النمسا تشيد بذكرى مستشارها برونو كرايسكي بعد 25 عاما من وفاته
    الأربعاء 26 أغسطس / آب 2015 - 20:19
    د. أياد حلمي الجصاني
    عضو جمعية الاكاديميين العراقيين ونادي الاكاديمية الدبلوماسية فيينا - النمسا
    1-النمسا تحتفل بذكرى ولادة كرايسكي وتشيد بذكرى وفاته
    سبق وان احتفلت النمسا في 22 يناير من عام 2011 بذكرى مرور مئة عام على ولادة المستشار النمساوي برونو كرايسكي في 22 يناير عام 1911 بمدينة فيينا  ولقد كتبت مقالة عن تلك الاحتفالية ونشرتها في عدة صحف في تاريخ 2 فبراير 2011 منها صحيفتكم الكريمة . كما صادف في الشهر الماضي في 29 تموز 2015 مرور 25 عاما  على وفاة كرايسكي في فيينا عام 1990. وتحدثت الصحف النمساوية عن هذه المناسبة ايضا وقالت عنه بانه الانسان الذي عاش من اجل شعبه والاخرين في دول العالم كما انه كان مثالا للابوة وحبه لعائلته. والمعروف ان كرايسكي ينحدر من عائلة يهودية من الطبقة الوسطى كان والده مالكا لمعمل اقمشة  عانت الاضطهاد للفترة ما بين الحربين العالميتين . لم يكن كرايسكي من الرجال السياسيين العابرين في تاريخ هذه الامة  حينما نقل هذه الدولة الصغيرة من المجاعة والانهيار الى مصافي الدول الكبرى في اوروبا . وصفه الكتاب في مقالاتهم وتحقيقاتهم المتنوعة بانه الرجل الاسطورة او الرجل الذي نال اعجاب الجميع في النمسا ، برونو كرايسكي النجم الساطع او ملك الشمس في سماء السياسة الدولية وفي العالم كله للكاريزما اوالسحر الذي كان يتحلى به في اسلوب عمله وصراحته وشجاعته وحديثة وشخصيته الانيقة الجذابة ! انه الرجل الخالد في تاريخ النمسا الحديث . فمن هو هذا الرجل الذي وضعت له الاذاعة النمساوية والمحافل النمساوية البرامج الخاصة المتعددة في ذكرى مرور هاتين المناسبتين .
    قرأت كتبا عن الرجل بما فيها مؤلفاته ومذكراته الشخصية اوما كتب عنه الكثير من المؤلفين وما اخرج عنه من روايات ومسرحيات من خلال نشاط الحزب الاشتراكي النمساوي في اعداد صفحة خاصة عنه  في الويكيبيديا ، الانسكلوبيديا الحرة ، تحتوي على المقالات والبومات الصورعن تاريخ مسيرة حياته والمقابلات مع العديد من الشخصيات والندوات باشراف المنتدى الدولي للحوار الذي أُسس مباشرة بعد وفاة كرايسكي وكذلك باشراف المعهد النمساوي للسياسة الدولية اضافة الى احاديث سكرتيرته الخاصة التي لازمته العمل لسنوات طوال حتى وفاته مع الاحاديث الخاصة والممتعة عن كرايسكي مع المدير ايرنست فنتر في الاكاديمية الدبلوماسية الذي رحل الى رحمة الله في نيسان من العام الماضي وشيع في احتفال مهيب  ليدفن في مقبرة العائلة في فيينا الى جانب زوجته يوحنا التي كانت تعدني من اعز الاصدقاء لهذه العائلة . 
