ثلاثة وخمسون عاماً على كارثة شباط االاسود في العراق (2/2) زوجة الشهيد وصفي طاهر، تتذكر ... وتؤرخ لعشية انقلاب البعث الدموي، وساعاته الاولى
    الأثنين 8 فبراير / شباط 2016 - 04:56
    رواء الجصاني
        في هذا القسم الثاني والاخير من توثيقنا بمناسبة الذكرى الثالثة والخمسين للانقلاب الدموي في العراق  (شباط 1963)  نستمر في اجتزاء نصوص اخرى من مخطوطة مذكرات / ذكريات: بلقيس عبد الرحمن، زوجة العميد الشهيد وصفي طاهر، احد ابرز اقطاب ثورة / حركة الرابع عشر من تموز 1958  التي اسست للجمهورية الاولى، واغتالها البعثيون الاوائل في ذلك الانقلاب المشؤوم، بالتحالف مع العسكريين المتعصبين، وغلاة القوميين والمناطقيين والطائفيين، واقطاب وموالي العهد الملكي المتضررين...
       وإذ لا نريد الخوض في التفاصيل خلال هذه الكتابة، نؤشر وحسب الى بعض ما تشي به النصوص والاجتزاءات التالية- بل وتؤرخ بشهادات عيان - لجوانب من نتائج التفرد السلطوي الذي تبناه زعيم الجمهورية الاولى، عبد الكريم قاسم،  فكراً ونهجاً عملياً، مستهيناً بكل الاصوات والمواقف التي حذرت من عواقب ما ستؤول اليه الامور، ودعت لضرورة الانتباه والتصدي والردع، ولكن لا حياة لمن تنادى، فحدث المتوقع، وكانت الحصيلة انهار دماء، واحداث ومآسٍ ما فتئت تداعياتها – كما نزعم – تتضاعف وحتى يومنا الراهن، والعديد الغالب منها، يتسبب به ورثة فكر ومنهج وممارسات انقلابيي شباط الاسود، وان تغيرت المواقع والاساليب والادعاءات والمزاعم، وتدرع اربابها بهذه الاقنعة او تلك، فالجذور ذاتها، والقتلة انفسهم.. ومرة اخرى، ومن جديد، بل ودائماً، نكرر الحكمة الجواهرية المدوية: 
    ومن لم يتعـظْ لغـدٍ، بامسٍ، وان كان الذكيّ، هو البليدُ
    ---------------------------------------------

    الانقلابيون يستولون على السلطة
    في صفحات عديدة من ذكرياتها، تكتب بلقيس عبد الرحمن، خلاصات عديدة عن الانقلاب المشؤوم  في ساعاته الاولى ومنه: "حين وصل وصفي الى بيت عبد الكريم قاسم، وكان قريباً من بيتنا، اتصلوا في الهاتف بمعسكر الرشيد، وطلب منهم الزعيم ان يخمدوا الفتنة، ولكنهم كانوا يسخرون منه ويشتمونه... وقال وصفي لعبد الكريم – بحسب شهود عيان - هذه نتيجة أخطائك وهذا ما كنا نتوقعه، فأجابه: "ليس الآن وقت ملامة يا وصفي، تعالوا معي الى وزارة الدفاع لنرى، ونتصل بالقطعات العسكرية الاخرى"، وهكذا ذهبوا جميعاً الى هناك، وقد كان في مقر الوزارة نفسها معادون، الى جانب الضباط والمراتب المخلصين هناك... وتضيف بلقيس: "كان وصفي قد أبعد العسكريين المعادين للجمهورية من كتائب الدروع، وعيّن المؤيدين بدلهم، احترازاً مما قد يحدث. فقد كان المتآمرون قبل ان يقوموا بأي شيء، يحسبون لقطعات الدروع الف حساب، لذلك اوهموا عبد الكريم قاسم بان وصفي، ومؤيديه، ومعه الحزب الشيوعي، سيقومون بانقلاب عسكري ضده، ويتسلمون الحكم. وقد صدقهم، بل راح يشكّ حتى بوصفي، فكلّف أجهزة الامن بمراقبته".
