شذرةٌ وَلائيةٌ من أرض الطفوف
    الأثنين 28 نوفمبر / تشرين الثاني 2016 - 05:37
    أبو تراب كرار العاملي
    الرخاء والشدة، الأفراح والأحزان، العسر واليسر، الفرج والهم، حالات متقابلة يمر بها الإنسان في مختلف مراحل حياته، فتقذفه حالةٌ لِتستقبله أخرى، ويرميه موقفٌ فيلتقطه آخر، وهكذا تمضي به الأيام بِتَحَيُّناتها المتموِّجة، فلا يكاد يستقر موكب مسيرته على شطّ الهدوء حتى يُمضَى به الى جولةٍ متجددة من الإبحار المجهول المسير، والفاقد لخارطة الطريق، يُبَدِّل قبطانُه ناظرَيْه بين النجوم لعله يخرج من جولته ظافراً بزمان الإرساء على ساحل من الأمان طويل الأمد، حيث لا مرافئ تسمح لاستيراد بضائع الإضطراب بعد الآن.

    وهنا يبرز تميز الإنسان المؤمن عن غيره، فعند الإمتحان يُكره المرء أو يهان، فالمواقف العصيبة بمثابة إمتحان يُمَحَّص بها الإنسان، لِيَتبيَّن مدى صموده بوجه الشيطان ووساوسه، وتنكشف حقيقة علاقته بالله تعالى وعمق رسوخها وقوة صلابتها، فهنا تتجلى موارد التألق، فالقيام بالأعمال الصالحة في حالات الرخاء هو أمر مطلوب وشيء ممدوح، إلا أنه لا يُعَدُّ تألقاً وتميزاً، لأن الأخيريَن يظهران عند المصيبة وتعركس الأحداث، وحينها نعلم الإنسان الثابت ذا العقيدة اليقينية الثابتة من نظيره الذي ليس له من أعماله العبادية إلا الحركات الظاهرية دون أي مجاهدة للباطن الملوث، ودون أي مراقبة ومحاسبة لتصرفاته ومسلكياته الإجتماعية.

    وهل يوجد أعظم من واقعة الطف كحادثة مِحْنَوِيَّة تؤكد لنا ما لم يكن خافياً أساساً، بأن الحسين (عليه السلام) وأهل بيته الأطهار وأصحابه الأبرار هم أكثر الناس إيماناً وأرسخهم تعلقاً وأوثقهم ارتباطاً بالله عز وجل؟ ولِتنتجَ لنا مواقف شموخية ورواسخ إبائية تعلم الأجيال على مد العصور والأزمنة الى قيام الساعة.

    ولا بد لنا كموالين ومحبين بل وذائبين في حب أبي عبد الله الحسين(عليه السلام)، أن ننهل من هذه السيرة العطرة، ونقتبس منها أروع ما خلَّد التاريخ من دروسٍ وعِبَرٍ عقائدية وعبادية وأخلاقية وغيرها، حيث لا يستطيع أي سالك الى ربه إلا أن يمرعبر هذه المحطة الشمخاء لِيُروِّض نفسه ويرتقي بها الى أعلى مراتب القرب الإلهي.

    ثلةٌ من الأخيار، بمختلف الأعمار، يمضون مع إمامهم بكل ثبات وعزيمة وقوة وشجاعة، نوَّر الله قلوبهم بأنوار الإيمان، وأَعْبَقَ بصائرهم برياحين اليقين، قد باعوا لله أرواحهم، يمضون الى الموت كَمَن يسير الى جنة النعيم، حيث الرضوان الإلهي باستقبالهم مُشَرِّعاً أبوابَهُ للضيافة الأبدية.