    اعاد كرايسكي افتتاح الاكاديمية الدبلوماسية في فيينا عام 1964 بعد ان اغلقها هتلر اثناء غزوه النمسا وضمها الى الرايخ الالماني في مارس عام 1938 . لقد مثلت هذه الاكاديمية التي كانت تسمى بالاكاديمية الشرقية جانبا من التراث الثقافي والسياسي العريق في النمسا منذ تاسيسها زمن الامبراطورة ماريا تريزا التي حكمت اربعين عاما 1740-1780 حيث كانت تهدف الى تحسين العلاقات مع العثمانيين ذلك الزمن وكانت اللغات التركية والعربية الى جانب اللغات الاوروبية كالانجليزية والفرنسية والالمانية والاسبانية والروسية من اللغات التي تدرس في الاكاديمية في حينه  وحتى الان . ولن انسى ان اشير الى اني كنت من المحظوظين والعربي الوحيد من العراق بين النمساويين والاجانب الذين قبلوا  للدراسة في تلك الاكاديمية في نفس العام الذي اعاد كرايسكي افتتاح تلك الاكاديمية في اكتوبر1964 ولم يمض على دراستي في جامعة فيينا اكثر من عامين . كما لا يفوتني ان اذكر وبكل اعتزاز كيف احتفلت الاكاديمية في 2 اكتوبر من العام الماضي 2014 في قاعة الاحتفالات بالبرلمان النمساوي وبحضور رئيس الجمهورية هانس فشر ومدير الاكاديمية الحالي والوزراء والسفراء المعتمدين في فيينا والعديد من الطلبة والضيوف بتقليد ميدالية الشرف للذين التحقوا للدراسة في الاكاديمية قبل خمسين عاما اي عام اعادة افتتاحها في اكتوبر 1964 في جو موسيقي رائع على مسرح كبير تعلوه صورة ضخمة لبرونو كرايسكي . وبكل فخر واعتزاز كنت واحدا من بين عشرة سفراء مازلوا على قيد الحياة الذين كان لهم الشرف ان يقلدوا تلك الميدالية في احتفال كبير لا ينسى . وفي كلتا المناسبتين لميلاد ووفاة كرايسكي قامت الاكاديمية باعداد عدة برامج تخللهما القاء المحاضرات عن السياسة الخارجية النمساوية في اطار الحوار ما بين الشمال والجنوب وتتبع التحولات التي مرت بها الدبلوماسية النمساوية منذ ان كان كرايسكي وزيرا للخارجية النمساوية. كل ذلك مع  الاحتفالات التي اقامتها مجالس البلديات في عموم النمسا والبرلمان النمساوي وافتتاح معارض للصور الفوتوغرافية والكاريكاتورية عن الرجل الذي اخُرجت عنه المسرحيات المتعددة تحت اسم النبي الاحمر واخرى باسم الماركسي المشبع بالاحاسيس او مسرحية اخرى تسميه بالنمساوي الحقيقي اوالمستشار ذو الرؤيا البعيدة والعالمية او ملك الشمس او كرايسكي العملاق ، او مترنيخ النمسا اليوم او الشيخ كرايسكي .
    2- كرايسكي اللاجئ في السويد                               .
    انهى كرايسكي دراسته  في جامعة فيينا  ونال على شهادة الدكتوراة في الحقوق في مارس 1938  وهو نفس الشهر الذي دخلت فيه جيوش هتلر فيينا وضم النمسا الى الرايخ الالماني . وهذا ما ذكرني باحتلال العراق للكويت عام 1990 كما وذكرني باحتلال امريكا للعراق عام 2003 ولجوء الكثير من العراقيين الى السويد ودول اخرى بعد هذين الحدثين التاريخيين . اعتقل الجيستابو النازي كرايسكي بعد الاحتلال لكنه تخلص بالهرب الى السويد طالبا اللجوء فيها . وفيها تعلم الاشتراكية والديموقراطية واتقن الدرس وطبقه في النمسا عند عودته للوطن الذي حرره الحلفاء بعد الحرب العالمية الثانية عام 1945 رغم بقاء النمسا تحت الاحتلال لمدة عشر سنوات حتى نيلها الحرية والاستقلال عام 1955 .                                                                            
