صفحات مظلمة في تطبيق الماركسية المؤلف نجيب يوسف اسطيفانا (الكتاب منشور بالكامل)
    الجمعة 14 أكتوبر / تشرين الأول 2016 - 03:47
    منذ ان انتظمت التجمعات البشرية بمستواها الأدنى وتعقد وتشعب نمط الحياة، اقام الانسان سلطة تحكمه بمحض اختياره وبإرادة جماعية او شبه جماعية بغية توفير الحماية والأمن ومستلزمات العيش وتنظيم علاقات الأفراد فيما بينهم من جهة ومع الحاكم من جهة اخرى، بالإضافة الى ضبط او تحديد شكل العلاقة مع التجمعات الاخرى من البشر. تحت مفهوم تحقيق المنافع والاهداف العامة، شرعت القوانين وخولت الجهات المسؤولة حق انزال العقاب بحق كل من يخالف او يشذ عن القواعد العامة او يُخل بالنظام او يعصي اوامر الحاكم او يهدد سلطته.لكن، ومع مرور الوقت، التبست تلك المقاصد واسيء استخدام الصلاحيات الممنوحة للقائمين عليها، مما جعل السلطة سلاحاً ذي حدين: مهد الاول الطريق للتجبر والثراء والنعيم، وتحول الثاني الى مصدر للشقاء والاضطهاد والقمع او قتل المعترض والثائر والساخط.
    لكي تكون السلطة مرهوبة ومطاعة، وضعت تحت تصرفها السجون وادوات التعذيب، وتفننت بأساليب ترويع واضطهاد المتمرد او المعارض واذلاله وتطويعه بأحسن الاحوال. على مر العصور، خُرقت القوانين او شوهت او شرعت بطريقة تصب بمصلحة المسؤولين، سواء استأثر بالسلطة ملك او امبراطور او قائد عسكري او عشيرة او مجموعة دينية او طائفية او عرقية او حزب يتسلح بايديولوجية طبقية.بالنتيجة، عاش الانسان ولا يزال معضلات اخلاقية وقيمية تخص الحقوق والحريات والعدالة والحياة الكريمة، بالإضافة الى الخلل وتشنج العلاقة بين المواطنين من جهة وبين اجهزة الدولة الامنية والبوليسية والبيروقراطية من جهة اخرى. تدلل الوقائع في الماضي والحاضر الى ان العلاقة بين السلطة وبين اوساط عريضة من المواطنين لم تكن في الغالب منصفة او متوازنة او انسانية، مما دفع الجموع الى التمرد والثورة، اما بعفوية او مستنيرين بايديولوجية او نظرية مصلح اجتماعي او مسحورين بقائد كاريزماتي او مستلهمين بتعاليم نبي او معقدين الامل على رسالة مخلص مسيحاني.
    آلت الثورات الى نقلات نوعية واحدثت تغيرات ايجابية على الدساتير وطورت نظم ادارة الدولة، لكن اشكالية العلاقة بين السلطة وبين عموم المواطنين لم يطلها الحل المرضي. بالرغم من الآمال الي تعقد على مرحلة ما بعد الثورة، تستمر المظلومية في معظم الحالات بحق شرائح واسعة من المجتمع ويبقى الشرخ بين الحاكم والمحكوم قائماً والعداء مستمراً. غالباً ما ازاح الانسان قهر وجبروت المستبد، ثم وقع فريسة سهلة لجبار اشد ظلماً وامهر تفنناً بالتعسف والبطش، ولا سيما عندما كانت تتمهد الظروف ويقفز الى عربة الثورة ويغتصب القيادة شخص ذي نزعة انتقامية او يعاني من جراحات الطفولة ومن الخواء الروحي، مما احال غرائزه العدوانية الكامنة الى طاقة تدميرية. في حالات اخرى، غمر الذي قاد الثورة الحماس وغرق في الاوهام وتسلح بالرؤى الرومانسية والطموحات اللاواقعية ، مما دفعه لتسطيح المشكلات واختزالها، وتبرير الاخفاقات والقاء اللوم على العدو الخارجي والداخلي. غالباً ما عبّدت الثورات درب الجلجلة لكي يسير عليه الآلاف ، لا بل والملايين من البشر ويعمدوا ذلك الدرب ببحور من الدماء وبحيرات الدموع، ولا سيما عندما تتوجت التجربة بإنبثاق اوضاع تندحر في ظلمها الانسانية وتنتصر البربرية. في هذا السياق، شخّص ذلك المفكر المرهف الحس الحقيقة وعرف التاريخ بأنه علم تدوين مآسي الانسان.

