"ميناء" البصرة الجوي: بهاء العمارة البصرية
    الأربعاء 10 فبراير / شباط 2016 - 20:54
    د. خالد السلطاني
    معمار وأكاديمي
    *الى: محمد خضير؛ البهاء الآخر للبصرة!

    اضفى موقع البصرة الجغرافي خصوصية مميزة وهامة للمدينة التي شيدها المسلمون سنة 636 م. انها، وإن كانت على تخوم صحراء، فإنها ايضاً، (واساساً) ميناء بحري، اسدت اسمها ومنحته لمياه ذلك "الخليج" الذي تقع بالقرب منه، هو الذي ظل لفترة طويلة يعرف بـاسم (لا أحد، مع الأسف، يتذكره الآن)، وهو: "خليج البصرة"، لكن البصرة هي، أيضا، وثانٍ "ميناء" نهري، ونهرها العظيم، فخر المدينة، يتولد من تلاقي وجمع نهرين مهمين، كما هي ثقافتها، المتولدة من تلاقي وجمع نتاج ثر لنسائها ورجالاتها البارزين، هذا فضلا على أهمية مكانتها الاستثنائية  اقتصاديا (نفطياً، على وجه الخصوص!)، والتي  أسبغ عليها صفات مميزة، رفعت من سمعتها وعززت منزلتها، بعيداً عن موقعها الجغرافي. ولعل تلازم تلك الصفات والسمات، وتواشجها معاً في ذلك المكان، ساهم في اختيارها لتكون مركزاً عمرانيا هاماً، ونقطة جذب على المستوى المحلي والإقليمي وحتى الدولي، ليصار وليتأهل موقعها كعقدة اتصالات عالمية، ولاسيما "الجوية" منها. والنوع الأخير، شهد نهضة حقيقية، رافقها ارتفاع شاقولي في الانتشار وعديد المستخدمين/ المسافرين. اذ لم يمر سوى عقود قليلة جدا على اختراع الطائرة، (عندما حقق الاخوان "رايت" اول تحليق بطائرة أثقل من الهواء ومسيطر عليها في سنة 1903)، حتى امست الواسطة الأكثر أهمية، والأكثر راحة في تنقل الناس وزيارتهم لأمكنة بعيدة. وقد تطلب انتشار القوات العسكرية في مواقع نائية عن البلد /الام، كما ظهر ذلك جلياً، بعد الحرب الكونية الأولى، مع ظهور لافت لأهمية الشأن الاقتصادي وعلاقة المناطق المستعمرة بمدن وحواضر الاستعمار، الى زيادة فائقة في الطلب على استحداث خطوط جوية جديدة مع متطلباتها وربط امكنة بعيدة بعضها بالبعض الآخر. كل ذلك يسر اختيار موقع البصرة في الثلاثينات، كحاضرة عراقية واعدة ومتميزة، جغرافيا واقتصادياً، وبتداخل وتواشج مثير ما بين خصوصية المكان مع المتطلبات الدولية الجديدة، لتكون مكانا مناسبا ومفضلاً لتشييد مطار على مستوى عالمي قادراً على ربط الشرق بالغرب!
    في سنة 1935، يتقرر تشييد مطار بمواصفات عالمية بالبصرة، بدلا من منطقة "المدارج" في المعقل، التي استنفذ غرضها. أُودعت اعمال تصاميم المطار الى مكتب "ويلسون وميسون" البريطاني. ومعماريو هذا المكتب معرفون جدا في العراق، حيث صمموا خيرة المباني الجديدة في البلد، عندما عملوا فيه طيلة عقد ونيف من السنين. كانت اشتراطات التصميم تقضي بوجود فضاءات مناسبة وخاصة تسهل عمل المطار، مع تقديم أفضل الخدمات للموظفين ومستخدمي المبنى. ونظرا لخصوصية الخطوط النائية التي توفرها خدمة المطار، فقد ارتؤي ان يكون من ضمن متطلبات التصميم تنفيذ فندق خاص بالمطار يخدم، ضمن ما يخدم، مسافري الطيران البعيد، في حالة توقفهم المحتمل في البصرة. استمرت اعمال التنفيذ لمطار البصرة في المعقل، حوالي ثلاث سنين، وافتتح من قبل الملك غازي الأول في 24 آذار سنة 1938.