    قضى كرايسكي في السويد ثلاثة عشر عاما عمل مراسلا صحفيا ناجحا لعدة صحف في اوروبا . ونشط في مجال العمل الانساني بتمثيل النمسا في السويد من خلال عمله كسكرتير في احدى المؤسسات الخيرية السويدية بالاشراف والتعاون مع الصليب الاحمرعلى جمع التبرعات والمساعدات الانسانية وارسال شاحنات الاغذية الى الشعب النمساوي الجائع ضحية الحرب الطويلة . تزوج كرايسكي فيرا وهي ابنة مهاجر نمساوي نجح في عمله في السويد منذ عام 1908 واقام اكبر مصانع النسيج فيها . رزق كرايسكي بولد اسمه بيتر توفي في نوفمبر 2010 وببنت اسمها سوزان ما زالت على  قيد الحياة بعيدة عن عالم السياسة تعيش مع حفيد كرايكسي الذي يعمل حاليا موظفا في احد البنوك في فيينا . لم يتقدم كرايسكي بالطلب كلاجئ في السويد بل بقي كمهاجر حتى لا يفقد حقه في العودة . ولم يحصل على الجنسية السويدية وعاد بجوازه النمساوي الى الوطن للمرة الاولى عام 1951 بناء على عدم موافقة الامريكان على عودته مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية التي انتهت باندحار النازية حيث بقي في استوكهولم دبلوماسيا في المفوضية النمساوية . واتذكر هنا كيف عاد سياسيو العراق من الخارج بعد الاحتلال الامريكي عام 2003 وهم يحملون مختلف الجنسيات الاوربية والامريكية وغيرها واحتلوا اعلى المناصب بالدولة بشهادات مزورة يتقاضون اضخم الرواتب في العالم كوزراء او سفراء او نواب في البرلمان العراقي اضافة الى بقاء مساعداتهم الاجتماعية التي كانوا يحصلون عليها اثناء لجؤئهم الى هذه البلدان في الوقت الذي يئن فيه غالبية العراقيين من الفاقة وعدم الحصول على الخدمات اللائقة او المساعدات الاجتماعية المشًرفة او حصة لائقة من ثروتهم النفطية الامر الذي ادى الى انفجار الشعب وخروجه في مظاهرات صاخبة هذه الايام في بغداد والمدن الاخرى تطالب بالاصلاح مما اجبر رئيس الوزراء العبادي ان يتخذ العديد من القرارات تنشد الاصلاح وتطهير اجهزة الدولة من الفاسدين والحرامية . الم تاتي مطالب الجماهير نتيجة لسوء ادارة الحكومات المتعاقبة منذ علاوي وحتى العبادي وهل ستطبق قرارات رئيس الوزراء العبادي الاخيرة فعليا طبقا لمطالب المتظاهرين ام انها  مثل قرارت المالكي السابقة التي ظلت دون تنفيذ ؟ **
    3- كرايسكي يعود للوطن
    عاد كرايسكي الى النمسا عام 1951 ليعمل في وزارة الخارجية ويصبح وزيرا لها ما بين 1959-1966 وليتدرج في العمل السياسي والحزبي حتى تربع على عرش الحزب الاشتراكي النمساوي ما بين 1967-1983 الذي رفعه الى اقوى واكبر شخصية وظاهرة سياسية في تاريخ النمسا ليصبح مستشارا للنمسا منذ عام 1970 وحتى عام 1983 وليُعد بحق اكبر شخصية شهرة بعد مترنيخ وزير خارجيتها ومستشارها في العهد الامبراطوري الذي لعب دورا كبيرا اثناء انعقاد مؤتمر فيينا الشهير عام 1815 ! يا ترى هل هناك اليوم من الشخصيات العراقية الحاكمة في بغداد التي عادت من المنفى مع قوات الاحتلال الامريكية تستحق اي جانب من المقارنة مع تاريخ هذا المناضل النمساوي الكبير ؟ لقد جاء في مقالة لي نشرت في عدة صحف بعنوان "هل سيخلد العراقيون رئيس الوزراء حيدر العبادي كما خلد النمساويون برونو كرايسكي ؟ " وذلك قبل ان يتخذ العبادي  قرارات الاصلاح  التي بدأ المعارضون يستخفون بها .