    من حق الشعوب والاقوام ان تبتهج لإنتصار قضيتها، وتهلهل مستبشرة ببزوغ فجر يخلف الليل الطويل من الظلم والقهر والحرمان. لكنها وبعد فترة وجيزة، يصرعها الإحباط، ويخطف العهد الجديد البهجة من حياتها ويتغير رداء العبودية ويتخذ مسميات مغرية وخادعة. بالتالي، تنقلب اهازيج وزغاريد الفرح الى عويل ونواح وآهات، وتتحول ساحات الاحتفالات الجماهيرية الى مشاهد للمقصلات ومنصات الاعدام، وتُلغى السجون الاعتيادية لتحل محلها معتقلات رهيبة وأقبية سرية يصعب معرفة مداخلها ومخارجها. في اجواء نشوة النصر، يصحو الضمير وتسمو الاخلاق، لكن سرعان ما يفقد كلاهما توازنهما ويقعان ضحية للعواطف الملتهبة وتقاذف الامواج العاتية. بالنتيجة، تنهار القيم وتُركل الضوابط بالاقدام ويستسهل الانسان رؤية أكوام الجثث وتلال الجماجم التي تراكمت ليس بفعل مخالب وانياب اسود ونمور وضباع الغابة، بل بأيدي بني جنسه. امام هذا المشهد، لا بد ان يمزق صراخ الانسانية طبقات الفضاء ويلغي حواجز الأزمنة والجغرافيا والطوبوغرافيا والاثنولوجيا لكي يتعانق انين وآهات وعويل المعذَبين وضحايا البربرية على مدى آلاف السنين، سواء كان هؤلاء من قطعان العبيد او من اسرى وسبايا الحروب او من القابعين في معتقلات وزنازين الطغاة او من الهنود الحمر في القارة الامريكية او من قوافل التطهير العرقي والترحيل الجماعي او من المهتمين بالهرطقة امام محاكم التفتيش الكنسية او من اشباه الهياكل العظمية في المعازل التي اقامها النازيون، او كانوا من المنفيين الى سيبيريا وغيرها او من المحتجزين في مجمعات التأديب والتأهيل واداء العمل القسري التي أقامتها النظم في الاتحاد السوفيتي والصين الشعبية وكمبوديا وكوريا الشمالية، او كان هؤلاء من الذين اختبروا الموت لعدة مرات في زنزانات تشيلي ونيكاراغوا والارجنتين وبيرو واندنوسيا والشرق الاوسط وفي كل بقعة تعرض فيها الانسان الى السياط والتعذيب الذي في حالات كثيرة انهى حياته او شوه جسده او بتر عضو او طرف من جسمه.
    في فترة النهوض الروحي والمعنوي والاستعداد للتضحية، تقفز اعداد غفيرة الى عربة الثورة وهي تتطلع الى انبلاج فجر مشرق وتدشين عهد تسود فيه العدالة والحرية ويعم الرخاء ويختفي الظلم والاستبداد والقهر. عندما تأسر النشوة النفوس، يتشبث البعض بالرومانسية ويتركوا واقعهم ويتحلقوا في سماء زرقاء او مرصعة بالنجوم الساطعة وتراودهم الاحلام الجميلة. لكن بعد وقت غير طويل، يتفاجئون بالغيوم الداكنة وزمجرة الاعصار فيهبطوا الى الارض ثانية، ومنهم من يلفظ انفاسه الاخيرة على منصة الاعدام او يتلقى رصاصة الغدر من رفيق الامس او يقبع في المعتقل او يطأطىء رأسه ويسير في القيطع او يغرد داخل السرب. قد تنحدر الثورة الى منزلق خطير عندما يستنبط القائمون عليها قناعاتهم من النظريات الاكاديمية والفلسفات ويسخروها حسب استيعابهم او اهوائهم او اجتهاداتهم، ويغالون بصلاحها وبإمكانية تطبيقها على واقعهم. يتمادى بعض الثوريين في السير بهذا النهج ويحيلون الايديولوجيا السياسية الى عقيدة دينية ورسالة الخلاص للبشر على اختلاف ثقافاتهم وحضاراتهم وتجاربهم التاريخية ودرجة ومستوى تطورهم. على خلفية تنوع الاجتهادات والرؤى وتناقض المصالح الشخصية، تنتعش فترة شد الحبال وحبك المكائد وسخونة العداء، التي تتطلب ازاحة او ابادة طرف لآخر. في مثل تلك البيئة، يتآمر قطب من الثورة ضد القطب الآخر، مما يمهد الفرصة ويمتطي حصان الثورة الهائج مغامر ماكر او داهية ماهر بالتحكم باللجام وقيادة المسيرة. وهكذا، تخلو الاجواء للقائد الضرورة بعد ان يزيح او يبيد الخصوم ويصبح المنقذ الذي يسحر القلوب ويأسر النفوس والاجساد ويهب الخير، لكنه في الوقت نفسه يقنن الحريات العامة تحت ذريعة حماية ظهر الثورة. لا بد من الاعتراف بأن الثورة قد تتفجر على يد اشخاص متسلحين بالنوايا الحسنة والمقاصد الطيبة، لكن ارهاصاتها اللاحقة تؤول في حالات كثيرة الى فساد البذار او سرقة الغلة، مما يخل بحسابات الحقل والبيدر ويهدر الجزء الكبير من المحصول.
