أوهام المصطلحات
    الخميس 28 أبريل / نيسان 2016 - 18:56
    راغب الركابي
    نُغرم كثيراً نحن بالمصطلحات حتى من قبل أن نعرف معناها ومفهومها في لغتها الأم ، ومن ذلك مصطلح - الدولة المدنية - المأخوذ في الأصل اللغوي لها من – المدينة - في مقابل القرية ، وهو حسب أقرب التفاسير تعني : تكوين الدولة على أساس نظام المدينة من خدمات ووسائل تفتقدها القرية ، وهذا يعني تحويل القرية إلى مدينة خدماتياً - وهذا من حيث هو جميل ولا ضرر فيه - ، ولكن هذا التحويل يجب أن يتم ضمن شروط لازم توفرها لكي يكون التحويل منهجي وصحيح وناجح ، ولكن التحويل القهري الإفتراضي لا مبرر منه إن كان هدفه هو مجرد تحويل القرية إلى مدينة وحسب ، لأن ذلك التحويل في صيغته المفترضة تلك هو ظلم بحق نظام القرية ، الذي يشكل في العادة الأكثرية في مجتمعاتنا ، ثم إن هذا التحويل المفترض يعني بالضرورة الإستغناء في مجتمعاتنا عن أعمال ومشاريع  القرية من زراعة ورعي وإصلاح أراضي ، وقد رأينا خطأ وفداحة هذا التوجه الذي عمد إليه النظام الدكتاتوري السابق ، في السبعينات حين حول المجتمع والدولة إلى نظام العسكرتاريا ، فتحول الفلاح معه إلى جندي وهجر أرضه ومصدر رزقه وعيشه وكرامته ، وهذا الإجراء أدى إلى جعل الدولة تحتاج لإستيراد المواد الرئيسية في الغذاء والعيش الضروري وتعتمد على الغير في مصدر رزقها ، وهذا الفعل هو الذي مهد لسقوطها عند أول ضربة وأول إختبار ، وإن كان المُراد - بالدولة المدنية - هو ضد للدولة العسكرية ، فهذا المعنى لا يفيدنا بشيء وهو مُغاير لمعنى المدنية المقصود ، وإذا كان المقصود من مفهوم – الدولة المدنية – هو النظام السياسي ، فالمدينة لا تؤوسس في العادة لنظام سياسي متوازن وعادل ، وليس بالضرورة أن يكون النظام المدني نظاماً ديمقراطياً وقائماً على إرادة الشعب وإختياره .
    نعم إن أقصى ما تعنيه جملة - النظام المدني - هو ذلك النظام الذي فيه خدمات جيدة مقارنة بخدمات أهل القرية ، وهذا لا يدل على الديمقراطية من قريب أو بعيد ولا علاقة للمدينة من حيث هي بذلك ، فالديمقراطية : هي ممارسة وثقافة شعبية عامة ، تدخل في كل حيز وكل تفصيل من مفاصل حركة المجتمع ، وبها يمكن القضاء على الطريقة القديمة للنظام الإجتماعي والسياسي القائم على بناءات إجتماعية ظالمة وخاطئة ، و بالديمقراطية الصحيحة يمكننا القضاء على نظام الإقطاع و الذي هو غير موجودفي الأصل في مجتمعاتنا و بشكله الغربي القديم ، ومن خلالها كذلك يمكننا القضاء على هيمنة شيوخ العشائر الجهلة والمتخلفين الذين يتوارثون المشيخة بالضد مع إرادة الناس .
    إن الذي يقضي على هذا التفاوت الطبقي هو نظام الإنتخاب والإختيار الحر ، والذي يجب أن يؤوسس على قواعد خالية من التوتر ومن الصداع الديني والمذهبي والجهوي والفئوي ، وبه يكون خير تأسيس لدولة الإنسان التي يُحكى عنها ، تلك هي - الدولة العلمانية - ذات النظام السياسي والإجتماعي الليبرالي الديمقراطي ، وخيار الدولة العلمانية بنظامها الإجتماعي والسياسي نحق المعادلة في الخير والمصلحة ، وذلك حين نتحدث عن دولة ذات نظام يحترم كل أطياف ومكونات الشعب ويحترم هوية وثقافة الجميع .
    إذن من الوهم أن نستدرج مصطلحات لا نعرف معناها سوى إنها وردت في لسان الغير ، أو إننا نقصد أو نريد بها ذلك المعنى النبيل للحياة الحرة الكريمة ، وفرق واضح بين ما نريده ، وماتعنيه الكلمة بالضبط ، ولكي لا نقع في - وهم المصطلحات - ، علينا توخي الدقة والحذر في إنتقاء اللفظ الذي يوافق المعنى المطلوب منا .
    والوهم الآخر : مصطلح - حكومة التكنوقراط - والذي هو في الأصل المعجمي يكون بمعنى المتخصص في مجاله ، ولأن الكلام عن الحكم والحكومة ، فذلك يعني إننا نتحدث عن الإدارة وعن صفاتها بمن يتولون المسؤولية ، والصحيح ولكي يستقيم الكلام علينا البحث عما نفتقده في الإدارة والمدير ، وأهم هذه الأشياء المُفتقدة : - هي النزاهة والشرف والكفاءة والعفة والقوة والعلم وحُسن السيرة والسلوك - ، وهذه الصفات هي المطلوبة لحكومتنا خاصةً في ظل مطالب الشعب المحددة ، والتي تظاهرت على الفساد وعلى السُراق و السرقات وعلى من باعوا البلاد للإرهابيين والقتلة ، وجعلوا الوطن ساحة مُستباحة لكل شذاذ الآفاق .
    نعم إن الشعب لايريد من لفظ تكنوقراط معناه الحصري ، بل يريد معناه التضمني ، فالمعنى الحصري ليس مطلباً شعبياً ولا مجتمعياً ولا هو مطالب الثوار والمعتصمين ، خاصةً في ظل الحاجة إلى سد الثغرات في مواطن تفتقد للنزاهة والشرف ، وسوء إستخدام السلطة ، وتبديد المال العام لملذات البعض من الفاسدين ، وهيمنة فئة باغية على شؤون البلاد والعباد .
    إنه من الوهم أن يكون الإصرار على هذا المصطلح في مجال الثورة والتغيير والإصلاح ، ولكن إن كان يُراد منه حكومة غير مُسيسة فهذا غير ذاك ، إذ يجب أن نُسمي الأشياء بمسمياتها ، وإذا كان المُراد منه حكومة عمل وخدمات ، فهذا لا يتطلب تخصص في ذات الوزير للوزارة ، بقدر توفر الشروط الموضوعية التي قلنا بها ، وهي شروط ليست مستحيلة مع توفر الكم الوفير من الشرفاء وأهل القيم ، وعلى من يريد فعليه البحث بجد وإخلاص عن كل نافع ، فمرحلتنا خطيرة وقد لا يكون فيها لعراق الماضي الموحد نصيبٌ من الدوام ..

    راغب الركابي
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media