    عام 1970 انتُخب كرايسكي كاول مستشار يهودي للنمسا بعد ست سنوات من توليه وزارة الخارجية واتخذ له سكنا بالايجار في احدى مناطق فيينا . تصوروا بالايجار وسياسيونا في العراق اليوم احتلوا القصور ومنهم من نهب اموال الشعب واشترى الفلل والشقق في اوروبا وامريكا وغيرها من البلدان . جاهد كرايسكي في العمل على تثبيت واصلاح الديموقراطية في المؤسسات النمساوية بدلا من الدكتاتورية التي جاء بها هتلر وكان يتبع مبدأ قال فيه لا وجود للاشتراكية دون قيام الديموقراطية . فاين منا ديموقراطية العراق المستوردة الزائفة والعاملين فيها والمتكالبين بانتهازية من اجل مصالحهم الخاصة ؟ كان هم كرايسكي الكبير هو كيف يطبق ديموقراطية الدولة الغنية السويد كنموذج في النمسا الدولة الفقيرة التي خرجت منهارة بعد الحرب حتى يجنبها مأساة الفقر والمجاعة. كان ينادي في مؤتمراته ويقول اني اريد ان اخدم النمسا تماما مثلما ارادت الامبراطورة ماريا تريزا ! .                       
    سار كرايسكي في العمل على بناء المؤسسات الجديدة وتثبيت استقلال النمسا واحياء اقتصادها والسير على مبدأ الحياد وتحقيق العمل في التوصل الى معاهدة الاستقلال لانهاء الاحتلال واخراج الدول الاربع من النمسا عام1955، مع السعي لانضمام النمسا الى المنظمات الدولية بما فيها منظمة التجارة الحرة والسوق الاوربية المشتركة تمهيدا لدخولها الاتحاد الاوربي. اضف الى ذلك كله تحسين العلاقات مع الدول المجاورة ودعم افق الاستقرار في اوروبا من خلال مناداته بعودة الدول الشيوعية الى طريق الديموقراطية في اوروبا الغربية وعلى رأسها الاتحاد السوفييتي الذي انتقد كرايسكي بشدة تدخله العسكري في جيكوسلوفاكيا عام 1968 مثلما انتقد تدخله العسكري في فلندا عام 1939 سابقا . كان كرايسكي يرفض ان يسمى بالسياسي المحترف بل يقول انه الهاوي الجديد. فكيف لا تمجد النمسا شخصا مثل كرايسكي ؟ كرايسكي وضع النمسا على طريق الشهرة والثروة والديموقراطية الاشتراكية ورفع حزبه الى اعلى درجات النجاح في تاريخ اوروبا الحديث بعد ان جمع فيه طبقات المثقفين الشباب وشخصيات من الكاثوليك وحتى من النازيين القدامى الذين آمنوا برسالة كرايسكي مثل يورك حيدر زعيم حزب الحرية النمساوي المثير للجدل الذي توفي في حادث وقع له في سيارته عام 2010 والذي قال عنه كرايسكي انه " يشكل كفاءة جديرة بالدراسة " . علما ان خلفه الشاب شتراخر في رئاسة الحزب  يظهر اكثر عنصرية مركزا جوانب عدة من نشاطه في الانتخابات الاخيرة على محاربة الاسلام والمسلمين ومطالبة طردهم من النمسا واوروبا معتمدا على ما تقوم به القاعدة والمسلمون المتطرفون ضد البلدان الاوروبية المضيفة لهم بعد ان اصبحت النمسا بفضل حزب كرايسكي الحاكم ملاذا للمهاجرين واللاجئين المسلمين من العرب وغيرهم الذين يعيشون بلكرامة في الدولة التي لا تفرق بين الاديان والاجناس ، تدفع لهم تكاليف العيش والسكن اللائق وترعى اطفالهم بالتعليم والرعاية الصحية والمساعدات المالية السخية رغم كل مشاكلهم وعدم احترام الكثير منهم للقوانين او اعترافهم بالنعمة التي وهبتها لهم الدولة في الوقت الذي بدأت فيه تزداد موجات المهاجرين الى النمسا هذا العام وتشكل العديد من صور الماسي الانسانية والمشاكل الاقتصادية في جميع دول الاتحاد الاوربي.
