قصة قصيرة .. نصف مجنون
    الأربعاء 27 أبريل / نيسان 2016 - 06:34
    حسن مروح جبير
    قصة قصيرة ـ فازت بالجائزة الأولى لمسابقة رونق الإبداعية المغربية / 2015

    صمتوا وحل بهم دوار
    ماذا سيبقى من تراتيل المعابــــــد
    حين تدخل في حناجرمنشديها النار

    حميد سعيد
                                                 (1)
                                                         
        عندما   اضمحـل تماما ً، بعد أن حطت الحرب أوزارها ، وعدت إلـى قريتـي  بخفي حنين ، ما تبقى من ذلك الشوق المُجْهــِدْ  إلى حياتي الأولى ، ولاح  في الفراغ  وجــه القريـة مكغهرا، ومتلاشيا مع امتداد الأرض المجدبة ، انصرفت بكليتي إلى تأمل ذلك التـل، فلاحَ مهيبا ,مغتبطاً بسمرتــه ، وشـموخ قرونه ، بهرتني ظلاله المنكسرة ، وخطوط منحنياته ، أجل مثلما بهرتنـي ، وأغوتني سهيلة  قبل زواجي منها . وكان للاحباطات المتوالية على سفوحه الكسلى سحرا ً، ووقعا ً ، وهنـــاك فقدت مداســي عند نهايتــه ، تلك التي تمـــاهت على اكــراه مع أرض الحقل  المحدق به بتهيب ، ولا أني ألمحـه بأنف أفطس ، ذلك يترآى عندمــا تعتلي الشمس متن الأفــق .وأيضا ، يترآى لي ، ولهلال الوغد أننا نشم رائحة أعطاف الأجداد ،التي استروحتها في البدء، فلم أميزها عن رائحة جداجد الحقول النافقة ، وهم في قبورهم المندرسة ينتظرون القيام مرة أخرى لينظروا ما حل بنا من خراب .

         الساعة السابعة ، وثلاثون دقيقة ، ودقيقة ، وهلال الدبق ، الكسول ، لم يُسمــعْ له نـداء ، كذلك لم تُسمع الكلاب كأنها تستقبله بنباحها ، والكلب الكسول يعلن ، دائماً عن قدومه بنبـاح جريء ، ومتواصل على غير عادته ، حتى قال في يوم ما ضاحكا ً: هذا كلب بغيض ..إنه دون سائر كلابك القذرة يكرهني .. إنه أكثر منهن لؤما إذن ! .

          ها هو قرص الشمس يلوح فوق خط الأفــــق ،  بين القمتـــين . وهنــــاك ، ثمة فارس لــم يتمكن البصر من تحديد ملامحه ،يميل إلى الأمام بجسده فوق جواده ،يتبعه مهـر، وخلفهما موّهَ القتام خط الأفق ، وغبرة تسوقها بقايا ريح سموم في هذا الوقت المتطرف من شهر آب .

        لقد قال هلال إنه يأتي مبكرا ً! فليس ثمة ما يفعله ، ولكي يحظى بفنجاني قهوة ساخنة تغلي في ابريق فاحم السواد ،ورثته عن جيلين،عاشا محنتهما بنمط آخر. ثم بالتالي كأنه نسي حلمـه الأخير برؤية الأميرات السومريات ، وقد ألمحت له إنهن كالحور، ذوات جمال نادر. ولمّا يتناول هلال قهوته ، يتهيأ بعدها ليصيب كوب شاي غلي فوق قطع جمر متوهجة في تأن بالغ ، ليكون ، بعدئذ ، بالغ الحماس للإصغاء ، أولا ًالى ( صوت الحقيقة ) كما سمّاه ،ثم الإستعداد بعد تناول طعام العشاء،للسيرمعي عبرالحقول،والسواقي الجافة باتجاه التل الأثري،والتقرب منه لمشاهدة  حفلهم المهيب ، الذي لم يحظ هنيدي ، وأحفاده برؤيته ، ليصغي الى أناشيد مواكبهــم ، ويتمتع برؤيتها الساحرة ، وهي تتبع بعضها البعض في كراديس طويلــــة ، وتمضي حتــى يبلــغ الليل ساعات الفجر الكاذب ،أو ربما حتى تسمع أصوات صأصأت طيور القـبّر ، وهـي تستعذب نسائم الغجر العليلة ، وتتعجل الصباح لنهار آخر عساه يكون أكثر اشراقا ً ولطفا في برية سومر .     
     مالَ العـزب الكهل تأخــر، ومنزله قريـب من الزاوية الشمالية الشرقية من القرية ، التي     رسمت قرنتها المنكفأة نخيلات تسع ، وشجرة توت باسقة ، وارفة الظلال صيفا ؟ . 

          بعد رحيـل جارنا شعبان عن داره الى الخــلاء الواقع خلف مدرسة القرية  بدا للناظر مقدار تفاهة الزقاق المتعرج ،وكيفية انتهائه في مســـاحة ضيقة ، انتهكت حدودها نباتات العاقــــــول بخضرتها الزاهية ، وازهارها الحمر ، الصغيرة ، وبدأ المنزل، ونافذة سهيلة ،كأنهما استقبـــلا
    الريح الشمالية الغربية ، أو القادمين عبر الحقل المحصور بين المرتفعين ،ويرى ، أحيانا ً كأنه يمنح وجهه،في ارتخاء،واستسلام لمغيب الشمس التي ،كثيراً ما يُرى قرصها يرســـل أشعـتـــه الباردة الى نافذة سهيلة ، أو يرسل سيلا ًمنها الـى أسكفة الباب المثلومة ،قبل أن يضيع في أفق كدر، أفقدت الريح السموم ، طيلة ساعات النهار الطويلة ما علاه من بهاء .

        أيه هلال ، كأنك لا زلت تتمتع ببقابا قيلولتك تحت ظلال النخيلات أيها الهتر . وهذه رائحــــة البن ، على أية حال ، ستحملها الريــح إلـيك ، حتف أنفك ،أليس شـــوقك إلــى مجلسـي لا ينــي يهمس لك بالنهوض ، والإستباق الى طريق البن ، ورائحته المدوّمة ؟ . 
                                               
                                                                            ( 2 )                                       

        أف!..ما بي أشكو الكسل هــذا العصـــر ؟ هــــذه رائحة البن ، بلا هوادة ,تدعوني ، مختلطـة برائحة أعواد الحطب ، وصوت نشيد، آت ، من الغيب , يداعب الأماني القديمة بلا جدارة :

                          فقراء سومر يبدأون نشيدهم ليلا ً
                          وإن عاد النهــار .....   