    ولتأكيد بأن هناك من كان يتابع تحركات وصفي طاهر، تكتب زوجته بلقيس: "ذات مرة، كنّا، ومعنا ابنتنا الأصغر هند، في السيارة، وكان وصفي يقودها، واذا بسيارات من الأمن، تتبعنا وكان السائق يجلس في المقعد الخلفي. ولم يتحمل – وصفي - تلك المتابعة فاستدار وراح يلاحقهم، فأخذت سيارتهم تسير بسرعة، وهو خلفها، وكلما أسرعوا، أسرع وراءهم في محاولة للقبض عليهم، ولم يتركهم إلا بعد ان توسلنا به ليترك الموضوع"...
    وفي موقع آخر ذي صلة، توثّق بلقيس بان محاولة جرت لتسميم وصفي طاهر، بقهوة قُدمت له من الخياط الذي كان يخيط عنده ملابسه، وأصابته جراء ذلك رجفة، وحمى شديدة، ثم جرت معالجة الحالة طبياً، وقد هرب ذلك الخياط بعدها... كما جرت محاولة أخرى لاغتياله في عيادة طبيب الاسنان، الذي أخبر وصفي بمحاولة يقوم بها البعض للحصول على مواعيد مجيئه للمعاينة، وفشلت المحاولة أيضاً.
    وفي سياق ذي صلة، تنقل بلقيس أيضا، عن وصفي طاهر ان العميد الطيار جلال الأوقاتي، قائد القوة الجوية، كان مراقباً أيضاً بحسب اوامر الزعيم قاسم، لأنه كان عضواً في الحزب الشيوعي، ومن قبل قيام ثورة 14 تموز. وقد استقال من الخدمة العسكرية في العهد الملكي، وفي اول يوم من الثورة عيّنه عبد الكريم قائداً للقوة الجوية، باقتراح من وصفي، وقد كانا أصدقاء، ويحملان أفكاراً ديمقراطية، ولذلك فان المتآمرين وقبل ان يقوموا بأية خطوة ساعة انطلاق تحركهم في 8 شباط 1963، نفذوا عملية اغتيال جلال الأوقاتي، وقد كانت تلك ساعة الصفر للانقلاب المشؤوم"...
    ... وفي صفحات تالية من ذكريات / مذكرات بلقيس نقرأ: في صباح اليوم التالي (9/2/1963) وكنت قد غفوت قليلا، واذ صحوت، وجدت الجميع يبكون ليخبروني باستشهاد وصفي، وعبد الكريم، والمهداوي، ولم اصدق الخبر من هول المفاجأة. ثم رجعنا الى بيتنا في منطقة العلوية، وجاء عمي طاهر (والد وصفي، ووالدته، وجمع من الاهل، وأولهم أخي، قدري عبد الرحمن، وزوجته، نوال علاء الدين، ووالدة زكي خيري) في محاولة للمواساة وتخفيف الفاجعة"...
    توثيقات عن الساعات الأخيرة
    مثلما كانت هناك العشرات من "الشهادات" و"الاجتهادات" و"التوثيقات" بشأن تأرخة شؤون التهيئة لثورة 14 تموز 1958 وتنفيذها، ومسيرتها، ومن ثم الاجهاز عليها في 8 شباط 1963... ظهرت "شهادات" و"اجتهادات" و"توثيقات" بشأن مصرع وصفي طاهر واستشهاده، مدافعاً عن قناعاته ومبادئه...