    ومن مفارقات القدر ايضا ان يرحل كرايسكي عن فيينا وينهار الاتحاد السوفييتي في نفس الوقت تقريبا .  لم تر عين كرايسكي ما حل بمدينته الجميلة خلال العقدين الماضيين التي شهدت بالاضافة الى ما مر بنا موجات متزايدة من هجرة الذين كانوا داخل سجن الشيوعية الكبير بعد الانهيار. لقد عمت الفوضى واندفعت الحشود التي عانت البطالة والفقر والقهر لعقود طويلة الى غرب اوروبا عن طريق فيينا التي اصبحت سوقا مفتوحة للجريمة والسرقة والدعارة وتهريب المخدرات وغسيل الاموال من الروس والهنغار والجيك والسلوفاك واليوغسلاف والصرب والرومان والبلغار والبولنديين وغيرهم . والادهى من ذلك عندما سهل مجئ كل هؤلاء على نحو اوسع فتح الحدود عند دخول اكثر هذه الدول الى الاتحاد الاوربي واصبحت حدود النمسا خالية بلا رقيب لكل من هب ودب. ومن هنا وجدنا اين كانت تكمن عناصر النجاح التي نالت الاعجاب والتقدير في حياة كرايسكي السياسية الذي وضع اسس التحولات الاجتماعية وبناء الاقتصاد الحديث بعد الحرب العالمية الثانية في النمسا ! ولقد وضعت جائزة كرايسكي بكل فخر لتمنح كل عامين لشخصية اختيرت من اجل العمل في مجال حقوق الانسان ! فما هي الجوائز التي يستحقها من يحكموا العراق اليوم بعد ما صاحب وجودهم للاسف من انهيار وانحطاط وسمعة مشينة نحو العراق والعراقيين في الخارج وفقر وتخلف ومعاناة وفوضى دائمة واحتلال داعش الموصل والرمادي ورعب وارهاب ودماء مستمرة في حياة العراقيين في الداخل ؟ ***                       .
    4- مبادئ كرايسكي وموقفه من اسرائيل
    من الجير بالذكر ان اتجاهات كرايسكي العلنية الصادقة ومواهبه الفريدة الناجحة شكلت تيارا معاديا له في اوروبا تقوده اسرائيل التي لم ترض ان ترى كرايسكي معارضا للصهيونية التي تنشد فيها حلا لقضية الشعب اليهودي او ان يكون ذلك الوقت صديقا للعرب ومقربا من الرئيس المصري جمال عبد الناصر والزعيم الليبي معمر القذافي والزعيم الفلسطيني ياسرعرفات الذين وصفتهم الاوساط الغربية بالارهابيين آنذاك . حدثني مدير الاكاديمية البروفسور فنتر عن ان والدة كرايسكي التي قررت ترك النمسا والهجرة مع اليهود الاخرين الى اسرائيل رفضت ان تمد يدها لابنها كرايسكي الذي هم بمصافحتها لحظة الوداع في المطار كما ان اخاه الذي هاجر هو الاخر الى اسرائيل راح يتهم كرايسكي بعدم نيله اي اهتمام من اخيه . والمعروف ان كرايسكي كانت له مواقف عاصفة مع رئيسة وزراء اسرائيل غولدا مائير التي قال عنها انه السياسي اليهودي الوحيد في اوروبا الذي لم تستطع ابتزازه . لن ننسى الحادثة الشهيرة التي وقعت عام 1975 في مقر منظمة الاوبك في العاصمة فيينا التي اسفرت عن اختطاف الرهائن الوزراء في المنظمة وقتل بعضهم ، العملية التي قام بها الارهابي الدولي كارلوس، تلك الحادثة التي اشار كرايسكي في كتابه اليها الى انه لم تكن لهذه العملية من دواعي سياسية وانه حاول جاهدا من خلال التفاوض منع سفك الدماء وعدم تعريض الارواح للخطر ومنع تكرار حدوث مثل هذه الاعمال في النمسا مستقبلا رغم الانتقاد الذي وجه له  . وذكر ان الاعضاء في المنظمة ارادوا ترك مقرهم في فيينا الا انه حاول جاهدا منع مثل هذا التوجه .