             ليس من شك أنه أعّد شايه أيضا , وقعد منتظرا ، قلقا ، وأنا لا أصدق ما قال البعض عن شاكر؛ ليس لأنه صديقي الأقرب ، وليس لأمر ثان ، وكنت فارقته سنوات الحرب الثمانية، ولــم أره إلا لماما ً، رغم أننا فـــي قرية واحــدة ، لقد رأيته يفــكر لا كما يفـكرالآخرون الذين أتـهمـه  البعض منهم بالجنون ، ثم انعطفوا ، وهمسوا همستهم ، فسمعت بوضوح : بل  نصف  مجنون  ..نعم ، نصف مجنون ! .
          
           لا أدري إن كان شاكر رآهم فعلا ً، وأنا الآخر لا أدري هــل كان هؤلاء  يقيمون احتفالهــم ليلا ً،يسبقه في الغروب ظهور (الحارس الأمين )  متربعا ً الحدوة كأنه راهب توسط صومعتــه بخيلاء ،وكانوا أشبه بكائنات أو أرواح ، أوجيل  من الجن ، احترس سـكان القريـة السابقـون  ،تماما ً،من الدنـو من التل فــــي سـويعات الغروب ، أو ليـــلا ً علـى صدى تحذيرات هنيــدي ، ومن سبقه ؟. والفضول  يدفعني إلى مجلس صاحبي ، أو هو الشـــوق إلـــــى رؤيـــة مــواكب الغابرين ، وإلى تصفح  وجوه نسوة ، أصبحن ،رغم انصرام عهود سحيقة على موتهـن ، مثلا ً  للحسن ، والملاحة ، وهذا شاكر لا زال يؤكد ما رأته عيناه ، ويريد بي شـاهدا ً، ومعزرا ًمثلمـا خامــرني الشك ، وكان قال ، في اصرار لم أعهده فيه سابقا ً: امرؤ واحــد يكفي ، فلقد انطلت على الأجداد ,والأحفاد معان أقرب إلى السمو عن حيواتهم ، ولعله أشار من طرف خفي ، إلى نظراتهم  الآسفة ، وهـم يستغرقون في تأمل(اليشان) في سويعات الغروب الكسولة،والنسوة لم يتورعن عن اطلاق عويلهن في سويعات الفراغ ،ولا يكدن يكفكفن دموعهن ،كلما تأملن ذلك  (اليشان) فهناك ثوى الأحباب دون أن تقوم لهــم قيامــة ، وشاكر كان لقـّب (اليشان ) : منزل  الأحباب ،فكادت التسمية  تذاع ، إلا إن المسنين من الشيوخ ألقوا حجـّتهم ، دون سبب يذكــر  مستنكرين .
         أف ..ها إني أستروح رائحة القهوة . وها هو ظل النخلات الزاحف إلــى الشرق يعـلن عن موعدها ، كما يشير ضوء الشمس المارق إلى المساحة الرطبة تحت أقدام الأشجار، ورغم ذلك ،فأن ريح السموم لا زالت تشوي الوجوه ، وهاهي العصافير مكثت خاملة , واجمة .
                                           
                                                                    ( 3 )        
       
         أيها الكهل العانس ، هيء..هيء.. يخامرني الظن أنك قادم في الطريق ،أليس الريح حمـلت الى أنفك رائحة القهوة البرازيلية ،وها هي تغلي في أباريقها ،وهي ،أقسم بروح هنيدي ،طيبة المذاق،وقد قيل إنهم يأتون بالبن من البرازيل ،وقال آخر من اليمن ،خيل للبعض أنهم يذهبـون الى جزر الواق واق لجلبها إلينا ، فأين البرازيل ، أو اليمن من هذا اللغط  , والهراء ؟ .

        و..أبي سحق آلاف الحبيبات المقلية ، بأناة ،حّولها إلى دقيــــق ناعم بمطرقة ثقيلة ، وجـّرب زراعة حبيبات منها ،إلا إنـه منّي بفشل، وشعر بإحباط، ، فصرخ محتجا ً: لِمَ تنبت في البرازيـل واليمن، وقد زرعتها في أرض تنبت فيها الحجارة الصماء؟ ولما أحضروا له علبة (نسكافـــة)وكان في العقد الأخيرمن عمره  ،دحرجها بعيدا عنه ، وصاح مستنكرا ً،شاجبا : معنى ذلك إننا لن نصغي الى صوت رنين الهاون *1 .

        ابتسمت ،وخطر ببالي ،وكأني نسيتُ نعّت ذلك الصوت بـ ( المارش*2) بينماهتف أبي: تبا ً لهم  ما صنعت أيديهــم ، وكان أبي كجدي يرفض كل جديد يخّل بموازين القـــديم . لذلك بقـــي الإقتراب من التل العالي ، وفي سويعات الغروب ،أو الليل ، ضرب من الجنون ، فثمة أفـــواج ، وأفواج من الجن يصونونه ، ويحرسونه . لك الفدى من يجرؤ ، ببنادق صدأة ، بدائية ، الدنــو منهم ،وهم على نفير ، في مثل هذه الأوقات ؟. ولقد حدثنا هنيدي قا ل حدثنا ماشي ، قال حدثنا سعدون عن جده قال روى رمضان : إن المعتوهيـن وحــدهم ـ ربمــا ـ يستطيــعون أن يخطفـوا أرجلهم في مثل تلك الأوقـات بجانب التل ، وقد فُقد صعب ،وناهي ، وغيرهم الصــواب ،حينمــا اعتقدوا أنهم يملكون ، الشجاعة لكي يفعلوا ذلك ، قال أبي : لك الفدا : لا زالوا حريصيــن على الاحتفاظ بالحجرين *3 وهم يملكون أكوازا  لا تحصى .وأنا اقتربت منهم رغم الصداع الشد يـد في رأسي ،وقمر قريتنا كان بدرا ً،توشح بهالة حزينة ،وكان توسط السماء .وعلى هـدى وصايا ، واحتراس ، وايحاءات أثمرتها رؤى ، وتجليات ، تلفعت من رأسي ،حتى أخمص قدمـي بإزار صوفي ثقيل ،زحف ذيله كظل خفيف ورائي ، وتقدمت ،بلا وجـل ، ،وغبت فـي الحقول لأرى ما رأيت ، أو لأرى ما كنت أتوق إلى رؤيته .

