كارل ماركس في العراق / الجزء الواحد والعشرون
    السبت 22 أكتوبر / تشرين الأول 2016 - 18:37
    فرات المحسن
    فجأة ومضت كتلة لهب برق ضوئها الخاطف داخل الغرفة. اخترق الفضاء المحيط صوت دوي قوي أرتج إثره كل شيء. قفز ماركس من مكانه مرعوبًا فأصطدم رأسه بكتلة أسمنتية صلدة. لقد اهتز المكان إثر صوت وحركة تشبه زلزال قوي تحركت معه أركان الغرفة برمتها. ارتجت الجدران بقوة إثر انفجار هائل رافقه دوي انفجارات متتالية وعتم المكان بالكامل.. غطت ماركس غمامة غبار سوداء فلم يعد يستطع رؤية ما حوله،ولم يكن ليدرك ما يحدث بالقرب منه. كان مرتبكًا، بل كان في لحظة رعب حقيقية، فتلمس جسده لعله جرح أو شيئا من هذا. لم يستطع بسبب الغبار والظلمة تمييز ما حوله، حتى أبو رمزي ورغم قربه، كانت الظلمة والغبار يغطيانه. جال بأصابعه المكان ولكنه خاف أن يقرب جسد أبو رمزي. تأوهات وهذر وصراخ وضجيج صادرة من قريب وبعيد ونداءات تطلب النجدة.
    ــ أبا رمزي.. ما الذي حدث؟
    ــ شمدريني.. خربت وأنلاصت، واكلنه خره حاشاك، هذا تفجير.. يمكن تفجير لبناية المركز.. أنته بيك شي مجروح لو سالم؟
    ــ كلا فقط لا أرى من حولي بسبب الغبار والظلام. ظننت أنك ..
    ــ  لا ..كلشي مابيه ..جيد.. خلينا ننتظر ونشوف شنو النتيجة. راح تروح الغبره.
    ــ أسمع صوت تأوهات وطلب نجدة.
    ــ أني بشكلك.. حتما هناك مجاريح.
    ــ أعتقد أن الجدار قد انهار علينا.
    ــ لو هيجي جان كتلنه!
    ــ تلمس ما فوق رأسك .
    ــ لك هاي صحيح هذا قالب بلوك نازل علينا.. لك ربك ستر.. جان رحنه بوله بشط..
    ــ وماذا تعني بوله بشط ؟
    ــ يمعود أنته صدك بطران.. هسه محله.. أحنه بيا حال دعوفنه خل انشوف دربنه.
    شيئًا فشيئًا انقشع الغبار لتظهر بعض المعالم خارج الغرفة وانفرج المنظر عن فسحة فضاء تمتد خارج المكان نحو شارع أسفلتي قريب وثمة أناس يهرولون ويصرخون ويلوحون بالأيادي. كان جزء من سقف الغرفة قد سقط بالكامل ليغطي أرضيتها بما فيها من سجناء، الذين يسمع تأوه وصراخ بعضهم، وكانت قطعة كبيرة مائلة من الجدار أرتكز عليها السقف وهي التي حمت أبو رمزي وكارل ماركس من أن يهرسهم السقف عند سقوطه.
    ــ ربك حليم كريم لو جان هذي الشكَفه من السكَف واكَعه علينه جان هسه أحنه ملطوشين بالكاع مثل الزولية.
    ــ ما الذي نفعله الآن؟
    مد أبو رمزي يده وأمسك يد كارل ماركس وسحبه بقوة ليذهبا عبر الجدار المنهار إلى خارج بناية المركز وراح ينفض عنه الغبار العالق بملابسه ومثله فعل ماركس .
    ــ لنعود ونساعد الباقيين .
    ــ أي باقين..؟ أمشي بابا أمشي.. هاي فرصة أجتي من السما.. ربك الأنقذنه من الموت هو ألي خلصنه من السجن وأطلق سراحنا. أمشي.. أنته مو تريد ترجع الأهلك.. يله أمشي.
    كانت بناية المركز تبدو أنقاضا لا يظهر من معالمها غير جدران وسقوف سويت مع الأرض. قرب كومة حجارة وحديد ملتوي، شاهد ماركس عريف أحمد جالس يتوجع بصوت مسموع وثيابه ممزقة وجسده مغطى بالدماء، وهناك بقربه جثتان مطروحتان ميزهما ماركس، واحدة للعقيد لطفي الذي بترت أطرافه السفلى والأخرى مهشمة الرأس تعرف عليها ماركس من الملابس، كانت للسجين الذي أهداه الفراش. ألتفت ماركس نحو أبو رمزي الذي بدأ يبتعد متجهًا نحو الطريق الفرعي القريب. ارتبك في اتخاذ القرار وحار بين البقاء أو اللحاق بأبو رمزي. عند تلك اللحظة التي لم تأخذ منه الوقت الكثير، قرر اللحاق بأبو رمزي، فلعل ما حدث فرصة يتجدد فيها ألآمل في العودة إلى أهله.
    ***
    سلكا طريقًا يفضي إلى زقاق قريب ولجا فيه مسرعي الخطى دون أن يلتفتا خلفهما. عند نهاية الشارع توقف أبو رمزي وأمسك بكف كارل ماركس ونظر في عينيه الزرقاوين وابتسم ابتسامة رضية وقال.
    ــ هذا عمود الفجر طر وانتشر
    وزال الظلام أو بين المحتجب
    انتبه وانظر الحالك ابياهو صفه
    إصبح وبروحك كل وكت مدفنه
    مودعك أخ عزيز ماركس رفيق السجن الذي لن أنساه.
