البرزاني كائن يأخذ شكل الإناء الذي يوضع فيه
    الثلاثاء 15 نوفمبر / تشرين الثاني 2016 - 19:54
    صائب خليل
    ذكرني تصريح البرزاني الأخير حين تحدث عن "اختلاط دماء البيشمركة والجيش في محاربة الإرهاب"(1) بحديثه السابق المناقض عن الحدود التي خطها الدم! فما الذي غير الأمور هكذا بين ليلة وضحاها؟

    الحقيقة ان البرزاني وكل المسؤولين الاكراد في بغداد، لم يتحدثوا يوما مع الحكومة العراقية بأحترام، بل بشكل مفتعل الوقاحة! والمرة الوحيدة التي سمعت فيها جهة كردية تتحدث بتهذيب مع بغداد، حين كان هناك خلاف، كانت حين تقدم الحشد نحو تلعفر! حينها فقط فهمنا انه من الممكن لسياسي كردي ان يتكلم "مثل الأوادم" كما يقولون، والسبب واضح. الوقاحة والصلافة اسلوب اتبعه الساسة الاكراد من ايام المالكي وهو أسلوب شرحته بتفصيل كبير في مقالاتي عن سلسلة الابتزازات المخططة لبغداد بتوجيه (علمي) من كالبريث. وقد تكلل الأسلوب بنجاح مدهش ونتائج باهرة حتى بعيداً عن الابتزاز النفطي، فمثلا حين تقدم وزير الدفاع وقتها بالشكوى القضائية على كردستان لإعادة أسلحة الجيش العراقي التي نهبتها كردستان مستغلة ظروف الغزو الأمريكي، ردّ قائد البيشمركة باهانات بالغة واحتقار شديد للمالكي، لا يخلو من التهديد، فما كان من المالكي إلا ان هرول لسحب الدعوى من المحكمة! ولم يكن خلفه العبادي أفضل منه، فبدأ بتسليم كردستان كل شيء رفض المالكي اعطاءه لها، وسلمها نفط كركوك ومليار دولار (بلا أي مناسبة)، وبقيت الإهانة هي الأسلوب الوحيد لكردستان مع بغداد.
    لقد تصورت في البداية أن هذه هي طبيعة البرزاني، وأن الرجل، لأنه ابن اقطاعي كبير، فـ "ما يعرف يحجي مثل الأوادم"، إلى ان رأيته في اول زيارة لتركيا، وكان يتكلم ويتحرك ويبتسم كالبشر، وقد تخلى عن زيه الكردي لأنه "يخدش" السادة هناك، وكان "أنعم من الدخن" كما يقولون. هناك تقلص حجم صدر الرجل وخفض رأسه وقام بتوزيع التنازلات والخيانات ضد الكرد الأتراك إرضاءاً لمضيفه القوي، فليس في قاموس هذا الرجل من الأخلاق ما يمنعه من أي تنازل للقوي، مثلما ليس لديه ما يمنعه من ابتزاز الذليل، كما يفعل مع من وضعه الأمريكان في السلطة في بغداد. فـ "ميزان القوة" بينه وبين من يقف أمامه هو المقياس، وهو مستعد لكل شيء يمنحه قوة إضافية تزيد ثقل ميزانه على منافسه.

    ولم يكن ذلك في الماضي الصدامي فقط، بل هو شعور متأصل فيه ومستمر. فحين وقع اتفاقا مع شركة أكسون موبيل لم يستطع ان يخفي انتفاخه على بغداد قائلا بأن تلك الشركة تعادل عشر فرق عسكرية! فهو لا يرى في العراق الذي قدم له ولحثالات حزبه ما قد يزيد عن مئة مليار من الدولارات فوق استحقاقهم، إلا عدو له يجب جمع ما يمكن من "الفرق العسكرية" لمواجهته! ولم تكن سعادته بتوقيع ذلك العقد باعتباره مشروعا اقتصادياً لبلاده، بل لما يمثله له في موازين القوى الشخصية ضد العرب وضد منافسيه الكرد أيضاً ان تطلب الأمر.

    مسعود البرزاني يأخذ حجم الإناء الذي يجد نفسه فيه، فينتفخ أو "يفش" حسب الحاجة بالضبط. ولأن الترك ليسوا تحت الضغط الأمريكي المذل مباشرة ليضع على رأسهم أدنى ما تنجبه بلادهم من شخصيات وأشدها إحساسا بالدونية، رأى البارزاني نفسه في تركيا أمام دولة، فوضع نفسه في خدمتهما وتآمر معها على ضرب كرد تركيا وتهريب النفط العراقي ثم على إدخال داعش ثم القوات التركية إلى الأراضي العراقية، وما لا نعلمه من امور!
    مقابل ذلك الصغار امام تركيا، ولأن العبادي صغير جدا دائما، يمكننا ان نتوقع ان يكون مسعود منتفخ جدا معه دائما. ولا ننتظر من العبادي ان يبتز مسعود او حتى ان يكون له نداً، لذلك لا نتوقع مثلاً ان تكون مصالح العراق ضمن ما تحدث به العبادي مع البارزاني في زيارة الأخير لبغداد. فلن يطرح السؤال عن إدخال مسعود القوات التركية إلى العراق بدون موافقته، أو عن احتضان كردستان مؤتمرات "ثوار" الدواعش المطبلين للتدخل التركي الذي يهين العبادي مباشرة، ولا عن جريمة انسحاب البيشمركة من سنجار، وإنما نتوقع المزيد من المطالب الكردية والابتزازات. فشعار العبادي الصغير هو التهدئة والاحتفاظ بالكرسي أطول فترة ممكنة، ولو كانت على حساب فناء العراق كله.
     