         ويحك هلال أقبل ، فأنا،لا زلت أعهد فيك جرأة، وحماس لاقتحام دوائر الحراس، لترى كـيف يقيمون حفلهم المهيب ،وستسمع صوت موسيقى لم تُسمع من قبل ، فقد سمعته متباهيا ً، رغـم وقعه الشديد،حتى خيل لي أن القرية استيقظت على صوت وقع السنابك،وضرب الصنوج،ووقع الدفوف، وأنغام القيثارات العظام .إنك ـ بلا ريب ـ سترى كما أرى مرور مواكبهم طويلة بهيجة  كنت ،أي هلال،اعتقدت أنني أهذي ،كأنك لم تصدق ما رويته لك ، ولكنك ،بعد تفكـــــر، وترو ، نفيت أن يكون ما سمعت ، مأخوذا ً من هلوسات أحلام ، ورؤى ، أســــداه الصداع الذي أعاني منه في الليالي المقمرة ، وصدقت ما رويت ، بدليل أنك حين استقيت الفنجان الثالث من القهوة الساخنة ، هتفت ، بعد ابتسامة ، أنك إستروحت في المكان رائحة هنيدي ،وماشـي ,وســعدون، هؤلاءالذين شملتهم بدعواتك،وأنشأت ـ راويا : كانوا أفذاذا فحرسواالتل بأفكارهم،وقد استنكرت  ما قلت ،أي حين وكدت ،أنهم حرسوه بخزعبلاتهم ،وأشرت، في عفاف،الى اليشان هاتفا:أليس هم الأحباب ، وأطرقت ، يثقل رأسك الذي وخط الشيب سالفيه هـّم غريب ,أورثتك الحرب إياه.
    ـ أيــه .. ألا زلت نائما في ظلال شجرة التوت العاقر ، أيها الأحوص ؟ .                                               
      
                                                   ( 4 )

         قالوا, وقيل: إنه رجل بنصف عقل ،وإلا لم هجر فراش سهيلة ، زوجه الحسناء ،أكمل قائـل أنه نصف مجنون ، وشاكر كما يعرف سكان القرية ،تلقى جرحا ،في قرنة رأسه الأيمن ،صنعته شظية ، بعد انفلاق قنبرة هاون ثقيل في الموضع ، وكاد يؤدي بحياتــه ، وكـان يتهيـــأ لمغادرة ملجأه صباحا ً في أحد سفوح مرتفعات الشرهاني الحدوديـة . تلقــى علاجا  سريعا ، وعنايــــة حسنة ،تمتع بعـدها بمأذونية امتدت لستين يوما ،رأيته معصوب الرأس :كأنه يعتمرعمة ًلا يكاد يبرح منزله،بعدها وجد نفسه ـ من جديد ـ في تلك المرتفعات الشاحبة،يحدق مستغربا  ًفي بعض الوجوه الجديدة في حظيرته ، بعد أن غاب عنهاعدة أسابيع مرت مع الألم، والكوابيس ، وبيــن دموع سهيلة ، تأمل التلال ، وأصغى الى أصوات المدافع ، والرصاص من جديــد ، فلغب فـــي بكاء طويل،وانزوى في ملجئه الشبيه بجحر خلد ، وواصل العويل ،وسمع كأنه عواء ذئب مـدو يتردد  في سهوب حمرين *4بلا طائل  .

           لم يدر كيف أمسى شاكربنصف عقل،أو نصف مجنون مثلما قال البعض، و شاع هجـرانه سريرسهيلة ، ووجـــدَ يتحدث باستغراب عن التل ، ومن ثم لوحظ كيف انخـرط في تأمـل تينك القرنتين , الناتئتين  ، وبدا يميل إلى العزلة ، ويهرب من الآخرين .

           إلا أني وجدته سوياً ، وسمح لي أن أتحسس ، بسبابتي قرن رأسه لأعثر على أثار الجرح القديم ، وكان التأم على هيئة بروز متعرج . وقد رأيته يميل إلى تناول القهــوة بأفراط ،ولا يني يستذكر أسماء أجداده ( الذين عاشوا بلا ملذات كالأنعام ) وتكرر إسم هنيدي ، وماشي ، وثالث إسمه سرحان .وفي أحاديث  الضحى حول ابريق القهـوة ، اكتشفت ، أيضا ، ميله إلى القراءة  والاستغراق في تامل التل ، أو اليشان مثلما يسميه ، وفي سويعات الغروب الأولى يمعن النظر في ما يسميه ( الحارس الأمين) إلا أنه تعرف اليه عن كثب ، بعد استحواذه  على ناظـور ، لا يكف يمسح زجاجتيه البنفسجتي اللــون بورق سجائر التبغ في سويعات المساءات الكئيبـــة , فالفى عندئذ صورة الحارس على حقيقتـه، ولم يتجّل ،بعد ذلك للرؤية كراهب متباه في القمــة ، يتمتع بالهدأة . والهيبــة فــي لحظة الغروب ، وكان روى لي كيف منّي بخيبة ،وكيف أشعرتـه الحقيقة بالاحباط ،وهو يُلمحه يفرش جناحيه على امتادهما،ويهيم في الحقول الجرداء،متخليا  , تماما ً، عن وقاره ، وصومعته .
                                                        
                                                  (5 )

           حدثني مهدي ، قال حدثني منسي ، قال حدثني مبارك قال،مثلما نقل الرواة: يعـــدو هنيدي مثلما يعـدو وعل . والعهدة على الرواة الأوباش بلا إستثناء .                    

         في البدء قطعت الحقل المجاور لنافذة حجرة سهيلة المطلة بوجه منحسر على طرف الباحـة بخطى متلاحقة ثم هرولت سالكا طرقا ضيقة تحفهـــا الأشـــواك ، وكان الحارس يلوح متوحــدا كراهب مخلص في صومعته ،مرتدياً عباءتـــه الصــوفية السميكة ،كان ذلك قبل أن أراه من خلف عدستي المنظار السميكتين ،فلم أصدق عيني ، قلت أسعى إليــه ، وليكن مصيري كمصير ناهي الذي فقد رشــــده ، و صوابه ، أو كمصير صعب الذي شفى بإعجوبة من داء غريب ، إلا أنه لم يعمّر طويلاً . ولما مّس قرص الشمس متن الأفق ،ركضت مثلما ركض هنيدي ،وهنيدي هــــــذا وللتوكيـد ، يعـــدو مثلما يعـــدو وعل ، ويبدو للناظر كأنه يحّلق ،أو يطير ,والعهدة ، بلامؤاخذة على الرواة أيضا ً . وارتقت بي قدماي سفحـأ ً معفرا ً، بـدا ثراه كرماد ناعم،تطاير، كأنه يتمزق نتفا ً إلى الجهات الأربعة ،بينما سددت بصري الى قرنـة التل المائلة إلى جنوبه ، المتراءي من منتصف الحقل الأول كحدوة حصان شوهتها الأنواء ،إلا أني رأيته ينهض بذاته ،يفرش جناحيه الواسعين على امتدادهما باراحة متباهية رصينة ، ويحلق في الأعالي ،ثم يهبط هبوطا ً سريـعا  ليغيب في ظلام الحقول ، بينما ارتقيت الحدوة ، وعثرت على بقايا طعامه ، وفضلاته .