    يعيد مخطط مطار البصرة، بشكل عام، مخطط مطار بغداد (مطار المثنى لاحقاً)، الذي صمم من قبل المعماريين أنفسهم في سنة 1931. لكن مطار البصرة احتوى، ايضاً، وكما اشير توا، على مبنى فندق. تقع القاعة الرئيسة العالية المخصصة الى دخول المسافرين المغادرين والمودعين في منتصف كتلة المبنى، في حين شغلت خدمات المطار الأخرى بفضاءاتها المتنوعة جناحين امتدا طولياً عن يمين القاعة الرئيسية وشمالها. وتشمل فضاءات الجزء الايسر من المبنى، على   مدخل المسافرين القادمين وفضاء إجراءات الجمارك والجوازات. وثمة قسم مخصص للحجر الصحي في هذه الجهة ايضاً. وعلى يمين الداخل يوجد مطعم يرتبط بمطبخ المطار الرئيس. ويعزل المصمم خطوط الحركة Circulation  المتنوعة بواسطة مداخل خاصة عديدة: فدخول المسافرين المغادرين والمودعين يتم عن طريق مدخل القاعة الرئيسية، ودخول وخروج الطيارين عبر أبواب خاصة بهم ، وثمة أبواب أخرى تستخدم لتقديم الخدمات الضرورية لمبنى المطار.
    يقع الفندق في الطابق الأعلى، اذ ان مبنى المطار يتكون من طابقين، وتمتاز غرفة نوم الفندق بالخدمة العالية نسبياً، من خلال وجود حمام ومرافق خاصة متصلة مباشرة بكل غرفة من غرف الفندق. ويعتمد مخطط الفندق على نظام الممر المركزي Central Corridor System   فالغرف تقع على جانبي الممر الداخلي وهذه الغرف تطلّ من الجانبين على شرفتين ممتدتين بامتداد جناحي الفندق. وقد وظف الطابوق المحلي الأصفر، من قبل المعماريين، للحصول على إحرازات وتأثيرات معمارية وفنية معبرة، ناجمة جراء الرصف المتباين له على واجهات المبنى. هذا وقد استخدمت المادة ذاتها كقوام انشائي أساسي وفق نظام الجدران الحاملة. اما التسقيف، فقد تم بواسطة أسلوب المقاطع الحديدية مع الطابوق " الشيلمان" Jack Arching  ما عدا القاعة الرئيسية فقد سقفت "بالجملون" Truss للحصول على فضاء كبير نسبياً. (يصل مقاس مجال Span القاعة الرئيسية في مطار البصرة (وبغداد ايضاً) الى حوالي 11 مترا).
    لا يذهب المعمار بعيداً في مهمة تنطيق كتل المبنى والتعامل معها تصميميا، فثقافته "الكلاسيكية" المتجذرة، وهيمنة "المزاج" المحافظ في الخطاب المعماري الإنكليزي وقتذاك، لا تؤهله ان "يبتدع" ما ليس به من طاقة، الامر الذي افضى لان تكون أساليب معالجاته التصميمية للمبنى معتمدة اساساً على "اظهار" طبيعة الاحياز المصممة وتبيانها في الواجهة. بيد ان ذلك لم يكن عائقا كبيرا في إكساب مبناه نوعا من "بهاء" فني وجمالي، متأتٍ، بالأساس من توظيف مهاراته المهنية العالية في حسن اختيار التفاصيل المتنوعة واصطفاء أماكن تواجدها. نحن هنا، امام مقدرة عالية، مقدرة "كلاسيكية"، ترفع من شأن المنجز التصميمي المجترح، وتجعل تأثيراته الجمالية، مرتهنة بالقيمة "التكتونية" Tectonic  النابعة من حضور الانشاء واساليبه التركيبية! ثمة حركة إيقاعية واضحة تخلق في واجهة المبنى، عن طريق حضور مفردات تصميمية ذات هيئات عمودية، تبرز الى الامام، بمحاذاة "خطوط" افقية تنجم عن توقيعات احياز المطار الوظيفية في الطابق الأرضي، وشرفات فضاءات غرف الفندق في الطابق الأعلى. وهذه المفردات الخاصة والمتميزة تصميمياً، تؤشر مكانة واهمية تلك الفضاءات في التصميم المقترح، وفي ذات الوقت "تغلق" الحركة الايقاعية المنسابة التي تمنح خصوصية معينة لواجهة المبنى. جدير بالإشارة، ان جميع عناصر التزيين الداخلي (الانترير) Interior صممت الى مبنى المطار، خصيصاً، وبتفرد، من قبل مكاتب استشارية فرنسية مختصة بالتزيينات الداخلية، ما رفع عاليا من قيمة المبنى تصميما مسبغاً على تلك القيمة مزيدا من ترف وبهاء. 