    لا بد ان تستند الانعطافات التاريخية والنقلات النوعية والاحداث المزلزلة الى ارضية فكرية واجتماعية ويكون لها صانعوها او رموزها الذين يلهمون اوساطاً مجتمعية ويعبئوها لتحقيق رسالة او اهداف ما. لكن في بعض الحالات تكون التطلعات غير مشروعة وغير انسانية، مما يدفع رسلها الى اختلاق المبررات وعرض مشروعهم بطلاء يغري البعض، مثل احقية القوم الناهض في التمدد والانتفاخ بغية خلق أمة تلعب دورها في الريادة وصنع التاريخ. قد تكون الرسالة جذابة في شكلها وخطيرة في مضمونها عند الدعوة لإقامة مجتمع متجانس ولا طبقي بطريقة مصطنعة وقسرية وبإستئصال بعض مكوناته وكأنها مناديل ورقية تُرمى في القمامة وتغدو امس من دون غد. في هذا الخصوص انأى بنفسي عن الاساءة الى ذلك الانسان الذي آمن بقضية عادلة واخلص لها واستعد لنيل الشهادة من اجلها او عاش الحرمان وكافح لكسر قيود وأغلال العبودية، لأن من دون تلك التضحيات ورفض الظلم لاستمر عهد العبودية ولبقي العبد او القن يئن تحت سياط سيده الى يومنا هذا. ولا اقصد جرح مشاعر من احس بمعانات الآخرين ونهض لزرع الامل في القلوب المنكسرة ورسم البسمة على الوجوه الحزينة. لكن في الوقت نفسه، لا بد ان نقلق ونشفق على تلك البراعم الغضة التي اصطادتها الاحزاب قبل ان يقوى عودها وافسدت عليها براءة الطفولة واغرقتها بالهموم وملأت رؤوسها بالمفردات المجردة التي لا تستطيع ادراك مضامينها. لا يمكن التعويل على الهاب مشاعر الانسان واستغلاله عن طريق الشعارات البراقة وتخدير عقله بالمفاهيم الجذابة الشكل التي تصيغ الذهنية الجمعية وتخلق ثوريين محترفين مستعدين لممارسة العنف وسفك الدماء تحت ذريعة تمهيد التربة لإنبات شتلات صالحة بعد استئصال الادغال والاشواك.

    ماذا يجني الانسان من الثورة التي بعد اندلاعها بفترة قصيرة تنطفىء ضياؤها وتخيم الظلمة وتتحول الجمهورية الفاضلة الموعودة الى جحيم ينشط فيه الشياطين ويسوده الرعب؟

    يصبح سلوك القائد الثوري تدميرياً للمجتمع عندما يتوجه الى استئصال بعض مكوناته وتمزيق نسيجه وتشويه شكله تحت ذريعة تطبيق المبادىء، حتى وان تطلب الامر بتر اجزاء من القدم لكي يلائم حجم الحذاء بدلاً من تبديل الاخير ليناسب القدم. يقودنا هذا الى تشخيص الخطأ عند تأطير افكار البشر وتقرير اتجاهاتها بطريقة قسرية لكي تتطابق مع رؤى وايديولوجية المنظر من اية مدرسة كان. بالتالي، لا يكون البذار وفير الغلة مالم تُنثر بذوره في موسمها وفي تربتها الملائمة، ومالم تحمل تلك البذور عناصر الحياة ومقومات النماء الطبيعي. حينما نشير الى تعرج او انحراف مسيرة بعض الثورات او كبوتها والتهامها لابنائها، لا ينبغي ان نسيء الى ذلك الانسان الذي بغاية نبيلة ركب الموجة وأذاب كيانه في اللهب المستعرة. في هذا الصدد، اعتذر لتلك الشخصيات المتميزة التي استرخصت دماءها واعطت اكثر مما نالت واضافت الكثير دون ان تبغي شيئاً بالمقابل، مما حولها الى رموز ونماذج تستحق الاقتداء بها. بالرغم من الارتجاجات والمخاضات التي رافقت الثورات وتبعتها، والأثمان الباهظة التي قدمتها الجماهير، يبقى الحراك ومساعي التغيير قائمة ومشروعة، ولكن ربما بأساليب مختلفة.

