8 - هذا ابن زيدون أخيراً :أَضْحَى التَّنَائِي بَدِيْلاً مِنْ تَدانِيْنا - الحلقة الثامنة
    الجمعة 5 فبراير / شباط 2016 - 21:50
    كريم مرزة الأسدي
    تكلمنا عن حياة ابن زيدون ونشأته ، وعن ولّادته وعشقه ، وما دار بينهما من شعر غزلي ، وبوح وجداني ، وكيف تعثر بعتبته حتى أوقعه الزمان بداجير سجنه ، لعام ونصف ، هاج وماج فيه ، مرّة ينتقض ، وطوراً يتوسل ، وأخرى يتفلسف ، ونقلنا من أروع أشعاره ، ما يكفي للإشارة عن عبقريته وأثاره ، ، ولم يفتنا  نثره لماماً ، وتطرقنا إلى رسالتيه الهزلية والجدّية ، ونقلنا ما تيسر عند تعرّضنا لأسباب سجنه ، وموقفه من خصمه ، وهزله كي يبرز أدبه وعلمه ، وجدّه حين جدّ الجد للعودة إلى حكمته وعقله ، وقد كان نثره أشبه بشعره ، لأن الرجل خلق والموسيقى  تجري في دمائه ، والصور تتزاحم على خياله ،  والأدب ينسكب من لسانه ، والقلم طوع بنانه.
    ولشاعرنا  كتاب ( التبيين) في تاريخ بني أمية ، وقد يكون ألّفه تقرّبا لهم ، وما وصل إلينا ، سوى أنّ المقري التلمساني ينقل منه مقطوعتين في كتابه القيم  (نفح الطيبه من غصن الأندلس الرطيب) ، وقد حققه الدكتور إحسان عباس.
    لا أريد أن أطيل المشوار مع السيد ابن زيدون وولّادته أكثر مما كتبت عنه ،وقدمت له ، وهذه الحلقة الثامنة ، وإن زدت ، ربّما سأصل إلى الحلقة النائمة ، لأن الإنسان بطبعه يحب التغيير ، فالحركة بركة ، والسكون جمود ، لذا في هذه الحلقة لا تجد الإيجاز المقصّر ، ولا الإطناب المكثر ، فالأمر بين بين ...!!
    مهما يكن من أمر ، بعد قيل وقال ، وتوسل وعناد بين الشاعر المنكود ، وأميره أبي الحزم بن الجهور ، ظفر الزيدون بعفوه ، فتحرر من ضنكه ، ولمّا مات أبو حزمه ،وتوّلى ابنه أبو الوليد
    زمام حكمه في قرطبة  ، وكان بين الرجلين مودة ورحمة ، قرّبه إليه ، لمعرفته بما لديه، فعينه على رأس ديوان أهل الذمة حتى ضاق الأمير الجديد به ذرعا ، وعفا عنه ترفّعا ، فجعله سفيراً له لدى  عدد من  ملوك الطوائف ، فوجد شاعرنا هذه فرصه السانحة لتوثيق علاقاته معهم ومع وزرائهم ، والرجل لا تعوزه الفصاحة والبلاغة والشاعرية والأدب والعلم .