    ويذكر كرايسكي حول الخلاف ما بينه وبين اسرائيل كما جاء في مذكراته  وبالنص ايضا : " ان اسرائيل تدعي بان اصل اليهود كلهم في العالم هو من فلسطين وانا لا ارى هناك خطأ اكبر من ذلك . واذا ما اردنا ان نحكم على المسألة اليهودية بعيدا عن مفهوم الصهيونية هذا سنكون قد وصلنا الى سر قيام اسرائيل. ان اكثرية الشعب اليهودي في اسرائيل منذ قيامها هم من العرب وان المؤسسين لدولة اسرائيل اصبحوا اقلية فيها بحكم ايديولوجيتهم الصهيونية . واذا ما عرفنا حجم التناقضات الموجودة بين الطرفين ادركنا حجم المشاكل المركزية داخل اسرائيل . اضف الى ذلك ان الصهاينة يرون ان كل يهودي في العالم يجب ان يكون ولاؤه لاسرائيل فقط وعدا ذلك يعتبروه انتهازية . وهذا الامر يشكل بالنسبة لي اكبر الاخطاء وهو مرفوض بالاساس لان ليس هناك ما يمكن المساومة عليه اكثر من الاخلاص للوطن حيث لا افهم كيف يجوز لي ان اقبل بان تكون ارض الاجداد اقل حبا واعتزازا من مدينة تقع على ساحل قريب من اطراف الصحراء . كما اني لا افهم كيف يجوز لهؤلاء الذين عاش اجدادهم قرونا طويلة في النمسا وقدموا خدماتهم لها وقت السلم وضحوا بارواحهم في سبيلها وقت الحرب لا يحق لهم ان يكونوا نمساويين حقيقيين . الظاهر ان اسرائيل لم تستفد من عبرة محرقة اليهود في اوروبا التي سخرتها فقط من اجل خدمة مصالحها السياسية . ومن هنا اقول ان الفارق ما بيني وبين هؤلاء في اسرائيل هو اني ارفض الصهيونية وارى ان اسرائيل هي احدى اكبر الدول الخاضعة للاحزاب الكهنوتية في العالم . وعلى هذا الاساس اجد ان الانسان الحضاري المثقف اينما يكون في العالم يجب ان تكون علاقته باليهود تماما مثل علاقته باي انسان آخر في العالم . واذا نظرنا بتمعن الى كلمة اللاسامية نجد انها كلمة مغلوطة ، وكان يجب ان يكون مكانها العداء لليهودية لان كلمة السامية تعطي الانطباع بانها بالنسبة لليهود قضية عنصرية اذا ما عرفنا ان هناك العديد من الشعوب السامية . وعليه ارفض ان اكون سطحيا وعرضة للوقوع في الخطأ الذي وقع فيه الاخرون . ان علينا ان نضع امام اعيننا الفارق ما بين الدافع الديني من جهة وما بين الدافع الصهيوني القومي او لنقل العنصري من جهة اخرى . وانا ارفض المفهوم الذي تنشره اسرائيل ان على كل من هو من اصل يهودي يجب ان يكون صهيونيا وان يضع اخلاصه لخدمة اسرائيل مؤيدا بالبراهين . وعلى ضوء هذا المنظور اجد اني وضعت نفسي في تناقض مع اسرائيل والاسرائيليين . ومن هنا اقول ان اسرائيل دولة مصطنعة اقيمت على نحو غاية في المكر والمهارة وعلى اساس الادعاء بنظرية ابادة اليهود في المحرقة الهولوكوست . اسرائيل ستبقى تعاني من محنة الاعتراف بوجودها وان مثل هذا الاعتراف سيواجه الكثير من المصاعب " .
    نعم ان اسرائيل لم تستفد من عبرة المحرقة كما يقول كرايسكي وكان معه الحق في انتقاد اسرائيل حول قضية ولاء اليهود في العالم لاسرائيل فقط . وهو لم يستسلم لا بتزاز اسرائيل على الاطلاق بينما نرى كيف استسلم الكثير من حكام العرب لهذا الابتزاز اليوم !. وهذا هو مبدأ كرايسكي بالذات وما كان يعلنه تماما  فمن منا ينسى ما فعلته اسرائيل برئيس الدولة ووزير خارجية النمسا الاسبق كورت فالدهايم الذي راحت تلاحقه وتتهمه بالعمل مع النازية ؟ ولكنها فشلت ان تعمل الشئ نفسه مع كرايسكي الذي كان بالاصل ضحية للنازية . وبمناسبة ذكر اسرائيل هنا اقول ان كرايسكي الذي ينحدر من عائلة يهودية كما بينت ، نشأ وهو شاب على افكار الاممية الدولية وراح يعمل بنشاط مع جناح منظمة الشباب للحزب الاشتراكي الديموقراطي في فيينا وكثيرا ما القي القبض عليه حاملا العلم الاحمر اثناء المظاهرات التي كان يقودها وجُلب امام المحاكم النمساوية وهو ابن السادسة عشر من العمر عام 1927. ومن هنا ندرك لماذا كان كرايسكي معارضا لتوجهات اسرائيل المعادية للعرب تماما كما كان شأن الرئيس الفرنسي الراحل الكبير جارلز ديغول عندما شنت اسرائيل الحرب على العرب في 5 حزيران عام 1967 !  .                            .