        أطلقت قهقـة تناهت في الحقول ، مسعورة ، سمعت كعواء موحــش ، مريب ، امتصه ثرى الحقول المسبخة ،ثم مات مع ما تبقى من الضوء ،وبهجة الانتصار المزرية ؛وعدت وقد بهـتت صورة الحارس الأمين في حدقتي ،وكأني فتحت نافذة صغيرة فــي عالــم الأوهام ، والخيـالات  ،وجدت صورتها،أو شكلها ،مع هيبتها الفخورة في رأسي،منذ فجر بعيد،وقد رفــّت فوق وجهي  ابتسامة جافة ، كان لا زال مذاق القهوة المّرة يذكرني بها . وكانت بدت قرنة التل أقل سموا ً،أو سحراً في المساء،وتراءت لي، كسمو،وهيبة مرتفعات الشرهاني المبطنة بالهواجس،والظنون ،والخيالات الفاترة ، والعهدة أمستْ ليس على الرواة ، بقدر ما كانت علـى الواقع الفاسـد الـذي نحياه دون أن نحرك ساكنا ً،وعلى من يتناقل مثل تلك الأحاديث في حقب الزمان القادم،ويكفيني  أن هلال  سيكون أول المصدقين ! .. ويل له ؛ لقـد أخلف الوعـد ، وتلكأ في المجـيء !!.

                                                      ( 6 )                          
     
         المعقول ، واللامعقول توأمان يتمشيان ، بلا علامات فارقــة فـــــي حديث  صديقــي العتيــد شاكر الذي عاف سهيلة المليحة ، الباهية الحسن ، والفرع تنام وحيدة في سريرها ، والعهـــدة ، كما يرددهـا هو،بمناسبة،أو غير مناسبة ،على الحرب هذه المرة .  ولا أدري كيف وجد نفسـه ماخوذا ًباكتشاف أسرار مجتمعات عاشت في الزمان الغابر، وكما قال أنه معنّي بطرق الغياهــب ،واقتحام دروبهـا الخفية ،وفك الطلاسـم ،والأسرار،بينما هنيدي،ومن سبقه كانوا صنعوا الحذر من الدنو مساء،أو ليلا ًمن التلين القديمين؛ فهناك أرواح شريرة تخطف مساء،وتروح متربصة في رواح,ومجيء دائب ليلا ً،وإن التلين ما هما إلا موطنا ًلتلك الكائنات اللآمرئية،والشرّيرة ،أوهي أرواح هؤلاء الأهلين الذين ووروا فـي أعماق الثرى ، ووريت  معهم ثرواتهم الثمينة   من الحجرين ، واليواقيت ، واللآليء،والزمرد . قالوا خُزنِ في أكواز يحرسها زنوج مردة ،جفـــاة، يطلقون نظرات تقدح شررا ً، إلى جوار أفعى عظيمة ، وبشعة ، لها القدرة على التهام إنسان ، أوكبش ، وسحقه بين فكيها إن رام اجتياز الممر إلى قاعة الكنوز هذه .
                                               
        قال شاكر : تلك أقاويل تناقلها الرواة ، والتل الماثل أمامنا ليس سوى مملكة قديمـــة ،كانــت من أولى الحضارات في الجنوب ،اكتشفت المعادن،وفطنت بلباقة الى الكريم منها ،والعهدة على الرواة طبعا ً، بل على اللصوص الذين ذهبوا بـ ( كوديا ) إلى متحف اللوفر .

        إنك ينبغي أن تشهد بالعيان ، مواكبهم الغارقة بالنور ،وأننا سنراها معاً ، ستصغي إلى جلبة أصواتهم ،ووقع حوافر جيادهم،وهي تقرع صعيد المكان،ثم سنصغي الى أناشيدهم الجميلة،كما سنرى مواكب الأسرى تمرمرورا ً بطيئا ً أمام أرائك الأنوناكي ،وزوجاته الحسان . قلت أيشبهن في الحسـن سهيلة؟،زعق مندداً: كلْ خراء ،أنهن زوجات ملوك،وما أنا بملك ، ضحكت,وسقطت الى الخلف ، فسندني الجدار، وأكمل : ستراهم اقتعدوا الى جوار بعضهم في جلسة متغطرسـة ، ومتكبرة ،وعلى شيء ، مثلما يلوح للمتأمل ،من الالفة .ناشدته أن يسقيني مزيدا من القهــوة ،
    ثم قلت :
     - إنهم ياصاحبي يحتفلون بمجدهم حتى هذه الساعة ،وقدعاشوا في أزمنة غابرة .. يا لمجدهـم
    الذي لم يقم مثله مجـد !  أتراك ستصغي إلى النشيد الحبـور؟ . طاطات رأسـي ، وأتيت على ما تبقى من ثمالة القهوة الراكدة  في  قعر الفنجان .

          بسط كفـه ، وأطرق لثوان ثم قال دون أن يرفع رأسه :
    ــ كما ترى،عاشوا أحقابا طويلة في خواء ،وكسـل..أواه..مسكين أنت ياجدي،أي هنيدي رائع,  ومأفون في آن واحد.لكأنكم تنتظرون الهاما،يشبه رحمة.و(التفتَ نحوي)هلا سقيتك القهوة؟.
       رفعت كفي ممتنا ، وسألت :
    ــ كلا ..الهامــا ممن ؟.
        رفع جمرة بملقط  طويل ، وأرث سيجارته اللف ، ولم يهتم بالإجابــة ، وقذ ف قطعـة الجمـر المتوهجة ، وعاد يشمل التل بنظرة طويلة قلقة ، وقال بعد صمت :
    ــ أنظر ، إنـه على مرمـى البصر ، ليس سوى ميلاً بيننا  وبينه ، يبدو مهيبا ،  وظلاله مقترنــة بأسفله كألسنة أمواج ، تضفي سيادة مموهة عليه أنشأها الرواة الذين لا عهدة عليهم البتة .

        من نافذة حجرتي العريضة ،كان التل يتخذ تكوينه الجاد في الفـة وكان ملعب صبا زمان أدبر تلت أعوامــه سنوات كسولـة ، أعقبتها أعوام الحرب الخبيثة  ، وأيامها المبلبلة ! .