    بعد التجوال ، والتأمل بالمآل ، ولكي يبعد نفسه عن القيل والقال ، ويرتاح البال  ، قرر الانتقال من حالٍ إلى حال ،، فتوجّه إلى أشبيلية  سنة (441 هـ ـ 1049م) حيث    المعتضد    وبلاطه الباذخ  الشهير بأدبه ، وإن الطيور على أشكالها تقعُ ، وجزما ما كان المعتضد بجاهل لابن زيدون ومقامه السامي الرفيع في دنيا الشعر والأدب والسياسة والدبلوماسية ، ولا بغافل عنه ، فتمسك به ، وقرّبه  إليه  ، وأعلى مقامه حتى رتبة الوزارة ومقاليدها !! وتشعب نفوذه ،وتغلغل في مجالات المجتمع الإشبيلي كافة ، فهو الأول إلا الملك ، فأصبح ( ذو الوزارتين) ، وبقى في حضرة هذا المعتضد عشرين سنة، أنيساً ، جليساً ، أديباً ، مادحاً ، باراً ،وقضى المعتضد حياته بين ( 407 هـ - 461هـ / 1016 م - 1069 م ) ، وكان الرجل شجاعاً فاتكاً داهيةً ، أراد التشبّه بأبي جعفر المنصور ، وأن يوّحد الأندلس تحت لوائه من بين أيدي ملوك الطوائف ، ويذكر الصفدي في ( وافي وفياته) ( ج5 ص 331 ) : وسُئِل وزيره ابن زيدون عن كيفية نجاته من فتك المعتضد طوال حياته، فقال: (كنت كمن يمسك بأذني الأسد، ينقي سطوته تركه أو أمسكه)،وقال عنه بعد موته :
    لقد سرنـــــــا أن الجـــحيم موكــــلٌ *** بطاغيـــةٍ قد حمّ منه حمامُ
    تجانفَ صوب المزن عن ذلك الصدى ** ومر عليه الغيث وهو جهامُ

    مضى المعتضد بن عبّاد ثاني ملوك بني عبّاد وأشهرهم إلى رحمة ربّه ، وقام ابنه المعتمد ، وسار الرجل على سرّ أبيه في إكرام ابن  زيدون ، ورفع شأنه  ، ومجالسته ومعارضته في قصائد الشعر ، ولكن الحسد والحقد  قد جبل عليه الإنسان ، ولاسيما في مجالس السلطان ، وكما ذكرنا في الحلقات السابقة ، أشار بعض خصومه على المعتمد على إرساله لتهدئة ثورة العامة على اليهود في إشبيلية ، وهكذا كان الأمر ، فسار الرجل على رأس الحملة حتى أصابته الأمراض ، فغلبته حتى أن قضى أمره ، ولفظ أنفاسه ( 463 هـ / 1070م)
    ترك لنا ديوانه الكبير بما يتضمن من قصائد معظمها في المدح والغزل والاستعطاف ، ومن النثر رسالتيه الهزلية والجدية ، وكتابه ( التبيين) في تاريخ بني أمية كما أسلفنا.
    وما هو بالسرٍّ  المكتوم ، ولا بالأمر الخافي ، حين أقول لولا الولادة ما كان ابن زيدون ، ولولا ابن زيدون لما كانت الولادة ، وما كلّ (كان)  بـ (كان) ، وعلى الله التكلان ...!! هذا الارتباط  ما هو حاصل جمع فردين ، وإنما حاصل ضرب جنسين ، من يوم تعشّقا حتى يومنا هذا ، وإلى يوم يبعثان ، فبأيِّ آلاء ربّكما تكذبان .
    قال في الولادة بنت المستكفي ما قال من غزلٍ وهيام ، وشعرٍ وأنغام ،  وتوسّلٍ وعتاب وملام ، كل هذا مررنا به والسلام !! ، وبقى لدينا القصيدة الخالدة ، وهي المرام ، فلما خرج من سجنه ، كما يخرج الأنام ،إذ  يسترجعون ما تعلق بذهنهم من سالف الأيام ، فراجع ذكرياته مع ولادته والإلهام ، فلملم كل خوالج نفسه ، وما يدور في الوجدان ، من رجاء وعاطفة وشكوى وحنان ، فإليك هذا الإلمام بقصيدته التي تناقلتها العصور والأعوام :