    ومن مواقف ومبادئ كرايسكي الشهيرة كانت له اوثق العلاقات بالشخصيات الدولية في الغرب والشرق ، فقد دعم الزعماء الدوليين آنذاك في مواقفهم الوطنية ووقف مع مبادئ مؤتمر باندونغ عام 1955 النواة الاولى لنشأة حركة عدم الانحياز وتوثيق التعاون الدولي وشجب التمييز العنصري وتاكيد حق الشعوب بما فيها العربية في الاستقلال ونيل حقوقها الوطنية وكان على طول الخط مطالبا باقامة دولة فلسطينية اسوة بقيام دولة اسرائيل التي تحارب قيامها مثل هذه الدولة حتى اليوم. وكان صديقا لجواهرلال نهرو وانديرا غاندي وجمال عبد الناصر وانورالسادات وشاه ايران وجارلز ديغول ومتيران وتيتو وادينتاور وخروشيف وفيلي برانت وكندي وكيسنجر ونكسون الذي قال عنه اثناء زيارته لسالزبورغ "بان كرايسكي هو اكثر رجل دولة شهرة في العالم" . ومن الجدير بالذكر ان بيتر ابن كرايسكي كان يقود مظاهرة تندد وتدين الرئيس نكسون بانه  شاعل للحروب وهو على خطوات من لقاء والده كرايسكي بالرئيس نيكسون . لقد عزز كرايسكي مواقفه الوطنية في اعلاء شأن الشخصية النمساوية على انه نمساوي لان عموم الامريكان يرون ان النمساويين هم المان لانهم يتكلمون الالمانية . لقد دافع كايسكي عن مبدأ الحياد في النمسا على النموذج السويسري والامتناع عن ارسال جيوش لمناطق الحروب بل المشاركة في تقديم خدمات السلام وتطبيق مبدأ السيادة والعمل على توسيع دائرة الخدمات الانسانية في النمسا والنجاح في جعل العاصمة فيينا الموقع الثالث بعد جنيف ونيويورك كمركز لمنظمة الامم المتحدة فيها  .
    5- فيينا تخلد كرايسكي
    تحدثت سكرتيرة كرايسكي الشخصية مارغريت شميت البالغة الخامسة والسبعين عاما من العمر اليوم ، كيف لازمته طوال حياته داخل النمسا وخلال رحلاته الى الخارج لمدة 26 عاما بعد ان التحقت بالعمل وهي في الثالثة والعشرين من العمر. لقد وصفت هذه السيدة في كتابتها لمذكراته كيف وجدت هذا الرجل الذي كان يتمتع بشخصية ساحرة وانه السياسي الماهر رغم معاداة النازيين والصهاينة له ، واصبح رئيسا للحكومة بامتياز في عهد الجمهورية الثانية . وتقول انها لم تفارق سيدها حتى بعد ان اشتدت عليه معاناته من فشل الكلى المرض الذي اقعده عن العمل واضطره للجلوس في منظر حزين يثير الشفقة على كرسي نقال حتى وفاته في 29 تموز عام 1990 . لقد ذكرت لنا كيف كان كرايسكي يقضى عطله الصيفية في بيته بجزيرة مايوركا الاسبانية مع ابنته سوزان وحفيده اوليفر وكيف كان سعيدا بزيارة العديد من الشخصيات له وعلى راسهم ملك اسبانيا كذلك كان النمساويون المتقاعدون يقومون بسفرات سياحية الى الجزيرة قاصدين كرايسكي في بيته وهو جالس امام البيت ينتظر استقبالهم بسعادة كبيرة. ولد كرايسكي وعاش ، عدا السنوات التي قضاها في السويد ، ومات ودفن في فيينا . لا على ملة اليهود ولا النصارى، بل كما يقال كان لا ادريا . انسان وهب كل حياته من اجل شعبه والاخرين خارج النمسا . ولو