    ما أجملَه من يقين، وما أروعه من تعلق بإمام زمانهم، هنيئاً لهذه الكوكبة النَّيِّرة، قد فهموا عين الغاية من خلق الله لهم، كم هي مرعبة هذه الطاعة في بريقها الإيماني، وملفت هذا الإذعان الوَلائي، فَنِعْمَ الإمام ونِعْمَ المأمومون.
                                                        
    إن الدروس التي قدمتها لنا ثورة أبي الأحرار (عليه السلام) ، تشكل باقةً متنوعة من مختلف الواحات التي يحتاجها كلٌّ حُرٍّ وأيُّ شريفٍ في هذه الحياة، ناهيك عن الإنسان المؤمن الذي يجب أن يُكوِّن عُلْقةً خاصة بواقعة الطف وإنتاجياتها النوعية، وإصداراتها الفريدة، ويجب علينا المرور على مختلف الشخصيات البرّاقة في هذه الحادثة، حيث تستحق كل واحدة، بعد سيد الشهداء، أن يكون لها دور البطل. ولن يسعنا المقام في الحال أن نقوم بجولةٍ على مختلف المواقف الأخّاذة في عظمتها، لذا سنكتفي بالإضاءة على جانب ملفت قد تألق به جميع من تشرَّف بالحضور مع أبي عبد الله (ع) والشهادة بين يديه، ألا وهو الطاعة الوَلائية المستمدة من طاعة الله جل وعلا، فكم جميل أن يذوب المرء في حب إمام زمانه، وأن يُفني نفسَه في خدمته والإمتثال لأوامره والتضحية - بشتى أنواعها- لقضاء حوائجه، وتلبية مطالبه.
    فهل يوجد تضحية أرقى من الجود بالنفس التي بين جنبَيْنا? وهذا ما نجده ساطعاً في ساحة الطف، حيث الإخوة والأبناء والأصحاب يتقدمون لِيفدوا أنفسهم بين يدي إمامهم، ويستأذنون الواحد تلو الآخر لِيستلذّوا بهذه التضحية المباركة.

    كم هي صورة وَلائية ملفتة، حقاً أنهم لَبّوا نداء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في غدير خم، فطاعة الأئمة (عليهم السلام) من وُلد أمير المؤمنين هي طاعةٌ لنفس الأمير(روحي فداه).

    فيا له من درس وَلائي بعثته لنا هذه الزمرة الطاهرة من أنصار الحسين (عليه السلام)، فهل أحْسنّا الاستقبال للتطبيق فيما بعد؟ هل إذا وُفِّقنا لنكون من أنصار المهدي(عجل الله فرجه)- وهي مهمة ليست بهذه السهولة- سنكون مُهَيَّئين للتألق ومستعدين للإبداع كما فعل أهل بيت الحسين وأصحابه الأبرار؟ هل سنكون يده التي تبطش ولسانه الذي ينطق وقلبه الذي يحوي الأبرياء ويُؤوي المستضعفين؟
    وكيف سيكون امتثالنا لأوامره الشريفة وتكليفاته التوجيهية؟ فالمسألة مهمة وجديرة بالتأمل، وتستوجب ترويض النفوس وتمرين العقول وشدّ الهمم وتهيئة الأبدان لتكون مسخرة جميعاً، قلباً وقالباً، في خدمة الإمام (عليه السلام) في مشروعه النهضوي العالمي الذي ينتظره، فضلاً عن الموالي المؤمن، كل حُرٍّ وشريف يطمح لدولة حرة عادلة مستقرة، يعم الأمان في أرجائها، ويعشعش الإستقرار في متونها، مِلؤها المحبة والمودة والإخاء، ولا مكان للظلم والحقد والأطماع الفانية والمصالح الدنيوية الزائلة في كافة بُقَعِها وشتى فروعها.

    علينا إذاً التمعن بعمق والتدبر بإذعان كيف أبلى أنصار الحسين بلاءً متميزاً تنحني العبارات لعظمته ويجف حبر القلم قبل الإيفاء بحقه وإبراز علو مرتبته، لكي نقتبس من فيض سخائهم ونستلهم من عنفوان وَلائهم كيف نُحسن الفداء، إن وفقنا الله لخوض ذلك الرهان، مع إمامٍ من آخر الزمان، لا بد لظهوره من أوان، ولحكمه من بيان، مهما زادت الأوهان وتمادى الطغيان وانتشر الفساد في كل مكان.

    ففي الخبر عن المعصوم (عليه السلام)، بعد أن سُئِلَ هل وُلِد القائم، فكانت الإجابة "لا وَلَو أدركتُه لخدمتُه أيّام حياتي".

    "ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون" .


    أبو تراب كرار العاملي
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media