    شهدت العديد من حقب التاريخ اشخاصاً تحكموا بالسلطة او قفزوا الى قمة هرمها، واسسوا الممالك والامبراطوريات والدويلات والامارات على حساب قوت ودماء بني قومهم ودماء الغرباء عنهم. ومتى ما شعر هؤلاء بالجبروت وانتفاخ الذات وامتلكوا مقومات القوة، شنوا الحروب بقصد الهيمنة والاستعباد وخلّفوا وراءهم الفواجع والكوارث. لكن الى جانب تلك الصفحات القاتمة والمليئة بالاساءات الى البشرية، شعت منارات المفكرين والمصلحين والفلاسفة الذين امتلكوا الرؤى الخيرة والمشاريع الانسانية وملأهم الامل بإنتصار العدالة والحرية وقيام انظمة تصون حرية الانسان وكرامته وتؤمن عيشه من دون ان تخل بتوازن المجتمع او تستأصل اجزاءاً منه او تتجاوز على الاخلاقيات والضوابط الايجابية والضرورية. قبل الميلاد ببضعة قرون اوجد الفلاسفة الاغريق مفردة الديمقراطية التي تعني حرفياً سلطة او سيادة الشعب. آنذاك، اقتصر مفهوم الشعب على المواطنين الاحرار ومالكي الثروة والمحاربين، ولم يشمل العبيد والمعدمين. تدريجياً، تطورت الديمقراطية في مضامينها واتسعت قاعدتها الشعبية، وفي الوقت نفسه تنوعت مشاربها واتخذت اشكالاً مطاطة وفضفاضة، وغدت عنواناً يرفعه كل من يطمح للحكم. بعد ان تعمق الايمان بالديمقراطية ظهرت شعاراتها في الممالك المستبدة والدستورية وفي الجمهوريات اللبرالية والمحافظة، وتمسك بأذيالها الدكتاتوريون المدنيون والعسكريون. بالرغم من ترنح او تراجع التطبيق الديمقراطي امام النظم الشمولية على اختلاف مشاربها ومرجعياتها، يبقى جوهرها كيان حي متطور ومرن يستطيع استيعاب التيارات والشرائح المتنوعة، ويستمر في النماء من دون ان يبلغ الكمال، لأن تطلعات الانسان وطموحاته للارتقاء في المجالات المادية والروحية والفكرية لا تعرف حدوداً لتقف عندها.

    لم تتوقف إبداعات الانسان في مجال الفكر وامتلاك الرؤى وتوظيف المهارات اليدوية التي آلت الى تطوير وسائل الانتاج. على مر الازمان اخترع واكتشف وابتكر وانتج ونقل ضياء انجازاته لتصل الى مجتمعات وجغرافيات بعيدة ومترامية. عند بعض الفترات المفصلية في مظلومية الانسان، نهض المتمّيزون روحياً وحولوا رؤآهم الى نقطة جذب استقطبت كتلاً كبيرة من البشر ونالت ثقتهم، مما حول تلك الرسالة الى عقيدة ايمانية شبه جمعية ارتقت الى مستوى العبادة والاستلهام والتضرع. انتقل الانسان البدائي من مرحلة الصيد وجني ما تنتجه الطبيعة، ثم عاش في ظل العبودية والقنانة والاقطاع، لكنه زرع وانتج الغذاء ودجن الحيوان وشق جداول الارواء وعبد الطرق واقام السدود ومدّ القناطر وشيد الاهرام والقلاع والاكواخ، وصنعت يداه الآلة الحجرية والخشبية. قبل آلاف السنين انطلق خياله ونسجت افكاره المجردة الاسطورة والملحمة والرواية والشعر. بعد ان اجتازت الثورة الصناعية بواكيرها، طوع الانسان المعادن ومصادر الطاقة، واخترع الآلة البخارية وصنع الباخرة والقاطرة والسيارة وجومة الحياكة التي ضاعفت انتاج قطع الملابس مئات المرات. خلال نظام الرأسمالية الوسيطة والمتطورة، اكتشف الانسان الطاقة الكهربائية وشطر الذرة والنواة وقهر العديد من الامراض الفتاكة وافنى جراثيمها بفضل الادوية والمضادات الحيوية واللقاحات. لا بد ان نشير الى اختراع وسائل الاتصال السلكية واللاسلكية وصناعة الطائرات السريعة وكافة الالكترونيات التي اختزلت العالم وجعلته قرية صغيرة تحوم فوقه الاقمار الصناعية التي تصور وتنقل على الفور كل ما يحصل حتى في ابعد بقعة من مجاهيل الارض.

