نُصُوصٌ وَشُرُوحٌ (2)
    السبت 23 أبريل / نيسان 2016 - 22:20
    نزار حيدر
     هذا بالنسبة للفقهاءِ والمحدّثين والرّواة.

       ذات الامر ينطبق على الفلاسفةِ والمتكلّمين.

       يقول الباحث المغربي الدكتور محمد عابد الجابري في كتابهِ [تهافُت التّهافت؛ إنتصاراً للرّوح العلميّة وتأسيساً لأخلاقيّات الحوار] بهذا الصّدد:

       [هذا الطّابع الايديولوجي وهذه الازدواجيّة الصّريحة نجدهُما، أَيْضاً، عند الغزالي الذي كفّر ابْنُ سينا ومن ذهب مذهبهِ في ثلاث مسائل، وبدّعُهم في سبع عشرة مسألة، تشكّل في مجموعِها مضمون ما أعطاه ابْنُ سينا في كتابهِ (الشّفاء) قسم الإلهيّات، لمن سمَّاهم بـ (العامّييّن من المتفلسِفةِ)].

       ويُضيف؛

       [ليس هذا فحسْب، بل انّ الغزالي يعترف بأَنَّ نيّتهُ لم تكن، يوم كانَ الشّخصية (العلميّة) الاولى في بغداد، على عهدِ الوزير السَّلجوقي نِظامُ الملك الذي استدعاهُ اليه، وهو العهد الذي الَّف خلالهُ كُتبَهُ الأيديولوجية، وفي مقدّمتها (فضائح الباطنيّة) و (تهافُت الفلاسفة) انّ الغزالي يعترف بأَنَّ نيَّتهُ فيما كتبَ في ذلك العهد لم تكُن (صالحةً لوجهِ الله بل باعثَها ومحرِّكها طلبُ الجاهِ وانتشار الصّيت) ويقول (وكنتُ في ذلك الزَّمان انشرُ العلمَ الذي به يُكسَبُ الجاهُ وأدعو اليهِ بقولي وعملي وَكَانَ ذلك قصدي ونيّتي)].

       نحن، اذن، نتعامل مع الشّروح ولا نتعامل مع النّصوص، الشّروح التي دوّنها وعّاظ السّلاطين وفلاسفة البلاط الَّذين خلطوا أموراً كثيرةً في مقدّمتها المصالح الشّخصيّة التي لا يجدونَها عادة الى في البلاطِ وعلى موائد الخلفاء والسلاطين والامراء والحُكّام، ليقدّموا لنا كوكتيلاً عجيباً وغريباً لازالت الأجيال تتغذّى عليه وتبني عقليّتها على مادّتهِ! كثابتٍ لا يمسُّهُ الا المطهّرون وصحيحٍ لا ياتيهِ الباطل من بين يدَيهِ ولا مِن خلفه!.

       انَّ المدقّق في (النّصوص) التي يتلوها الارهابيّون وهم يهمّون بذبحِ ضحيّتهم أمامَ عدسةِ الكاميرا مثلاً او يُشعلون النّار فيها وهي حيّة داخل قُضبانِ قفصِ الحديد او يُسيلون دمَها برَصاصةٍ يُطلقونها خلف الرّأس، سيلحظ انّها شروحُ مشايخهم ممّن يُسمَّونهم بالسّلف، فهي ليست نصوصٌ ابداً وانّما شروحٌ في حقيقة الامر، دوّنتها الكتب في زمانٍ ومكانٍ وظرفٍ وحاجةٍ سياسيّة معيّنةٍ، يوهِمون بها المشاهد ويضلّلون بها المتلقّي ويغسلونَ بها ادمِغةِ المغرّر بهم من صغار السّنّ تحديداً من البسطاء والجهلةِ والمغفّلين!.  

       ثانياً؛ تأسيساً على ذلك فانّ كلّ الشّروح التي يوظّفها البلاط على مرّ التّاريخ (الاسلامي) هي شروحٌ سِياسِيَّةٌ وليست دينيّة، الغرض منها إستخدامها في الصّراعات السّياسية والصراع على السّلطة والنفوذ، ولتصفيةِ الخصوم وتبرير العنف الذي يستخدمهُ الحاكم ضدّ المعارضين.

       يحدّثنا التّاريخ مثلاً انّ الطّاغية مُعاوية بن هند آكلة الاكباد أنفق آلاف آلاف الدّنانير والدّراهم لـ؛

       ١/ تفسير النّصوص من قبل فقهاء البلاط من الذين باعوا دِينَهُم بدنيا غيرهم، بما يخدم سياساته الارهابيّة.

       ٢/ إختلاق الأحاديث والرّوايات في ذكر فضائلهِ.

       ٣/ طمس الأحاديث والرّوايات وأسباب نزول الآيات بحقّ أمير المؤمنين عليّ بن ابي طالب عليه السّلام.

       ٤/ إبتداع النّظريّات الفلسفيّة والكلاميّة المُشرعنةِ بالرّوايات الموضوعة والشّروح المكذوبة، لإعطاءِ سياساتهِ (الدِّينِيَّة) الجديدة المتناقِضةِ مع قِيم ومبادئ الرّسالة السّماوية، هالةً من القُدسيّة.

       وهكذا تبلورت الشّروح التي تحتاجها السّلطة الغاشمة لتّنتِجَ تُراثاً و (شريعةً) هي ابعد ما تكون عن روح الرّسالة ومقاصدها.