                                                  ( 7 ) 

         كل ما سمعته منـي انســه بعد لحظات ، وقد بحتُ بالكثيـر، لقد  اضمحــل ما تبقى من هــوى في القلب يوما بعد آخــر لقريتي هذه ؛ فبعد عام على وقف الحرب ، بدأت أعاني كسلا ً،وسأمـا مستمرين ، يشبه سأم أبي في سني حياته الأخيرة،وهو يلقي نظرة حزينة إلى الأراضي الميتة .

       من نافذة غرفتي السمراء ، العابسة ، كنت ، بلا هوى ، أسـتقبل غيثا انهمر،كأنه من ميازيب ،ولما أطلت الشمس،وأرسلت أشعتها من بين فرجة بدت كعين عوراء في السحب لاحت الأرض أكثر شحوبا ً،وعبوسا ، أطرقت خشية استفحال اليأس في صدري ، ولا أدري لماذا  أمســى ، بعد انتهاء الحرب كل ما تراه عيناي بائسا ً! . وحل الصيف ، وعصفت رياح السموم ، فتوارى الناس عن لهبها الحارق في بيوتهم الطينية ، أو فــــي الصرائف ، وكنت أتأمل الأرض ضحى  كل نهار بجفاء،وحلمت بجولة على حافة النهير،إلا أن كسلا نشطت حرارته فـــي احباط  همتي ، ولم أر إلا التل يغريني لتأملـــه ، كان لا زال يملك شيئا كثيرا من مهابته القديمـــة ، وأسراره أجــل ، كان فـــي  الواقع، جديرا بالتأمل ،ولو كانت الأرض امتدت مع إرسال النظر عبر الحقول ، فلا جدوى ترجى من ازجاء الوقت في ارهاق البصــر مع امتدادها  .
       
          ووجدتني ، يوما ما أتأمله لساعات طويلة ، فبات في إصرار قريباً من بيتنا ، ثم كأنـــه حط الى جوار نافذة سهيلة ؛ بهرتني ، عند سويعات الغروب ظلالــه كانت مّدت ألسنتها ، وداعــبت قضبان النافذة كأنها عصافير مزقزقــة ، وكانت سهيلة تذر نافذتهــا مشرعة للنور، والهــــواء  ،وكأنها تطرد الهواء الراكد الذي تعلقت فيه أنفاس الليل ،وبقايا النوم الكسول ، ورائحة الصرار. 
                                                                                                        
         بعد اكتشاف حكاية الحارس الأمين أصبت بما يشبه النكسة , وكان ظهوره فـي النهار يبعث على الإستغراب ،ولكنهم لا يفكرون في الاستحواذ على نواظير،أو يتمنون لوأنهم يملكون عيونا كعيني زرقاء اليمامة ، كان هذا لايطرأ في بالهـم ، ولا يبعث همّا من نوع ما ، وكنت مأخوذا في تنفيذ الرغبـــة التي أنقدتُ الى تنفيذها بغوايــة  تبـدو كغواية عشق جديد ، وفي أحد الأماســـي تلفعت بإزار له لون الحقول ، وتوجهت إلى التل ، مـعّللا لسهيلة ، خروجي في تلك الساعة إلـى لقـــاء هلال ؛ زوت المرأة مابين حاجبيها ، واستنكرت قائلة: ولكنها ساعة متأخرة من الليـل !.  قلت: إن هذا لا يعني لهلال شيئا ,لأني سأجده بانتظاري،ودهشت ، وهي تراني متلفعا بإزاري، ثم لم أكترث لشيء آخر ، تسللت بهدوء باتجاه الحقول تحت جنح الظلام ،وكأن ضحكة حزينـة وساخـرة تتبعني ،إلا إني مضيت لأصرف موهنـا من الليل هناك ،وكأن ثمة نـور يضيء اليشان بدائرة واسعة، وما حوله ،وقد تبعني كلبان ، وصوت بكاء سهيلة ، وبعد ثمانين ياردة توقـف أحد الكلبين ،وانقطع صوت بكاء المرأة التي  لا أدري ما يبكيها في تلك الساعة ،توقفت ،وكان الكلب يرفع أحد قائمتيه ، ويتبول فوق الأشـــــواك ،ثم رأيته ينصرف ، ويضيع في الظلام ،أما الآخـر فتبعني بخطوات حثيثة ، وكأني أنست الى صوت لهاثه خلفي مباشرة .

       توقفت عند حدود التل الأجرد ،فلاح أكثر ارتفاعا عنه في الحقل التالي ،وتناهى الى أذني من مروج بعيدة صوت يعوي في وحشة الليل ، خيل لي أنه انطلق من خلف الإيشان ، أو من أرض كان لهنيدي فيها مأرب ، ومعاشأ ، وهوى .اقترب الكلب مني ،وأقعى،فخيل لي أنه يدلي لسانـه الوردي ،ويحّد نظره باتجاه العواء ،رفسته ، فسقط على جانبـه فوق الأشواك :هل خفت ؟ ففـّر ،بعد أن اعتدل ، عدوا باتجاه نافذة سهيلة ، وقد تراءت فـــي الظلام ، كأنها ترفع فانوسها في وجه الليل عساها تراني أين ذهبت تحت إزاري .ورأيتني أتسلل في هدوء ، وحذر ، عبر أرض الحقل المجاور ، فضربت قدماي في تربته الناعمـة ، وكانت بورا منذ عام خلا ، كما يبدو أنهــم سيهملونها عاما آخر؛ لقد عاد الرجال من الحرب ، عودة الجنود العرب بعد نكسة 1967م .