    عند التطرق الى التطورات السلبية المصاحبة واللاحقة للثورة والى الطغيان الذي قد ينجم عنها، لا اقصد الاساءة الى من آمن بالاصلاح ودعمه في هذا الخصوص، لا بد ان نقف اجلالاً واكراماً للذين وهبوا حياتهم من اجل قضيتهم او صمدوا راسخين على خشبة منصة الاعدام. يعتصر القلب الرقيق الالم حينما يتذكر اولئك اللذين اختطفوا تحت جنح الظلام وفي رابعة النهار بسبب نضالهم وغيبوا في السجون ولم يتم العثور على اثر لاجسادهم. لا بد ان ننظر بإكبار الى تلك الهامات التي طرزت حياتها بالبطولة والايثار وعاشت من اجل الآخرين، وارتقت ارواحها الى الاعالي بسبب رصاصة اطلقها رضيق الامس. ينبغي ان نثمن دور ذلك الثائر الذي تسلق الجبل لاهثاً وحاملاً سلاحه الخفيف وزاده المتواضع واصابته رصاصة العدو قبل ان يبلغ القمة. حينما نسلط الضوء على السلوكيات المنحرفة لمن يوظف الثورة لاهوائه ومصالحه، نستميح العذر ممن مزقت بشرته اشواك واحراش الغابة وهو يهاجم رجال الطاغية او يهرب منهم. ونعتذر كذلك ممن سلك السهل مبشراً متنكراً، واكتشف امره والتف حبل المشنقة حول عنقه. يغرق الانسان في عالم الحزن وهو ينظر الى اخيه في الانسانية وقد هشمت اصابعه او قلعت اظافره او احرقت راحة يديه اثناء التعذيب. ليس من الانصاف ان نسيئ لمشاعر من امضى زهرة شبابه واطفأ العديد من شمعات ذكرى ميلاده واستنفذ طاقة جسده وهو يقبع في زنزانة انفرادية او في معتقل او قبو مجهول. لا يكون الامر مستهجنا في حينه عندما انتظر احدهم لساعات في الطابور الطويل ونسي العطش والجوع والتعب ووقف مسحوراً ومتلهفاً لالقاء نظره على الجسد المحنّط للرفيق المؤسس لدولة العمال ومترجم ايديولوجيا الخلاص. لا بد ان نتفهم موقف اللذين انخرطوا في خلايا الحزب وارتقوا في لجانه وحفظوا الوصايا وتحمسوا لحضور المهرجانات الخطابية والندوات الثقافية واحتفالات عيد ميلاد رمز الثورة ورحيله، او باركوا وايدوا اعدام اللذين اقترفوا الهرطقة الايديولوجية او اعتبروا خونة. لا ينبغي ان نلوم من وقع اسير الاوهام ولم يبال بالقيود التي على معصميه لانه حلم بإمتداد الجنينة الخضراء امام عينيه.

