وداعا عزيز سباهي
    الأثنين 8 فبراير / شباط 2016 - 14:15
    موسى الخميسي
    بحزن بالغ ينعي ابناء الصابئة المندائيون، وثقافتهم الوطنية، الباحث والصحفي والفنان عزيز سباهي، الذي فقدنا فيه واحدا من ابرز كتابنا العراقيين الذين تجسدت في كتاباتهم وبحوثهم روح شعبنا الحية، وتاريخه الطويل، المليء بتضحيات مبدعينا، المفتوح ابدا على مستقبل الانسان الذي حمله الراحل محبة في القلب، وأفقا في العينين، وجدلا متواصلا من الافكار.

    عزيز سباهي، كبيرا كان  في ساحات الحرية، وفي معارك شعبنا، وكان ، في اللحظات العصيبة من تاريخ العراق ،يتعالى على الجراح، في كل دعواته الانسانية الراقية في دفن الاحقاد،  كان يدعوا الى التوحد في الوطن، في تصميم ثابت، على الاستمرار في الطريق نفسه، طريق الحرية، التي ظل هاجسه حتى اللحظات الاخيرة، مستنطقا دلالاته، مقتربا منه رغم منفاه البعيدة، مؤكدا ان حقيقتنا هي حقيقة شعبنا التي لايمكن ان تحجبها عن اعيننا ابدا اوهام الفاشية والطائفية المقيتة وثقافتهما القائمة على التدجين والقمع والغاء الآخر. فحقيقتنا ، هي التي نستمد منها يقيننا الحاضر واحلامنا القادمة، وشرطنا التاريخي.

    نعرف جميعا، اصدقاء واحباء، هنا وهناك، كم عانى هذا المناضل القدير في عقود عمره الطويلة . منذ ايام الشباب الاول، في الاربعينات من القرن الماضي، في سيره العاصف على خطى والده الشاعر سباهي، وعلى خطى الفكر الماركسي، الذي ذهب اليه بحزم في يقظته الواعية، فبقي شامخ الرأس، متجاوزا كل الآلام، يواصل سيره في الطريق نفسه، طريق الحرية. وكان، في هذا الطريق نفسه، وهو يودع الشهيد تلو الشهيد من رفاق عمره، واولهم كان اخيه المناضل صبيح سباهي، الذي قطع جسده الفاشيست عام 1963، فسقط بشرف وكبرياء وشجاعة ، وهو بعمر الزهور في ساحة الحرية، دفاعا عن شرف الكلمة، التي كان يكتم اسرارها في مطابع  حزبه السرية.

    ربما لايكون للكلام الآن، مهما كان بليغا، مكان هنا، تماما مثل الدمع، الذي يكاد يصبح، مثل هذه اللحظات، على عمق ما فيه من مشاعر انسانية، استذكار لواحدا ممن صنعوا الذاكرة الثقافية المندائية الحديثة. انه انسان وضع قلمه وفكره، منذ تلك اللحظة التي قرر فيها الالتزام بحركة شعبه، ليكون في قلب المعركة، من اجل حرية الكلمة، ونشر الثقافة التقدمية، فظل يراعه حاضرا ابدا في المقالة النقدية، والبحث  والمعرفة والتاريخ  بعدد من المؤلفات، في الزراعة والعمل النقابي والسياسي، واصول الديانة المندائية، متوجا بثلاثيته الخالدة عن تاريخ الحزب الشيوعي العراقي.، فقد كان لكل من عرفه عن كثب، كتلة ابداع لاتتوقف لحظة، فقد كان ذهنه الوقّاد، وذهنه الثاقب، يجوب في رحاب الثقافة، وهو ينهل من ينابيع المعرفة الانسانية اينما كانت.

    فكل ما تبقى لنا الان ،هو ، ان نكتب كلمات في توديع الراحلين، وننتظر الكلمات الجديدة، كي نودع من سيرحل غدا. لم يتبق لنا حتى كلمات جديدة، لقد جفّ كل شيء، الكره وحده، هو من يعلمنا الانتظار، فالوطن الذي ناضلنا من اجل حريته، مرصودة حريته للقتل، يغدو فيه الشجعان ، الاكثر تجاسرا على الكلام، في فوهة النار والاغتيالات، حالمون بهناء العيش، حالمون بالخلاص من المذبحة المفتوحة التي تحصد المئات كل يوم، وتستنزف المشاعر وترمي المرء في بئر من تبلد الحسّ، ماؤه اليأس من كل مصادر الرجاء، والمناضلون لاجل مثلهم تبقى احلامهم نزهة في مناطق ممنوعة. وكان الراحل عزيز سباهي، اكثر من يعلم ان المرء يظل اسير احلامه ما دام تواقّا الى الحرية.

    انه بيننا وسيظل لامحالة، خالدا، فهو لن يرحل ، وهل يمكن للتاريخ ان يرحل؟ هل يمكن لرمز لحركة شعب ان يرحل؟ لن يرحل الحلم بعراق ديمقراطي ، كما كان يراه، عراق بعيد عن غزارة الدم الذي يشق في ارضه الرخوة مجاري الى محيطه. هل يرحل من هوعائدا بيننا كلما تهيجت انفسنا الى النضال من اجل الحرية؟ بكلماته، ومواقفه، التي كانت وستظل تاجا ارفع من الكلمات ولا امارة أليق به منها.فالكلام الذي كتبه قلمه، وريشته التي خطت باسلوب النسخ والثلث، اجمل العبارات والاشعار، يستطيع ان يغطي غيابنا جميعا، الان في محنتنا الاليمة التي نعيشها ونحن في الشتات، او في المستقبل الذي نحلم به.

    ننافح بالكلمة حد السيف، ونقول في غيابه، بان الكلمات هي التي تبقى، ونحن نعرف اننا كائنات من كلام، لهذا لانستطيع ان نصمت طويلا، وحتى حين يكون الجرح مفتوحا واليد على القلب تمنعه من السقوط، فاننا سنقول كلاما ينتصر للانسان وحريته. فمنذ البداية ، ومع هذا الانسان ،انتصرنا للكلمة ورفضنا الدم.

    تودعك المحبة يا عزيز سباهي، وكنت سيدا من رعاتها

    ويودعك الوفاء، وكنت من سادة بيته

    يودعك النقاء، وانت الانسان الذي عرف كيف يحيا البراءة والصدق تحت عباءة النضال من اجل الحرية

                                                                                 موسى الخميسي
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media