        أيقظني صوت ايقاع دفوف،ثم مايشبه صليل سيوف،ووقع سنابك تدك صعيـدا صلدا،شممت ، رائحة غبــــار تصاعدت في الهواء ، فتحت عيني على وسعهما ، وأغمضتهما ، ثم فركتهما ، وفتحتهما في حذر،فكأن أضيئت دروب،ووجدتني متسّمرا ، وذاهــلا ، بين حارســين قزميــن ، متوثبين ، ،علت قاماتهم ما يشبه الرماح ،انعكـــــس لمع النــــور على حافاتهـــا ،وهنا تأمـلت قلنسويتهما ،المطرزتين باللآليء ،والأصداف الثمينـة ،وكنــت أجلـس القرفصاء أوالملم ُبعضي تحت الإزار لأزحف ، وقد مات صوت العواء فوق قلة اليشان ،أو قليــــلا الـــى جهــة الشرق . ،بينما أنار الضوء الباهر الدرب ، وفناء الساحــة التي لاحت تحت مساقط النـور كأنها دائريــة ،وهنا ارتفع  صوت الدفوف في ايقاع سريع ، أخاذ ، وتدفـق صوت تصفيق استحسانا ، وترآى اليشـــان قريبا ، وأنا أقترب كأميبا  فــــي العــراء ،أخشى النور المتوهج أن يفضحني ، ويتيح لعشرات الحراس الأقزام ، اليقظين اكتشافي بين صفوفهم ، وكانوا يقفون صفوفـــــا ، وسدودا دائرية تشبه الى حد ما تلك الخطوط الأفقية لمرتفعات لا تملك قسوة جبال . شعرت كأني في ورطة،إلا إني لم أرتجف فرقا ، ثم أصغيت معهم  الى صوت الدبـكات ، وكان يعلو كلما زحفتُ إلى قدام الحراس ، وتظاهرها  حّدة ، وسلطة ، وكأنها تنبعث عن بوق عظيم ، متعال ، أو من مكبّر صوت حديث ، وكفـوف تقرع صنوجـأ ، وهتاف شجاع ، باسل ، ثم تقــطع   الدربَ جوقة ، تتغنى بأصوات صبايا عذبة أمام أرائك بدت باذخة الروعة ، وكانت كما تأملتهــا  مكسوة بالجوخ ، أو الوبر الناعـــم  .

       أتقدم  في حرص من خلل صف آخر من حراس أشد يقظة ، ونباهة ، لكني لما هممتُ لأجتياز الطريق الضيق ، ارتبك الحارسان عن يمين ، وشمال ، وقفزا في حركة نزقة ، وشجاعة ، ثــم سـرعان ما سُمعَ يطلق صوت بوق طغى على جميع الأصوات؛ إنه صوت نفير ، هكذا ذهب بي التفكير ،قــبل أن أجدني مصعوقا ،وملقا أرضا في الأرض البوار المجاورة الى أقدام التل ،فتحت عيني ، لم أرَسوى الظلام يخيم فوق الأرض،والتل ، وكأنه يشمله بوافر من الرعاية ، والسلام ، وقد لاحت قنته ، أو حدوته طافية في مهابة فوق خط ضبابي أزرق . تثائبـــت ، وانتبهت الى صوت جداجد ،وصرار الحقول ، وصوت صفير أفاع راقَ لها النسيــــــم فخرجت تلتمس صيـدا . وكنت لا زلت ملقى أرضا ، وعيناي تذهبان بعيدا ،وكأنهما ترسلان نظرات كاسفة ، وآســـفة إلى شباك سهيلة الذي لم يعد مضاء . وبلا شعور ,خيل لي كأني في الأرض الحرام من جديد ! . 
       
                                                ( 8 )   

          رائحة القهوة الزكية تدعوني فعلا ً، وشاكر ، كأنه يحدثني قائلا ً، والعهدة عليه كما يقــول متبرما ً : مرة أخرى ، وفي تجل وقور ، وبصيرة نافذة ، اقتحمت صفوفهم في جرأة ، ،حتــــى رأيتني كأني واحدا منهم،أوأحد هؤلاء المتفرجين،لقد وقفت في صف متقدم جـدا،وكان الموكًب  المار أمام أرائك الأنوناكي يتهادى في إحتراس فوق طنافس فاخرة ، يمر في حماس لا نظير له على الدوام ، وعلى مـّر الأزمان مزدانا بالمفاخـر ، والضياء الساطع يمزق حجب ظلام ليل بهيم رقـّت نسائمه ، حتى استعذبه الجميع ، وكـّف من كان من في الجوار عن اللغط ، فلا يكاد يُسمع صوت صياح ديكة ، أو نهيـق الحميــر، أو صفارات حراس المواشي ،أوصـوت نباح الكلاب في قريتنا ، والقرى المجاورة .

         كان ثمة عالم بهيج ، ومدينة متألقة انتصبت ،ونهض خلق غريب جميل الطلعة ،استوطنت  وجوههم إبتسامات مضيئة ،وعلت ضحكات،وأعلنت المّسرات عن زغاريد ،وعلت أيد لا عّدَ لها بالتصفيق، ورفعت أخرى أعلامها الملونة أمام صف الأنوناكي الثملين با لأنجاز،ومرت مواكب، أعقبتها  أخرى طويلة رددت نشيدها بحماس :

                                            تمـر العصــور
                                            تدور الدهـــور   
                                            والمجد ، والفخار
                                            لهـذه الديار ..أور .. ولجش
                                                     
      رائحة القهوة لا زالت تدعوني في جلبة ،بينما الظلال الثقيلة تزحف شرقا  ً تنــأى عن حافـة البساط ، والضمأ يدعوني إلى ( حِب ) أوثق إلى جذع نخـــلة بحبـــل قد من ليف النخـل .ناحــت  يمامة ، بكل حماس ،حتى خلت هتافها نواحا يقطر كربا ، ووحشة ، أوغناء يحاكي غناء ريفيــا
    حزينا ، وكان الانتظار الى وقت آخر غير مجـد ، أو نافع ، كان موجعا كما نعته شاكـر، وأشـــار قائلا ً : عدنا من الحرب ، فلم نر ما نفعله ، وقد أشجانا وجه الأرض الميتـــــة، الشاحبــــة ، و الذهاب الى المدينة ، والتجول، بلا هدى، في دروبها القذرة ،أو الإرتخاء ، والإصغاء إلى هتاف اليمام الحزين ، أوالى شكاوى سهيلة التي لا مبرر لها .   

        كان لم يتبق لي من سويعات الغروب التي صرمت في ملال ، وفي تأ مل النخيلات ، ورعاية سرب الأوز ، والديك الرومي إلا وجـه الفراغ الذي تصفحته الريح السموم فـــي صفاقـــة حتـى حلول المساء ، وكانت قيلولة هذا النهار قلقة تحت أفياء النخيلات التسعة ، وكأني سمعت ، في خلل الصمت ، وممارسة الجزع صوت أمي عاتبا ، أو راجيا ً :
    ــ ها قد امسيت كهلا ، فكفاك عازبا .
       أطرقت ، ونبشت الأرض بعود متيبس ، وفكرت في الهروب الـى مجلس شاكر ،  فإني سأراه يعلف ناره حطبا ،ويترك للرائي من بعيد شارة  في ذيل دخان يعلو فوق المراح ، ثم ينعطف إلى المروج بينما رائحة البن ترّوح في الأزقة القريبة ، وترعاها الجدر الطينية ، وتكاد تحرز نصرا على رائحة حليب يغلى في قدور صغيرة الحجوم ، وعلى أطياف زوجه الحسناء  .