    تكون طروحات المنظرين والفلاسفة ضرورية للقائمين على الثورات، لأنها تفتح الآفاق للاصلاح المتوازن والممكن، وتوفر البلاطات لارساء اسس المستقبل الافضل في النواحي المادية والروحية للانسان. لكن ظروف اليأس والاخفاقات والقهر قد تضفي الى استحواذ ايديولوجية ثورية راديكالية تستطيع ان تجرف بسيلها العاطفي وزخمها الجماهيري الهائج بقية المدارس الفكرية والتيارات السياسية وتطرح نفسها كمشروع اجتماعي واقتصادي متكامل وفريد. يتحول ذلك المنهج العنفي الى عقيدة مذهبية توعد المواطن بجبل من الحلوى والمن وبجداول من العسل والحليب، وتوهم البشر بتدشين عصر يستطيع فيه العصفور الركون الى مخلب القطة، والدجاجة الوقوف بأمان على ظهر الثعلب والشاة مجاورة الذئب. لا يمكن اعتبار فترة الشعور بالنشوة وغمرة فرح الجماهير وسخونة عواطفها رصيداً رصيناً لنجاح الثورة. ان حث الهائجين للسير الى الامام والنداءات لحرق المراحل واطلاق شعار " يا عمال العالم اتحدوا " لا تمنح الحرية للمكبوت ولا الغذاء للجائع. لا يثمر التعويل على ترديد الاناشيد الحماسية وتعميم ثقافة القطيع وكسب خواطر المتحمسين عن طريق منح النياشين والانواط التي تتحول الى سلاسل واغلال لحماليها. قد ينجح نظام الايديولوجيا الجاهزة في ترويض المجتمع لفترة ما، وفي تزويق المشهد من خلال الدعاية المؤثرة وعن طريق تطوير الصناعة العسكرية وتحسين الجوانب الخدمية وتوفير السكن الجماعي واشاعة التعليم للجميع. لكن هذه الانجازات تبقى باهتة امام تشويه آدمية الانسان والغاء حرية الاختيار عنده وتأميم ذاكرته وتحديد مسارات تطلعاته واختزال آفاقه. حقاً، ان تحقيق نظام العدالة المثالية الذي يملأ الجميع بالرضا والقناعة والسرور لا يزال املاً وحلماً، ان لم يكن وهماً، مما يدفع المعنيين الى مراجعة صفحات الماضي البعيد والقريب وتسليط الضوء على الحقائق، حتى وان كانت لاذعة في مذاقها وقاتمة في مظهرها او فاشلة في تطبيقاتها. خلال هذه الممارسة، لا بد من تصويب الاخطاء وغربلة الوقائع من اجل التقييم واتباع ما هو افضل للارتقاء.

    اظهرت الاخفاقات التي جابهت محاولات ترجمة التطلعات الماركسية الى الواقع الفعلي عمق المثالية التي اغرقت الحالمون في بسط العدالة الاجتماعية والغاء التفاوتات الطبقية بطريقة قسرية ومصطنعة. في الوقت ذاته لا يستطيع المرء غض النظر عن مضامينها الانسانية ولمساتها الساحرية التي أغوت كتلاً بشرية كبيرة على مستوى القارات والحضارات والاعراق. آمن بها رسلها وطلائعها الثورية واقنعوا البسطاء والمغمورين بإمكانية جعل النظرية نظام سياسي واجتماعي ينقذ الانسان من بلائه ومعاناته وصراعاته ويأخذ به الى الفردوس الارضي. مع ذلك، ليس من الانصاف انكار جهود ماركس تجاه العمال والمستغلين وتحسسه لأوضاعهم وتبنيه لقضيتهم ورفع درجة وعيهم واقناعهم لولوج عتبة التاريخ ولعب دورهم في ريادة البشرية مستقبلاً.

    في ضوء تنوع السجالات الفكرية والطروحات الاصلاحية ومشاريع الثورة الرامية للتغيير، تبقى تطلعات الانسان في توسع وارتقاء وتشعب مستمر بحيث لا تستطيع اية ايديولوجية او فلسفة من اشباعها او ايصالها الى الكمال. لقد انهارت نظم الايديولوجية المذهبية بالرغم من شعاراتها المغرية وصرامة احزابها وانضباطيتها الفولاذية، وخاصة عندما تناقضت ممارساتها مع صيانة كرامة الانسان ومع ضمان حرية اختياراته وشوهت مسيرة حياته الطبيعية. قد لا يسر العديد من رسل وتلاميذ ومبشري ايديولوجيا الخلاص مجابهة الحقائق، وقد يصعب عليهم الاعتراف بلا واقعية مشروعهم السياسي ويرفضوا الهبوط من على ظهور افراسهم والانسحاب من حلبة المنازلة حتى وان تطلب الامر مواصلة القتال بسيوف من خشب.

     انتهت المقدمة
    istiphanezzet@yahoo.com
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media