نزيز الحزن
    الأحد 26 يوليو / تموز 2015 - 21:40
    مجيد الكعبي
    أنبوب النفط, الذي يمتص ما تيسر له من بحيرة النفط التي تعوم عليها المدينة, لا أحد يعرف من زرعه هناك, و لا متى زرع , ولكن  كلهم يعلمون أنه مر من هنا وانه يمر ألآن…                                                           
      إنه يمر كل يوم ليأخذ ما بداخله كيما يدفئ المدن البعيدة الباردة, ويضئ شوارعها وأشتيتها الطويلة الداكنة ليل نهار…               
      عند هذا الانبوب نبتت محلة "البايب”,ومنه أخذت اسمها, الذي لن يتركها حتى وان تركها الانبوب ,ولا يتركها هذا الأخير طالما بقيت قطرة نفط أو رائحة منه  في تلك البحيرة النفطية التي لا تعني أهل المحلة  من قريب أو بعيد…                                      
      وأنبوب النفط ذلك ما نفع محلة "البايب” بشئ قط, بل كان دوما حاجزا حديدا يمنع زحف الحي الطيني شمالا, وأبقى  أرضا تمتد بينه وبين الشارع ,وجد فيها سوق "سوادي”.  و لا يعرف من سماه بهذا الاسم .ربما كان اسم أحد الباعة الأوائل في السوق…      في سوق سوادي يباع كل ما لا يشترى في سوق المدينة من مواد "غذائية!” ويتوفر فيه الباعة والمشترون من الفقراء. ألذين شاعت تحت سمرتهم  صفرة سهلة الرؤية لمن ينظر إليهم… 
       مع أن الشمس النازلة عليهم مدرار لم  تترك منهم شيئا إلا سودته, ومع أن الغبار التصاعد من أية خطوة يغبر أولئك الناس وما يبيعون وما يشترون…
      هناك كان يسكن ويعيش "حسن” . وهو لا يختلف عن ناس محلته .إنه يشاركهم سمرته ويسكن بيتا طينيا كما هم
    ,و يرتدي الملابس هي هي . وقد أخذ منها القدم والشمس الوانها…لكنه كان بطيئا في مشيته وكأنه ينوء بثقل جسمه النحيف .حين يتكلم يتلعثم حتى أنني لا أستطيع فهم بعض مما يقول, غير أنني لم أبد له ذلك .   
      بعد بضعة أسابيع من انقطاع طلاب البكالوريا للدراسة رأيت "حسنا” بدشداشته وكتابه  الذي طوى  أحد جانبيه ليقرأ في الجانب الثاني منه. وقد صار أكثر نحافة وأشد شحوبا, إلى أن أخضر اصفراره المرئي تحت بشرته التي دكنتها الشمس الحزيرانية القاسية…   
      وضع  كتابه تحت إبطه وشد على يدي بكلتا يديه , فأحسست بدفء انساني عظيم من ذلك "الحسن”…وبادرني دون أن أسأله عن سقوط أسنانه الامامية :
     ~ألطبيب يقول نقص تغذية ونقص كالسيوم.
    ~… لم أقل شيئا لأن في سوق سوادي لا يباع السمك, بل أحيانا يهرب "زوري” من الاهوار   الواقعة شمال المدينة, ويباع خفية. لأن "السلطة تحافظ على الثروة السمكية... ",ولأن حسنا لا يستطيع شراء ما يحتاجه لا خفية ولا علانية.
    . هكذا هو حسن , وهكذا هي محلة "البايب” وهكذا كانت مدنا في وقت "الخطة الانفجارية” كما سماها القتلة ,أو كما سماها اخرون بالثورة الوطنية الديمقراطية, أو كما أسميتها سرا  "الحقبة الوحشية”.                                
      وإذا سمحت ,الفاشية الوحشية, لحسن بالبقاء إلى الأن ,وإذا نسته حرب الخليج ولم تحذفه , وإذا تجاوزته عاصفة الصحراء ولم  تضيع موته وقبره معا , فماذا يأكل , بل كيف يعيش حسن !
      إني لآسف عليك ,يا حسن, وعليكم, وحزين من أجلك ومن أجلكم , ومن أجلي أيضا.

    مجيد ألكعبي  
     majeedalkabi@gmail.com
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media