         ها هو شاكر يدعوني إليه ، تحظني رغبة ما الى مجلسه ، لعلها رائحة قهوته الطيبة المذاق ، ودعوته لمشاهدة رؤاه ، ولا أكتم سرا فقد رأيت الأمر لا يخلو من مخاطر ، كتلك المخاطـــــرة التي كنا نعانيها في الخروج إلى الأرض الحرام بكمائن صغيرة ، كذلك أشباح الأنس  ،والجـــن التي تتخاطف مساء ،وليلا ً، متربصة الفرص بالمارّة ، وكنت منذ فجر مبكر فتى هيابا ، حذرا ، تخيفه المخاطرة ، ولا يؤثرها ، وأن كان فيها مكسبا مجزيا  ً .

       آه .. لقد حثني شاكـر عن مواكب الغابرين،ودعاني إليه لنراهم  ينهضون فوق أطلال ، ورمم ممتلكات عفت ، أو درست ، وكأنه حقا ً تجوّل فيها بعد العاشرة ليلا ً ليتأمل ما كانــوا عليه قبل أربعــــة آلاف عام ، بينما إيشان الأجداد يذوب في الحقل وجدا ، أو ينزوي بوجهه العابس ،أو يلــــــوذ بنفسه حياء ، يمحقه الصمت ،وفجيعة الشيخوخة ، ووجوه البؤساء من حوله .

           هل أذهب إلى مجلسه ، أم أقعد ، وألوم ذاتي في ظل النخلة القصية لتلكأي وخوفي ، أليس أخون عهدا قطعته أمامه ؟، وأكون خنته جهرا ً، آه شـــاكر ..ألم تقل في صوت مرح : نعم هلال ..سترى ما لم تره عين بشر عبر قرون ، ترى أجيــالاً مضت ، كانت رسمت خرائط لا تمحى من وجه الأرض ، وذاكرة الوطن ، وقد حملت بذور زهــور ذات شذى ،وزرعتها على حافات طرقه ،بعد ان قطعت الأشواك ، ورميتها في وجوه الأعـداء ؛ إنك سترى،بل ترى كل شيء ، والعهدة ،بلا شك،علّيّ هذه المرة يا نمس *5 الأرض الحرام !. 

          قلت نعم ، يدفعنـــي فضول لأرى ، عن كثب النســّوة السومريات ، والقيثــارات العظيمـة ، والمواكب ، وذلك النـور العجيب ،الذي كشف عن كل ما كان غائبا، ومطمورا في عالم النسيان ، ومخفيا تحت الثرى ، نعم..نعم غائبــا ، ومنسيــا ، وسأكون أول من صدقك ، وأدهشــــــه مـا حققته من مكاسب ، لم يحققها الجبابرة السابقون  هنيدي ، وماشي ، وسعدون , وحتـــى الذين أصيبوامن جراء المخاطرة بلوثة في العقل .

                                            ( 9 )     
                               
            أف، أف .. عاتبتهُ عيناي فـي لين ، ورفـــق ، وكذلك  عاتبتــــهُ يداي ، وهمـا ترفعـان فنجــان القهوة اليه ، وربمــا عاتبهَ المكان ، ومع هذا لم أفه بكلم ، وكان لا ينكر إنــي أكره أي نوع من العتاب ، واستوضحت منه : ها أنتذا تأخرت عن قهوة المساء ياهلال ! .
     ــ لم تذرني لأجمع لك مزيدا ً من الحطب من تلك الشجرة الشيخة التي ماتت فجأة .

        لمته ، كذلك في صمت ، بنظرات لم تخل من مودة ، ووئام قديم ، قلت :
    ــ لا زالت الريح السموم تشوي الوجوه ، هل نتشبه بحارس ؟.
    ــ بلى ، إلا أن علينا أن لا نحمل عصيا ً، أقول الحق أن ذلك لكريه ، لنذهب ،وكأننا رسـل سـلام ..ما لك ابتسمت ؟.

          أمسكت الملقط الأسود ، الطويل ، وحملت قطع الجمر المتوهجة حول أسفل ابريق القهــوة، وفطنت إلى أن سهيلة أبدت رغبة مفا جـئـة في زيارة أهلها فـــي القريــــة المجاورة ، وكانت أوصدت نافذتها في تلك الساعة ، ومكثت خلفها تغمغم بكلمات غاضبة ، وحزينة ، وكأنها تحدق من خلف الفتحات الشاقولية الى مجلسنا ،لعلها تسمع ما نخوض به ، ولشد ما كانت تغتم برؤية هلال المسكين الى جواري ؛ ولأطرد الصمت بيننا ، قلت :
    ــ سأكتشف فيك رجلا ً شجاعا ً !.
      ضحك لثوان، حتى خرجت نهاية قهقهته من أنفه بصوت بغيض ، وقطب ما بين حاجبيه،ومال إلي ليقول :
    ــ آه ..لا زلت لم أنس أنك رجل الحجابات الشديد المراس ..أجل لم أنس !.
      ابتسمت ، ومن ثم قلت :
    ــ عليك،إذن ، استثمار شجاعتك لنقتحم مواقعهم ، فالمخاطر هذه المرة ، ليست مخاطر رصاص  ، وشظايا قاتلة ، إنها مخاطر أكثر بأساً على العقل ، وليس البدن .

          إندفع إلى جواري حتى كاد يلتصق بي ، ودنا بفمه من أذني ، وهمس :
    ــ أرأيتهن يا شاكـــر ؟.
      أجبت بهزة من رأسـي ، فارتسمت ابتسامة  شوق مرحــة فوق محياه الشـاحب ، وقال ، وهـو يبتعد ، بإمالة بدنه إلى الشمال مني :
    ــ  آه .. ذلك أمر حسن أن أرى ما رأيت يا شويكر ، يا أخي ! ولكن لم يحملون الرماح ؟.
    ــ آه .. تسأل عن الرماح ؛ إنها كأزياء اللإحتفالات الوطنية ، أليس هـم فـي حضرة الـ (كوديا ) الكبير..آه.. لا تخش يا هلال ، إنك إلى جواري ، بل معي ، وسنتأمـل كل ما حولنا عن كثـــب ، وسترى ، كما رأيت بأم عيني هذه كل شيء , كل شيء ، وكأنك  تشاهد  فيلما  ً؛ أجــل يحدث هذا كأنه في الخيال ، أو الرؤى ، لا غير !.