       يَقُولُ المفكّر اليمني الاستاذ زيد بن علي الوزير في كتابهِ القيّم (الفرديّة؛ بحثٌ في أزمةِ الفقه الفردي السّياسي عند المسلمين) بهذا الصّدد؛

       [ويُخيّل إليَّ انّ رفض عُثمان للتّنازل عن الخلافةِ قد خالف رأي الأكثريّة الموجودة في المدينةِ، وساهمَ في تنميةِ الحقّ الالهي لخليفة المعارضة، او لملك الحُكم.

       وهكذا تمثّلت فكرة الحقّ الالهي في القميص الالهي، وظهرت لأوّل مرّة أسنان الدّولة الدِّينِيَّة لتطحن بعد قليل نظام الامّة بدونِ رحمةٍ.

       انّ قميص الخلافةِ هذا هو نفس القميص الذي رفعهُ مُعاوية على المنابِر ليُحرّض النّاس على الانتقام للخليفةِ الذي رفضَ ان يخلعَ قميصهُ، وهو نفس قميص المصاحف التي رفعها مُعاوية على رؤوس الرّماح في صفّين عندما سَمِعَ صهيل خَيل النّخع وهي تقترب من خيمتهِ.

       انّ هذا القميص سيتحوّل شعاراً مدوّياً للخلافةِ الإلهيّة عندما يُعلن مُعاوية وعليهِ قميص الفتنة (انّهُ خليفةُ الله في الأَرْضِ، وانّ مال الله مالهُ يصنعُ بهِ ما يَشَاءُ ويضعهُ حيثُ أحبّ، وقد حاربَ علياً -رَحِمَهُ الله- بالمالِ، فكان يشتري بعضُ اصحابهِ بالجوائز الضّخمةِ) ''طه حُسين: الشّيخان ص ١٨٠'' عندئذٍ فقط قامت الإمبراطوريّة].

       وعلى ذكرِ سيرة (قميص الفتنة) المشؤوم دعنا هنا نُقارن بين (خليفتَين) مقتولَين، الاوّل هو عثمان بن عفّان الذي وظّف (انصارهُ) الشّروح لشنّ ثلاثةِ حروبٍ متتاليةٍ على الخليفة (الرّابع) أكلت عشرات الآلاف من الصّحابة والقرّاء والتّابعين، قادت الاولى منها (أُمُّ المؤمنين عائشة) ومعها عددٌ من كبار الصّحابة من أمثال طلحة والزُّبَير واضرابهُم.

       امّا الخليفة المقتول الثّاني فهو أمير المؤمنين علي بن ابي طالبٍ عليه السّلام الذي وظّف هو واولياء الدّم النّصوص لحقن دماءِ المسلمين عندما أوصى الامام (ع) ولدَيه سبطَي رسول الله (ص) وسيّدَي شباب أهل الجنّةِ الحسن والحُسين عليهما السّلام بعد تعرّضهِ لضربةِ المجرم ابْن مُلجَم المسمومةِ القاتلة في محرابِ مسجد الكوفةِ؛

       {يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لاَ أُلْفِيَنَّكُمْ تَخُوضُونَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ خَوْضاً، تَقُولُونَ: قُتِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ.

       أَلاَ لاَ تَقْتُلُنَّ بِي إِلاَّ قَاتِلِي.

       انْظُرُوا إِذَا أَنَا مِتُّ مِنْ ضَرْبَتِهِ هذِهِ، فَاضْرِبُوهُ ضَرْبَةً بِضَرْبَة، وَلاَ يُمَثَّلُ بِالرَّجُلِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (صلّى الله عليهِ وآلهِ) يَقُولُ: "إِيَّاكُمْ وَالْمُثْلَةَ وَلَوْ بَالْكَلْبِ الْعَقُورِ"}.

       وهذا هو على وجه الدّقّة الفرق بين النّصّ والشّرح، الاوّل يحقن الدّم بِالْحَقِّ والثّاني يُبيحهُ بالباطل، الاوّل يحمي الامّة من الفتنةِ بِالْحَقِّ والثّاني يُثير الفتنة بالباطل، الاوّل يصونُ العِرض بِالْحَقِّ والثّاني يهتك السّتر بالباطل، على حدّ وصفِ أَميرِ الْمُؤْمِنِينَ (ع) لجند المرأة في حربِ الجملِ بقولهِ؛

       فَخَرَجُوا يَجُرُّونَ حُرْمَةَ رَسُولِ الله (صلّى الله عليهِ وآلهِ) كَمَا تُجَرُّ الاَْمَةُ عِنْدَ شِرَائِهَا، مُتَوَجِّهِينَ بِهَا إِلَى الْبَصْرَةِ، فَحَبَسَا نِسَاءَ هُمَا فِي بُيُوتِهِمَا، وَأَبْرَزَا حَبِيس رَسُولِ اللهِ (صلّى الله عليهِ وآلهِ) لَهُمَا وَلِغَيْرِهِمَا، فِي جَيْشٍ مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلاَّ وَقَدْ أَعْطَانِي الطَّاعَةَ، وَسَمَحَ لِي بِالْبَيْعَةِ، طَائِعاً غَيْرَ مُكْرَه، فَقَدِمُوا عَلَى عَامِلِي بِهَا وَخُزَّانِ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِهَا، فَقَتَلُوا طَائِفَةً صَبْراً، وَطَائِفَةً غَدْراً}.

       يتبع

       ٢٢ نيسان ٢٠١٦

                           للتواصل؛

    E-mail: nhaidar@hotmail. com

    Face Book: Nazar Haidar

    WhatsApp & Viber& Telegram: + 1

    (804) 837-3920
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media