    لا يقتصر الانتفاخ على بغداد على مسعود، بل يشمل كل افراد عائلته وكل الذين يمجدونه اليوم، فكل منهم عندما يتحدث عن العراق والعراقيين، فإنهم، من أصغرهم حجما إلى أكبرهم (بافتراض وجود كبير بينهم) ينتفخ حتى يكاد ينفجر زهواً واحتقاراً للعرب، وكأنها القضية الوحيدة التي لديهم ليفخروا بها، وفرصتهم الوحيدة للانتفاخ. وحجتهم جميعاً، هي أن صدام الذي ارتكب جريمة حلبجة، عربي. وينسى هؤلاء في لحظة انتفاخهم اللذيذ، أن تاريخ سيدهم و "رمزهم" كـ "جحش" صدامي (قاتل الكرد مع صدام) لا خلاف حوله (أنظر الرابط في الأسفل إن أحببت)(2). وينسون أن "جحش" السيد أسوأ من السيد نفسه، وان الغالبية الساحقة من العرب الذي ينتفخون عليهم، لم يكونوا مستعدين إنسانيا، للقيام بالدور الدنيء ضد الكرد، الذي قبل مسعود القيام به ضد قومه. وأمام تلك الحقائق لا مفر من طرح السؤال، فيما إذا كان الكرد المطبلين لبرزاني، متألمين حقاً لتلك المجزرة أم انهم يتذكرونها عند الحاجة للابتزاز فقط، وأنهم تعلموا ذلك من الإسرائيليون في استخدام الهولوكوست؟

    معروف في علم الاجتماع ان اشد الناس اضطهادا للأضعف، هو ذاته الأشد تذللا للأقوى. والبرزاني يشعر ان العرب اليوم في أضعف حالاتهم وعدوهم إسرائيل الأكثر قوةً وجبروتاً. لذلك فليس غريباً ان يكون الكردي الأكثر انتفاخا بوجه العرب، هو ذاته الكردي الأكثر ذلا وتزلفاً لصدام حسين، وهو ذاته اليوم الكردي الأكثر ذلا وتزلفاً لإسرائيل!

    هذا الكائن الشديد الخطورة، يشارك اليوم في معركة الموصل ولا يخفي طموحه لتقاسم المنافع القادمة. وهو ينسق مع تركيا وذيولها النجيفية التي تصرح علنا بنيتها تقسيم الموصل إلى ثمانية اقسام. وهو إرضاءا للسادة الأقوياء، يقف بالضد من كرد تركيا، إرضاءاً لتركيا، لكنه ينسق مع كرد إيران بالضد من إيران. فكون الشخص كرديا، لا يعني أي شيء بالنسبة له. فهو حتى لا يمتلك شكل القوميين المميز في الدفاع عن أبناء قوميتهم، فالمقياس الوحيد أمامه هو مدى رضا إسرائيل وأميركا عنه.

    وأخطر ما في أمر هذا الكائن اليوم هو ما تردد الكثير عن عودة برنارد ليفي مرة ثانية إلى صفوف البيشمركة التي يكثر التردد عليها. وقد طلب مسعود من بغداد، التي لبت فوراً، إرجاء الهجوم على الموصل. ويأتي هذا في الوقت الذي تتناقل الوكالات الدولية والمحلية ومصادر الحشد الأخبار عن اسراب داعش المغادرة إلى سوريا تحت حماية طائرات التحالف. إنه يصرح سعيدا بأن هناك "تنسيق رائع معه في معركة الموصل"، وهذا شيء مقلق، فهو الذي لم يظهر الرضا يوما عن أية مكاسب او ابتزازات حققها على العبادي او المالكي في الماضي، فما هو "التنسيق الرائع" الذي تم بين مسعود والعبادي والأمريكان وداعش، بحيث يكفي لإرضائه، وعلى أية مؤامرة على الموصل وعلى مستقبل هذا البلد، اتفقوا؟


    (1) بارزاني يتحدث عن تنسيق "رائع" مع الجيش العراقي في معركة الموصل
     http://www.alalam.ir/news/1874023
     (2) بماذا أوصى الرئيس صدام حسين مقاتلي الحرس الجمهوري وجهاز المخابرات؟ ذكرى معركة
     http://wijhatnadhar.org/article.php?id=6376
    © 2005 - 2025 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media