    ــ ماذا تقصد بذلك صديقي ابو رمزي؟
    ــ عزيزي ماركس .. لقد زال عنا ظلام السجن وأصبحنا أحرارًا وانته هسه عليك تنتبه الحالك، وخلي سرك أبروحك، لا تعرضه على غيرك، ولو أني أدري انته صابتك العدوه من العراقيين على قول المثل إلي يكول من عاشر القوم أربعين يومًا صار منهم، أنا أدري مراح تكدر اتخلي سرّك مدفون.
    ــ أبو رمزي ليس لدي سرًا أدفنه أو أخفيه، فانا ماركس ألماني الجنسية وجئت إلى العراق كعالم آثار ومنقب عنها.
    ــ شوف عيوني ماركس أبن هنروش.. هسه أحنه راح نتوادع هنا.. أنه أركب أروح الهلي خارج بغداد وأنته تلزم هذا الشارع وتطلع بيه كَبل لا يمنه ولا يسره، راح تلكي نفسك بنص بغداد وبالضبط بمنطقة الباب الشرجي.. مال تكَلي أنته عالم أثار و مدري شنو، تره شويه صعبه أصدك بيك.. خليه أبعبك أحسن.. تره أنه أخوك مكسر كحوف الدنيه على راسي.. وأقره الممحي.. أوكي حبيبي... 
    لله درك حتى جذبك غير....
     الحيا يجبر مشاعرنا تصون وما تخون...
     والسمه لا ما تضيق إن كان يغشاها الغمام ... 
    والصدر يبقى رحب لو يمتلي ضيق وشجون..
     مودعك الله مرة لخ وإنشاء الله تتوفق بمسعاك وأهم شي توصل الهلك سالم.
    ــ أشكر لك جميلك أبا رمزي متمنيا لك الموفقية. فقط اسأل ماذا أفعل في منطقة باب الشرقي فربما سوف يتعرف علي جهاز الأمن أو لا أجد مأوى... هل هناك فندق التجأ إليه؟
    ــ عزيزي ماركس الطيب..أني لو اكدر أخذك ويايه جان سويتها، بس شويه هناك تعقيدات وأنا مراح أبقه بالعراق أصلا..أخويه، حاول أن لا تكَرب من الشرطة.. وأبشرك همه ليهسه هم ما عدهم بجيوبهم صورتك.. واضبارتك أحتركت بالمركز.. وإذا تروح لفندق راح يطلبون منك هوية، وأنته ما شاء الله صلوخ، ولا ورقه تثبت شخصك..ولو بالعراق كلشي تايه ما تعرف حماهه من رجلها..شوف حبيبي هناك كَدامك أكو سوك كبير من تعبر الشارع، بنص السوك أكو كهوتين تلاثة من يصير الليل كله أتعزل، وتكدر تنام على القنفات مالت الكهاوي.. وهاي المنطقة بالليل حتى الشرطة ما تتقرب منه.. أبقه جم يوم لمن شعر راسك ولحيتك وشواربك يطولن... وهذاك الوكت وين ما تسرح محد يسأل عنك.. خوش لو مو خوش.. تره أحنه بالعراق نعمه من ألله كلشي ضايع وصايره سفرتح.
    ــ أبو رمزي ماذا تعني بسفرتح؟
    ــ هسه محله أخويه ماركس.. بعدين يجي وكت وتعرفه.. خوش     .
    ــ نعم .. خوش ..
    ضحك ماركس وهو يردد كلمة خوش بلكنة أرتاح لها أبو رمزي الذي دس يده وأخرج ورقتين حمراوتين من جيب سرواله. 
    ــ دون مجاملات عزيزي ماركس أرجو أن تقبل مني هذا المبلغ البسيط بلكي ينفعك بهذولة اليومين الجايين.. آني عندي من خيرات الله جثير.. أعتبر هذي هدية من صديق رغم أننا لم نتعارف غير أيام قليلة.. وآني أعتبره ثواب ودفع بله،وهذا الشي أنته متعرفه، وفدوه أروحلك لتسأل عنه.
    مد ماركس يده وأخذ النقود وصافح أبو رمزي فبادره أبو رمزي وأحتضنه بحرارة وراح يربت على كتف ماركس الذي بادله ذات الحركة فضحك أبو رمزي، عندها تذكر ماركس ذات موقف الوداع مع الرفيق جبار حين قام بنفس الحركة وودعه بعد أن أطلق سراحه من قبل عصابة أبو بشير.
    ــ مودع ومحروس بالله...
    ــ هاي أنته تتعلم عراقي بسرعة.. والله يا صاحب السجن آني أخاف عليك من هذني السوالف الفاينات.. تره بدايتها زينه بس نهايته كلش مخربطة.. مثل الفلافل أوله منافع وتاليه الله يستر..
    ــ كانت فرصة جميلة أن أتعرف عليك.. رغم تعاسة الموقف والظرف.. فقط أود أن أشكرك من كل قلبي وسوف أتذكر لك جميع مواقفك.. أنشاء الله.
    كرر أبو رمزي كلمة أنشاء الله مع ماركس وأطلق ضحكة قوية ومد يده مصافحًا ثم استدار وسار نحو رأس الزقاق القريب واختفى في نهايته دون أن يلتفت وراؤه. كان ماركس يقف متسمرًا يراقب أبو رمزي وهو يغذ السير مسرع الخطو ذاهبًا إلى حيث يمكنه السفر خارج العاصمة بغداد. ولن يكون لهما بعد هذه اللحظات لقاء آخر.
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media