لم يكن هناك امثال كرايسكي بالامس ومايكل هوفل محافظ مدينة فيينا اليوم من نفس الحزب الاشتراكي المؤسسين للديموقراطية والاشتراكية ، لما وصلت هذه المدينة الى هذه الدرجة من الرقي والنظام والشهرة ، فيينا التي تفانى كرايسكي بالعمل من اجل انقاذها من الدكتاتورية والاحتلال واسعاد شعبها بعد الحرب العالمية الثانية ونيل كرامتها بعد خروج المحتلين وتحقيق الاستقلال عام 1955 لن تنسى جميل هذا الرجل . هناك الساحات والمنتزهات والحدائق التي لا تخلو من تماثيل كرايسكي . ازقتها وشوارعها وبناياتها ومخيمات اللاجئين وكذلك دور الرعاية الاجتماعية والمؤسسات الخيرية والمنتديات والنوادي والمسارح وردهات المستشفيات وقاعات الدراسة في الجامعات والمعاهد والمكتبات والمؤسسات التي تمنح الجوائز من اجل العمل الانساني لا تخلو ايضا من ان يطلق اسم كرايسكي على الكثير منها . كل ذلك جدير بهذا الرجل الذي كرس حياته من اجل الاعمال الانسانية وخير وتقدم النمسا . لقد اصبح اسم كرايسكي مدعاة للفخر ومغروسا في ضمائر ابناء الشعب الذي احبه . وكيف لا يصنف هذا الرجل من عداد الخالدين اذن ؟                           .
    هكذا انتهت حياة كرايسكي الرجل الاسطورة الذي يقف له الشعب النمساوي وكثيرون اخرون في النمسا وفي خارجها اجلالا واحتراما لذكرى ولادته قبل مئة عام ولذكرى وفاته الخامسة والعشرين. فسلام عليك يا برونو كرايسكي وعلى الحكام الوطنيين المخلصين في كل مكان من امثالك الذين خدموا شعوبهم وتركوا الذكرى والاثر الطيب الذي يخلدهم الى ابد الابدين ! واللعنة على الحكام الفاسدين الذين استبدوا وقهروا وظلموا ودمروا ونهبوا ثروات شعوبهم وانتهوا الى مزبلة التاريخ. ويا ترى ما الاثر الذي سيتركه حكام عراقنا  في نفوس العراقيين بعد كل هذه المآسي والفضائح منذ الاحتلال الامريكي وحتى احتلال داعش المتواصل لاكبر مدن العراق هذا اليوم ؟ .

    *عضو نادي الاكاديمية الدبلوماسية فيينا - النمسا
    ** الوزراء المبعدون يواصلون الحضور إلى مكاتبهم بعد أسبوع من الترشيق
    المدى 22 اغسطس 2015
    *** راجع المقالتين  في مركز النور او على كوغلة بعنوان :"                                                                               
    " لماذا يستمر السيد رئيس البرلمان سليم الجبوري على اطلاق تصريحاته الطائفية ومن يستطيع محاسبته"؟ بتاريخ 25 اغسطس 2015 والتعليق عليها من قبل الدكتور كامل العضاض الذي قال : " ثلث البلد محتل والمظاهلرات تجوب الشوارع، والخدمات والأمن ووسائل العيش كلها مفقودة. وفي مثل هذه الظروف يخرج علينا رئيس مجلس النواب بهذه التصريحات الطائفية والمهددة لوحدة العراق ومستقبله "
    و:" كنت وما ازال سفيرا لبلادي ولكن !! رسالة مفتوحة الى وزير خارجية جمهورية العراق السيد هوشيار زيباري " بتاريخ 1 اغسطس 2010
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media