    أَضْحَى التَّنَائِي بَدِيْلاً مِنْ تَدانِيْنا ** وَنَابَ عَنْ طِيْبِ لُقْيَانَا تَجَافِيْنَا
    ألا وقد حانَ صُبح البَيْنِ صَبَّحنا **** حِينٌ فقام بنا للحِين ناعِينا
    مَن مُبلغ المُبْلِسينا بانتزاحِهم ****حُزنًا مع الدهر لا يَبلى ويُبلينا
    أن الزمان الذي ما زال يُضحكنا*****  أنسًا بقربهم قد عاد يُبكينا
    غِيظَ العِدى من تساقينا الهوى فدعوا * بأن نَغُصَّ فقال الدهر آمينا
    فانحلَّ ما كان معقودًا بأنفسنا *****وانبتَّ ما كان موصولاً بأيدينا
    لم نعتقد بعدكم إلا الوفاءَ لكم ********* رأيًا ولم نتقلد غيرَه دينا
    ما حقنا أن تُقروا عينَ ذي حسد ****بنا، ولا أن تسروا كاشحًا فينا
    كنا نرى اليأس تُسلينا عوارضُه ***** وقد يئسنا فما لليأس يُغرينا
    بِنتم وبنا فما ابتلت جوانحُنا ******** شوقًا إليكم ولا جفت مآقينا
    نكاد حين تُناجيكم ضمائرُنا ****** يَقضي علينا الأسى لولا تأسِّينا
    حالت لفقدكم أيامنا فَغَدَتْ ******** سُودًا وكانت بكم بيضًا ليالينا
    إذ جانب العيش طَلْقٌ من تألُّفنا*** وموردُ اللهو صافٍ من تصافينا
    وإذ هَصَرْنا غُصون الوصل دانية**** قطوفُها فجنينا منه ما شِينا
    ليسقِ عهدكم عهد السرور فما******* كنتم لأرواحنا إلا رياحينا
    لا تحسبوا نَأْيكم عنا يُغيِّرنا *******8أن طالما غيَّر النأي المحبينا
    والله ما طلبت أهواؤنا بدلاً *******منكم ولا انصرفت عنكم أمانينا
    يا ساريَ البرقِ غادِ القصرَ فاسق به* من كان صِرفَ الهوى والود يَسقينا
    واسأل هناك هل عنَّي تذكرنا********* إلفًا ، تذكره أمسى يُعنِّينا
    ويا نسيمَ الصِّبا بلغ تحيتنا ***** من لو على البعد حيًّا كان يُحيينا
    فهل أرى الدهر يَقصينا مُساعَفةً ******منه ولم يكن غِبًّا تقاضينا
    ربيب ملك كأن الله أنشـــــأه ******مسكًا وقدَّر إنشاء الورى طينا
    أو صاغه ورِقًا محضًا وتَوَّجَه**** مِن ناصع التبر إبداعًا وتحسينا
    إذا تَأَوَّد آدته رفاهيَـــــــــة ******* تُومُ العُقُود وأَدْمَته البُرى لِينا
    كانت له الشمسُ ظِئْرًا في أَكِلَّتِه ******بل ما تَجَلَّى لها إلا أحايينا
    كأنما أثبتت في صحن وجنته ******زُهْرُ الكواكب تعويذًا وتزيينا
    ما ضَرَّ أن لم نكن أكفاءَه شرفًا ***** وفي المودة كافٍ من تَكَافينا
    يا روضةً طالما أجْنَتْ لَوَاحِظَنا ***وردًا أجلاه الصبا غَضًّا ونَسْرينا
    ويا حياةً تَمَلَّيْنا بزهرتها *********** مُنًى ضُرُوبًا ولذَّاتٍ أفانِينا
    ويا نعيمًا خَطَرْنا من غَضَارته *****في وَشْي نُعمى سَحَبْنا ذَيْلَه حِينا
    لسنا نُسَمِّيك إجلالاً وتَكْرِمَــة******* وقدرك المعتلى عن ذاك يُغنينا
    إذا انفردتِ وما شُورِكْتِ في صفةٍ ***فحسبنا الوصف إيضاحًا وتَبيينا
    يا جنةَ الخلد أُبدلنا بسَلْسِلها *******والكوثر العذب زَقُّومًا وغِسلينا
    كأننا لم نَبِت والوصل ثالثنا******والسعد قد غَضَّ من أجفان واشينا
    سِرَّانِ في خاطرِ الظَّلْماء يَكتُمُنا ******حتى يكاد لسان الصبح يُفشينا
