ليت أنى كنت من الازل لم أعش هذه الحياة
    الأحد 15 مايو / أيار 2016 - 17:18
    داخل السومري
    كنت ذات مرة قد دخلت في نقاش مع أحد البريطانيين الذي كان يعمل مفتشا في وزارة التعليم البريطانية، وكان نقاشنا يدور حول الشرق الأوسط والقضية الفلسطينية بالذات. فبدأت بالكلام عن القومية العربية، وبأننا امة عربية واحدة تمتد من المحيط الى الخليج، وكيف نحن العرب قد بنينا حضارة عظيمة ونشرنا الإسلام في العالم وطورنا العلم الى اعلى مراحله. لم يبذل هذا البريطاني جهدا لكي يكتشف جهلي وتركيزي على القاء الشعارات الفارغة.

    فرد على هذا البريطاني قائلا: ان ما قلته عن انكم امة عربية واحدة تمتد من المحيط الى الخليج فهاذا غير صحيح، لأن المغاربة والجزائريين والتونسيين والليبيين هم لم يكونوا عربا، بل هم أمازيغيون وبربر الغيت قومياتهم بحد السيف، اما المصريون فتاريخهم الحضاري معروف للقاصي والداني. وما تقوله عن نشر الإسلام في العالم، فهذا تم بالغزو وحد السيف، وان الإسلام هو الدين الوحيد في العالم الذي انتشر بحد السيف.

    ثم عاد هذا البريطاني وسألني من أي البلدان أكون، فأجبته بأني من العراق، ثم سألني من أي منطقة في العراق، فأجبته بأني من جنوب العراق. وبعد ان سمع هذا البريطاني جوابي الأخير أخذ بالقهقهة، ثم احتسى كوب الشاي الذي امامه وأشعل سيجارة وأخذ ينفث دخانها بانفعال، ثم سألني هل قرأت شيئا عن تاريخ العراق وعن الحضارات التي سادت في هذا البلد؟ قلت له ما تعلمته عن التاريخ فهو في المدرسة، حيث علمونا الحضارة الاموية والعباسية والعثمانية، وابطال هذه الحضارات مثل معاوية وخالد ابن الوليد وهارون الرشيد وغيرهم.

    وسألني هذا البريطاني فيما إذا كنت قد سمعت عن اقوام سكنت ارض الموسوبتاميا(Mesopotamia)، فسألته ماذا يقصد بالموسوبوتاميا، فرد وقال: الموسوبتاميا هي ارض العراق الحالية والموسوبتاميا هي كلمة اغريقية تعني ارض ما بين النهرين (دجلة والفرات). واستطرد قائلا: عليك ان تعلم ان هذه الأرض التي ولدت فيها قامت فيها وقبل 7000 عاما حضارة تسمى بالحضارة السومرية أقامها السومريون. وميزة هذه الحضارة هي انها اول حضارة تقام في العالم كله، بينما كان العالم من حولهم يعيش حياة بدائية تعتمد على الصيد وجمع الفاكهة. وأخذ هذا البريطاني مستطردا بالقول: ان اجدادك السومريون هم اول من بنى المدن، هم اول من كون دولة، هم اول من اوجد الكتابة، هم اول من ابتدع الزراعة وانشأوا الري وحفروا الترع والانهار (من ضمنها شط الغراف الذي يربط دجلة بالفرات)، هم اول من أنشأ التجارة، هم أول من ألفوا الملاحم الفلسفية كملحمة جلجامش التي اخذ عنها "هومر" الالياذة والاودسة، هم اول من اوجد العجلة والعربة التي تجرها الخيول، هم اول من اوجد الحساب لاستخدامه في معاملاتهم التجارية.

    وبعد ان اخذ سيجارة ثانية، استمر بسرد الاحداث التاريخية للسومريين وقال: ان السومريين هم اول من اوجد الدين المنظم  ”organized religion” الذي يتكون من المعابد والكهنة وعبادة الآلهة، وكانت آلهتهم متعددة لذلك لم يذكر عن قتال حول الآلهة كما يحدث في يومنا هذا. والسومريون هم اول من اوجد فكرة آدم وحواء التي بدورها خلقت من ظلعه، كذلك هم من وضع اسطورة أيوب. وقد اخذت التوراة والانجيل والقرآن هذه الاساطير السومرية وأطروها بأطر تلائم محيطهم الثقافي.

    ثم قال مستطردا: كان يعيش في الصحاري المتواجدة جنوب ارض الرافدين قوم يعيشون حياة البداوة البدائية، أي انهم كانوا قوما رحلا، ينتقلون من مكان لآخر بمواشيهم وابلهم، وهؤلاء القوم لم يتمكنوا من بناء أي نوع من الحضارة. حتى جاء محمد وأوجد لهم دينا اخذ معظمه من الديانة اليهودية، حيث كانت تعيش قبائل يهودية مهاجرة من فلسطين الى ارض الحجاز، وسمى هذا الدين بدين الإسلام.

    وتحت راية هذا الدين غزت هذه الاقوام البدوية ارض الحضارة السومرية. وبما انهم لا حضارة لهم لم يضيفوا شيئا للحضارة التي احتلوها. حيث كان احتلالهم احتلالا دينيا بحتا، لا يعترف بمن قبله ويعتبره وثنيا يجب دثره من الوجود. وهذه تعتبر كارثة كبرى حلت بهذه الحضارة المميزة.

    ثم جلب، هذا البريطاني، انتباهي الى نقطة مثيرة جدا حيث قال: ان هناك فرقا كبيرا بين الدين ووجود إله يتحكم في هذا الكون المترامي الأطراف. اذ ان الدين هو من صنع الانسان، اما الاله فهو امر افتراضي لا يمكن اثبات وجوده وكذالك لا يمكن اثبات عدم وجوده. ان هذا الاله الذي افترضه الدين لا يتدخل في أمور الانسان لا من قريب ولا من بعيد، اذ لو كان يتدخل في امورنا لما خلق لنا الكوارث الطبيعية التي تعصف بنا من براكين وزلازل وفيضانات، ومن اوبئة تقضي على الآلاف منا في كل مرة تظهر علينا. ناهيك عن الحروب الطاحنة التي يروح ضحيتها الآلاف وفي بعضها الملايين. فهو اما غير قادر على ايقافها، او هو سادي يحب الدماء ويستمتع بآلام الناس والمخلوقات الأخرى. فأذا كان قادرا ولاكنه لا يرغب فهو إذا إله شرير، وإذا كان غير قادر فلم نسميه إله.
    وبعد ان سمعت كل هذا تركت اللقاء وغادرت الى سكني وهذه الأفكار تعصف براسي. وكم أحزنني لما اكتشفت أنى شخص فاقد الهوية. حيث اكتشفت ان هويتي المفقودة هي السومرية الاكدية البابلية الآشورية. ولما وصلت سكني فتحت تسجيلا لفريد الأطرش وهو يغني—عدت يا يوم مولدي عدت يا أيها الشقي—الصبا ضاع من يدي وغزى الشيب مفرقي—ليت يا يوم مولدي كنت يوما بلا غد—ليت أنى كنت من الازل لم أعش هذه الحياة—عشت فيها ولم ازل جاهلا انها حياة.   
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media