حوار سياسي في دكان القصاب..!
    الأحد 24 مايو / أيار 2015 - 05:42
    د. مظهر محمد صالح
    تبعت والدي ونحن نجتاز سوق البلدة التي كنا نعيش فيها صبيحة يوم منتصف شهر تموز  1958إذ كنا نسير رويداً رويدا بين كتلات بشرية تتجاذب اطراف الحديث الساخن حول ولادة الجمهورية وأفول الملكية .
    كنا نقصد دكان القصاب الذي اعتدنا الشراء منه بصورة يومية .فالدنيا تبدلت ودكان القصاب قد ازدحم بالمتبضعين القدامى الذين اشتبكوا في جدلية زوال الملكية القديمة وشرعية الثورة والنظام السياسي الجديد!! .وفي خضم تنوع اصناف اللحوم من الماشية المذبوحة والمصلوخة التي ازدان بها المحل ، بدا لي ذلك المكان يومها اشبه ما بمنبرٍ سياسيٍ مترع بنشوة التغيير. وان البلاد امست مقبلة على شعور غامض بالنور المضيء والجميع يتطلع في اطراف الحدث الكبير والتحدث بأسبابه وتلمس نتائجه ، فأكثرهم بدأ يشعرنا بالنظرة المسددة بتفاؤل نحو المستقبل، مما جعلنا نتلمس موقع الشمس قبل ان نراها.
    وفجأة  دخل الدكان رجل في الخمسينيات من عمره  وكان  يسير بأناة  وأدب ورهبة وبرأس مهيب خلا من الشعر  واصابه احمرار صامت  جراء تعرضه لاشعة الشمس اللاهبة وكان وعيه في تلك اللحظات قد انجذب كله نحو سكين القصاب التي اصطبغت بالدم..استدركت الموقف في نفسي وانا ابن العشر سنوات ماسكاً بسترة والدي بقبضة حديدية لكي لا افلت زمام بوصلتي، وقلت في سري من سيكون هذا الهائل الذي صمت الجميع عند دخوله يا ترى؟
    اقترب والدي منه بلطف وهو يتلقى من عينيه الكبيرتين نظرة استلت من ذاكرته جميع ما فيها،ولكنها بثت في قلب ذلك الرجل قلقاً وهو يتلفت بخوف وكآبة وارتجفت أوصاله …حيث شعر بأن كل شيء قد تغير من حوله..وفجأة فتح فاه ليتكلم…! فبادره احد المتبضعين وسأله:أيمكن ان تمضي هذه الحياة على هذا النحو الذي نراه ايها السيد الكريم؟ قال الرجل:نعم اذا ما ارتضيتم العفو لنا!!هنا اجاب المتبضع  من فوره وبصوت كالشروق:ما جدوى الامل في المستقبل اذا كان ذلك الزمن الماضي الطويل في معترك السياسة لم يلن قلوبنا،واذا كانت عذابات السجون كلها لم تزكنا لرحمة من نحب!!
    هنا تعثر الرجل في الاجابة ..!فسدد الجميع نظرة جسدها ارتياح منفتح الصدر ليخلو صدره من الخوف او العدوان،مشدداً القول:الدنيا تغيرت وان بقاء الحال من المحال وان زوال اليأس سيزيدني قوة وسيزيل سخريات حزينة في نفسي ربما ستثب خارج ضجيج الحياة وتلج جناح النسيان الى الابد.ثم تحفز قلب الرجل للارتياح ورفع رأسه نحو القصاب وقال له ضع في ميزانك من اليوم والى الابد نصف كيلو غرام لحم بدلاً من الكيلو غرام الواحد الذي اعتدت شراءه في الايام الخاليات…واعلم ايها القصاب انه ماكان على الثورة ان تحدث في منتصف الشهر ..! فكان حريا بها ان تحدث في نهاية الشهر حتى اتسلم راتبي من المجلس النيابي الملكي!! هنا ضحك الجميع ونظر الرجل فيما حوله وهو يجفف عرق وجهه بكم قميصه وتنهد من الاعماق وهو يكبت نزوعاً نحو البكاء..متمتما بالقول :عندما يحترموننا امواتاً نحترمهم احياءً!!ختاماً،انه حوارٌ في ثقافة التسامح في يوم شديد التغيير في حياة العراق السياسية.ختاماً،يقول الزعيم الافريقي المناضل الراحل نيلسون مانديلا:لايوجد انسان ولد يكره انساناً آخر بسبب لون بشرته او أصله او دينه…الناس تعلمت الكراهية، إذاً بامكاننا تعليمهم الحب، خاصة ان الحب أقرب لقلب الانسان من الكراهية..!!
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media