    مطار البصرة (1935-1938)، المعماريان: "ويلسون"، و"ميسون". منظور الواجهة الامامية (رسمة المعمار).
    يكشف التكوين المعماري لمطار البصرة توقا واضحا من قبل المصمم لإكساب مخطط المبنى شكلا معبراً يقترن في مخيلة المسافر بالحدث الفريد وهو الطيران! ولذلك فهو يختار لكتلة المبنى ومخططه شكلاً يكاد يشبه صورة الطائرات الأولى. وهذا التوق يؤكده المصمم من خلال شكل القاعة المركزية وموقعها وكذلك تصميم نهايتي بناية المطار اللتين يعالجهما وكأنهما نهايتان لجناحي طائرة! وهذه المعالجة التصميمية، قد تبدو معالجة شكلية Formalism  محضة، على اننا نعتقد بان الموضوعة المعمارية كمطار، تستوعب الركون لمثل هذا الشكل الفني، وقد قام، والشيء بالشيء يذكر، المهندس المعماري "ايرو سارنيين" باختيار شكل طائر كبير يتهيأ للإقلاع لمبناه مطار تي، دبليو. أي، الذي صممه في مطار كندي (1956-1962)، بالقرب من مدينة نيويورك. كل ذلك جعل من عمارة مطار البصرة لتكون إحدى الاحداث النضرة والأكثر بهاءً وتميزاً في عمارة مدينة البصرة وفي مدن عموم الإقليم الذي يخدمه ذلك المطار. 
    و"جيمس موليسون ويلسون" المعمار الرئيس للمطار، مولود في 28 نيسان، عام 1887، في مدينة "دندي" بإسكتلندا في المملكة المتحدة. انهى تدربيه المعماري في مكتب محلي لمدة خمس سنوات، ثم عمل ، لاحقا، مع مكتب استشاري لندني. في سنة 1908، رافق المعمار الانكليزي المعروف" لاجنس" الى الهند، وبات، حينذاك، أحد معاونيه الاساسيين في تخطيط "مدينة نيو دلهي" وفي تصميم مبانيها المهمة. انضم الى القوات الانكليزية التي دخلت العراق، وعين سنة 1918، مديرا لدائرة الاشغال العمومية التي رأسها لحين رجوعه الى بلده بريطانيا سنة 1926. صمم كثيرا من المباني المهمة، التى اعتبرت عمارتها، كنماذج مؤسسة لعمارة الحداثة بالعراق؛ منها "مستشفى مود التذكاري" بالبصرة، 1922، ونادي العلوية (بطلب من مس غروترد بل)، ببغداد، عام 1921. وجامعة آل البيت في الاعظمية (1922-1924)، وقصر الملك فيصل الاول (لم ينفذ) 1927، والميناء الجوي ببغداد (مطار المثنى) 1931، (بالاشتراك مع ميسون)، وكنيسة سان جورج في كرادة مريم (1936)، ومحطة قطار الموصل (1938)، والمحطة العالمية بالكرخ (1947-1952). وغير ذلك من المشاريع المهمة. □□

    د. خالد السلطاني
    معمار وأكاديمي
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media