        كان هلال ذاهلا ً، منقادا معي على اكراه ، كاد يقول شيئا ، إلا أنه لم يفه بكلمة ، و اكتفى بلعق شفتيه المتيبستين ، بللهما برضاب فمه ،وألقى بصره باتجاه الشمال معتصما بالصمت ،والتفكر ثم كأنه إنتبه إلى ما أيقظ حوا سه ، قال :
    ــ أنظر هاهو قرص الشمس كاد يمس حرف الأفق ، لم يتبق المزيد من الوقت أمامنا !.
     
        وأصغينا الى صوت بقبقة القهوة في ابريقها ، وأتى هلال بحركة قلقة ، أعقبها بقوله :
    ــ  ترى هل أستعد ، وأهيء أسلحتي خشية غدر مفاجىء ؟.
        ارتجلت ضحكة لا مبالية ، ارتجفت لها نافذة حجرة سهيلة لثوان ، وهتفت :
    ــ أي هلال ، أي صاحبــــي وأخـــي , لا تفسد علينــا الأمـر؛ إننا سنمضي أعزلين ، هيء إزارك       
      .. إزارك الصوفي فحسب  .
      رّد متلعثمـا ً :
    ـ إزا..ري.. الصو..صو..ففي ؟.                          
     ابتسمت بجفاء ، فقد أفســــد ، على ما يبدو، عليَّ سروري ، واكتشفت أجفانه تختلج ، وشفتـه السفلى ترتعش ،ونظراته تتيه في فراغ موحش ، وغريب ! قلت ، وأنا أريح ظهري الى وسادة محشوة تماما ً :
    ــ قلت إنك أفدت من تجربتك في الحرب كثيرا أي أخيل *6  .
      رّد بما يشبه الحماس :
    ــ أجل كثيرا ً ..ما أخيل ؟.
       هززت رأسي ، وأخبرته :
    ــ رجل ثابت الجنان .
    ــ من أي قرية هو ؟.
    ضحكت  بسخرية مرة ، وقلت  :
    ــ من آل جريو .
                                         
                                                 ( 10 )


       رأيته سكرانا بأوهامه ، وبرائحة البن ،وذكرى الرجا ل الثلاثة ،هنيدي الذي كان يعدو مثلما يعدو وعل ، وماشي ، وسعدون . وكانت  الكائنات ، في تلك السويعة كفـّت عن صخبهـــا الذي أعلنته في عودتها المسائية من الحقول المجدبة .

         ولبرهة خيل لي إنني سأ صغي الى صوت عواء ذئب أقعى في وقت مبكــر فوق قرنة التــــل الذي موهته ظلمة الأرض الهامدة ، أو أرى نورا فياضا ً حادا ، ينيــر الـ (إيشان ) وما حولـــه بدائرة واسعـة ، وسأ سمع صوت قرع دفـــوف ، وضرب صنوج ، يأتـــي مع وقع حاد لحــوافر جياد ، يوكد ذاته في حزم ,واصرار، كما حلــمت باللإصغاء إلــى صوت  قيثارات عظيمة ، ثـــم أحظى برؤية الأميرات السومريات ..أحلم ، ويتســـع الحلم حتى يحتويني بجنون ، ثم يلفني ،بلا عزاء ،ضياعي ،وفقداني ، وعزوبيتي ،وذكرى أمي عاطرة تقطع ، في الأرض الموات طريقها
    عائدة إلى البيت .
     
     رأيته يميل بجسده نحوي  :
    ــ أي هلال أجئت بإزارك يارجل ؟.
      كأنه أيقظني من ذهول غميق ، وهو يسألني عن الإزار ، أجبت :
    ــ إزاري ..بـ ..بلـــــى .
       هتف بانشراح :
    ــ طوبى للصادقين الوعد !.

        في الساعة الحادية عشر ليلا ُ ،عدت بأذيال الخيبة الــى بيتي ، ولم أنس أن ألـــقي نظـــــرة منكسرة باتجاه شباك سهيلة ،  فصدمني أن ألقاه موصدا فـــي وجـه الظــلام ، وهمس حجـــارة الحقول ، وصرير الجنادب ، فبعد تجوال مظن حول التل ، لم أر نـورا ،أو أسمــع قرع صنوج ، أو وقع سنابك ،أو أصوات تردد الأناشيد، بل ذعرت أمام كل شيء كان ، راكــدا ركوده الأبدي ، متمتعا بهداة مصيرية محتقنة ، وقد أفل الهلال الحزين ، ورقتّ النسائم ، كتعـويض زهيد لليل طويل استسلم لهياج حشـــــــرات الأراضي البـــــور ، إلا أن بعض الكائنات المتعبــة استعذبتها ، ورأت في الرقاد نوعا من الراحة ،بينما كانت قدماي الثقيلان تدبان على اكراه فوق حصبـاء الطريق ، وكأني لا زلت مرتديا حذاء الجنديـة الثقيل ،أوكأني ،مثلما خامرني الظن ،لازلت أتبــع خطوات رجل كان يسبقني  مسرورا ً، ثم ، وبلا وعي أدركت أنني أتبع خطوات شـــاكر ، الرجل الذي بدأت أشك أنه  فعلا ، نصف مجنون ، وإننا نحـظ الخطى بإتجاه هاويــــة ، وقرار سحيـق,  ودون أن انتبه إلى ما قاله صباح هذا النهار ، وكنا نرتقي التل من سفحه الغربي بصعوبة ، قال  أنه سيحطم أسطورة الموت الرابضة فوق الـ ( إيشان ) كما حاول الأجداد دون هيابـــة ، وكنـت مطرقا مع شعور باذلال ، وأنا أهمس ، بلا  منافع : مسكينة أنت يا سهيلة ، إنــه نصف مجنـون حقا ً ، ولذلك أوصدت نافذتك ، وخلدت لنومة قلقة  ، وكنت لم تري ، نفعا في الإصغــاء الى ما تحدثنا بــه  ، ونحن نحتسي قهوتنا المرة بلا إنقطاع ، بينما يأخذ اليأس منك مأخـــــذا جــــادا ً؛ لأنه حينما عاد من الوغـى لم يعد سويا ً، وقد انتبه الى ذلك الأمـــرمن انتبه، إلا أن ذلك التنبيه لم يلق صدى في آذان البعض ، وكان ذلك لا يعني شيئا ، فقد رأيته في منتصف الليــل وقد تدثر بازاره ، وأندفع إلى الظلام ، تاركأ إياك في حراسة كلابه الكسولة ، وكان يعرفها لا تقوى حتى على طرد بنات آوى التي فتك بها الطوى ، إذا ما هاجمت البيت ، وأنت ترقدين وحيدة .  
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media