تصر على غض البصر ، وقبيل ذلك ، تطرف أجفانها ، وكأنها أجنحة فراشــات تحتضر ، وتراها عجزت عن القبض على الحلم ، ولكن أي حلم كان هو ، وقد فسدت جميع الأحلام في ذهنها ، وغزا العفن آخرها ، ولم ترَ فيها ما يصون ذكرى طيبة ، بل كانت ، في واقع حالها تخشى رؤية الحقائق ، أو تواجهها من جديد بخوف ، وتردد مؤثرة رغبتها في التغاضي، والاستسلام لواقع جديد ، بدا يلح أمام عينيها ، ولكنه لا زال مكتمنا خلف أمواج ضباب ، أو رمال الزوبعة التي أهاجها زيدان ، إنها لا زالت تشم الريح المندفعة باتجاههــا ، ريح زيدان المتفشية تفشي داء  لم يـُعثر على وجار يشطب مجمل أيامه معها بكل علله ،وسوءاته .

         تتأوه , وتسأل : كيف عاد زيدان بكل حمقه إلى فضاء أفكارها السرية ، كيف عـّرش في نسيج الأيام الخلق ، كيف تمحو اسمه ، وملامـــح وجهه التي ظنت أنها توارت فـــي ديجور السنوات السبعة التي لم تره فيها قط . وهاهي الساعة ، كأنها تتعذب، مرة أخرى إلى جواره ، وتكتوي بلهب النيران القديمة ، وتعاني ، وجلا ، وخجـلا ، وهل سيكون كل  ذلك الشعور جزئيا ، وعابرا ؟.

       حبست آهة في صدرها . وقد غيبها الذراع الأعبل ، المشعر ، وهو يكتنفها إليه بكل قوة عصفه ، وريحه فرأتها أشبه بدمية بحجم ما ، لا دماء تجري في داخلها ، ولا تسـعى فيها روح . وكان ثمة لغط غريب جعلها تستوحش كل مألـــوف ، تستنكر وجودها فـــي المرفأ الئاني  قبل أن يطأ قدماها بلاجــه بتوجس . وشعرت بهواء بارد ، منعش غشى المكان ،ثم تغلغل في تضاعيف العتمة .
    ـ هل أقبل الليــل ؟ .

          كانت شفتها السفلى منفرجة ، وكأنه هوى عليها لثما ، وتقبيلا ، فعادت تطبق أجفانها ، لتشعر أنها توارت في الظلام ، إلا أنها ، في الظلام الغريب الحلكة ، رأت المكان يجمعها بزيدان ، وذراعه تأخذها إليه ، وكان وجهه محتقنا ، وعيناه تقدحان شررا، كادت تصرخ:
    ـ بل هو الشيطان .إلا أنها  انتزعت آهة من شعرت بجميع الحويصلات الهوائية
    تضج برفقتها كرها :
    ـ أبعدْ ..أنت أيها الوحش الأحمق .

         وترددت ، فــي الجو المعتم قهقه دافئـة، مطمأنة . فتحت عينيها ، وكأنها صحت من دوار ، أو نجت من دوامة مخيفة . فرأتها إلى جوار راجح ، واستطاعت استعادت سؤالـه ، ولم تنظر حتى يكرر سؤاله ، وكان رآها شبه ذاهلة :
    ـ تسألين عن الليل ؟.

       لم تدرِ كيف ألقت رايتها ! رايـــة الدمية الجميلة ، وكيف تهتكت الأواصر اللامرئية بينها وبين ذلك الفراغ الحزين ، وكيف ابتسمت الدمية الجميلة  بعد أن فتحت عينها ، وتأملت ما حولها ، ثم رأتها تصغي إلى همس أنيس، وهنا بهرها النور ، وقبيل أن تغمض عينيها من جديد، لمحت القطار يمضي بها عبر بساتين، وجداول جارية ، فاطمأن فــي داخلها شيء ، ما ، ولما استقصت الأمر عرفت أن قلب الدمية شرع يدق دقاته الرتيبة ، وأن القطار الذي أصبح أزرق زرقة معتمة ، لاح أمام عينيها أخضر بلون سنابل ماكسيباك لم تمتلا بعد  .
                       
                                                                                                                    
    احمد مهدي النجار ــ الناصرية
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media