    ... تكتب بلقيس في ذكرياتها – مذكراتها التي تركتها مخطوطة قبل رحيلها عام 2001: علمت بعد شهور من انقلاب شباط الاسود، ومن احد العسكريين المرافقين واسمه نعيم سعيد، بأن وصفي طاهر ذهب مع عبد الكريم قاسم الى مقر وزارة الدفاع في باب المعظم، وكان يعاتبه بشدة ويقول له، "هذا ما حذرتك منه"، وكان الأخير يردّ: "ليس وقت هكذا حديث الآن". وحينما اشتد القصف على الوزارة، وكان وصفي يتصدى للانقلابيين، طلب من مرافقه وسائقه، ان يخلّصا نفسيهما ويتركاه لوحده، فهو سيدافع عن الثورة الى اخر قطرة من دمه، وذلك ما كان بالفعل.
    وبعد نحو عدة أعوام، وفي 2007 تحديداً، يُعرض برنامج تلفزيوني ببغداد، بمناسبة الذكرى السنوية للانقلاب الفاشي، ويتحدث فيه أحد آخر عسكريين اثنين بقيا مع وصفي طاهر حتى اللحظات الأخيرة، وهو مرافقه الشخصي نعيم سعيد، فيؤكد أن وصفي طاهر طلب منه، وكذلك من سائقه فيصل عذاب، وكانوا جميعا في مقرات وزارة الدفاع يقاومون الانقلابيين، طلب منهما ان يسلما نفسيهما، بعد وضوح النتيجة، ونفاد الذخيرة، قائلاً لهما انه هو المطلوب أساسا من الانقلابيين، وحينما استدارا، وبعد ذلك بلحظات، سمعا صوت طلق ناري، انهى بها وصفي طاهر حياته.
    وهكذا يتخذ وصفي طاهر القرار، كما قرر، وأفصح عن ذلك، أمام زوجته، وأمام عبد الكريم قاسم بالذات، في أوقات سابقة، بأنه سيقاوم أية محاولة لاسقاط الثورة، وسيحتفظ بآخر طلقة لنفسه...
    وبحسب المتحدث، نعيم، في البرنامج التلفزيوني الذي جرت الاشارة اليه في السطور السابقة، فانه، وفيصل، مددا وصفي طاهر، واغمضا عينيه، وقاما بتسليم نفسيهما للانقلابيين. ومن المعروف والموثّق، كيف عرض تلفزيون بغداد، الذي سيطر عليه انقلابيو 8 شباط جثة وصفي طاهر، وبأسلوب حاقد ولئيم، لا لشيء إلا لاحباط عزائم المواطنين، المقاومين للانقلاب في حينها، وكذلك لطمأنة أنفسهم من الرعب الذي كان يحيط بهم من قيادات الثورة التموزية.
    واستطراداً في الحديث عن هذا الشأن، تنقل هند، إبنة وصفي طاهر الصغرى، انها، وبعد عودتها الى العراق اثر سقوط نظام الطاغية صدام حسين، في نيسان 2003 اتصل بها مواطنون محددون ليدلوها الى قبر جماعي "سري" في مدينة المعامل ببغداد، يضم عدداً من رفات شهداء انقلاب الثامن من شباط الدموي، ومن بينهم وصفي طاهر... وقد حافظ بعض العراقيين الأوفياء على ذلك السر، طيلة أربعة عقود، ليكشفوا الأمر بعد انهيار الحكم البعثي الثاني في البلاد... ومازالت الاجراءات الرسمية، والإنسانية، مستمرة الى اليوم، للكشف والتوثيق حول ذلك الموضوع.
    -------------------------------------------------------------------------------
    (*) شهادات بلقيس عبد الرحمن مستلة من مؤلًف: " وصفي طاهر.. رجل من العراق" – كتابة وتوثيق: رواء الجصاني ونضال وصفي طاهر، الصادر عام 2015 بطبعتين عن:  بابيلون للثقافة والاعلام - براغ، ودار الرواد المزدهرة – بغداد .

    ( القسم الثاني والاخير)

    ثلاثة وخمسون عاماً على كارثة شباط االاسود في العراق عام 1963
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media