    لا غَرْو فِي أن ذكرنا الحزن حِينَ نَهَتْ *عنه النُّهَى وتَركْنا الصبر ناسِينا
    إذا قرأنا الأسى يومَ النَّوى سُوَرًا *******مكتوبة وأخذنا الصبر تَلْقِينا
    أمَّا هواكِ فلم نعدل بمنهلـــــــه******* شِرْبًا وإن كان يروينا فيُظمينا
    لم نَجْفُ أفق جمال أنت كوكبـــــه ******سالين عنه ولم نهجره قالينا
    ولا اختيارًا تجنبناه عـــــــن كَثَبٍ ****** لكن عدتنا على كره عوادينا
    نأسى عليك إذا حُثَّت مُشَعْشَعـــــةً *******فينا الشَّمُول وغنَّانا مُغَنِّينا
    لا أَكْؤُسُ الراحِ تُبدى من شمائلنا****  سِيمَا ارتياحٍ ولا الأوتارُ تُلهينا
    دُومِي على العهد، ما دُمْنا، مُحَافِظةً ***فالحُرُّ مَنْ دان إنصافًا كما دِينَا
    فما اسْتَعَضْنا خليلاً مِنك يَحْبسنا *******ولا استفدنا حبيبًا عنك يُثْنينا
    ولو صَبَا نَحْوَنا من عُلْوِ مَطْلَعِه**** بدرُ الدُّجَى لم يكن حاشاكِ يُصْبِينا
    أَوْلِي وفاءً وإن لم تَبْذُلِي صِلَةً ******* فالطيفُ يُقْنِعُنا والذِّكْرُ يَكْفِينا
    وفي الجوابِ متاعٌ لو شفعتِ به *** بِيْضَ الأيادي التي ما زلْتِ تُولِينا
    عليكِ مِني سلامُ اللهِ ما بَقِـــيَتْ ******** صَبَابةٌ منكِ نُخْفِيها فَتُخفينا

    قصيدة ملئت الدنيا ، وشغلت الناس ، من غرر الشعر العربي شجواً وغناءً وغزلاً وعتاباً ، وحداثة  وعذوبة وتجدداً ،  تناقلها الرواة ، وغنّها المغنون ، وأشاد بها كتاب الأدب العربي والأجنبي ونقادهم ، تذكر د. سهى محمود بعيون في بحثها عن ( ابن زيدون :  قال عنها المستشرق الإسباني إميليو غراسيا كومس: " إنّها أجمل قصيدة حب نظمها الأندلسيون المسلمون، وغرة من أبدع غرر الأدب العربي كله عارضها شعراء كثيرون وما زالوا يعارضونها إلى اليوم " ..
    نعم .. نعم ... يبثّ خوالج وجدانه بأشجى العبارات ، وأدمى العبرات ، يكاد يجرفنا معه ويبلينا، وهذا طبع الدهر كما أضحكنا ، قد عاد يبكينا !!  
    مَـن مُبلـغ المُبْلِسينـا بانتزاحِهـم *** حُزنًا مـع الدهـر لا يَبلـى ويُبلينـا
    أن الزمان الـذي مـا زال يُضحكنـا ****أنسًـا بقربهـم قـد عـاد يُبكيـنـا
    غِيظَ العِدى من تساقينا الهوى فدعوا **بـأن نَغُـصَّ فقال الدهـر آمينـا

    اللهم آمين !! قد نكمل الحديث عن ابن زيدون وحديثه الحديث ، ورحم الله عبقرينا ابن الرومي ، وقوله :
    ولقد سئمت مآربي ***  فكأن طيبها خبيث
    إلا الحديث فأنه ****مثل اسمه أبداً حديث
    ويذكر المعافى بن زكريا في ( جليس صالحه وأنيس ناصحه) بحديث مسنود  : بعث عبد الملك بن مروان إلى الشعبي، فقال: يا شعبي ! عهدي بك وأنك الغلام في الكتاب فحدثني ، فما بقي شيءٌ الآن إلا وقد مللته سوى الحديث الحسن، وأنشد :
    ومللت إلا من لقاء محدثٍ  *** حسن الحديث يزيدني تعليما
    يا الله ، ربّما نكمل ، وقد نعكف ، فالزمن هذا الزمن ، والدنيا قلبت ، والحياة صورٌ وعبر....!!!!
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media