باريس فى ايار 1968 ....انتفاضة الطلبه (1)
    الأحد 22 مايو / أيار 2016 - 20:10
    د. حامد السهيل
    1- اوربا الغربيه بعد الحرب العالميه الثانيه
    اخذ طلبة جامعات اوربا الغربية , المانيا, فرنسا وانكلترة, خاصة فى  الولايات المتحدة الامريكية منذ بداية  الستينات فى المطالبة والاحتجاح والتظاهر من اجل تحسين اوضاعهم الدراسية والقيام بمشروع اصلاح جامعى يتماشى مع التطورات التى حصلت فى المجتمع اقتصاديا واجتماعيا. الا ان حكومات ما بعد الحرب لم تتواصل مع حاجة الطلبة وتؤكد على انجاز مشروع او مشاريع اصلاح الجامعات ونظام التعليم العالى. ان الرتابة والخلافات حول نوعية الاصلاح حجمه وابعادة, كانت على خلافات بين مختلف الوزارت, مما ادى الى تعميق الخلافات بين الطلبة والحكومة والتى وصلت ذروتها فى باريس فى منتصف ايار 1968 والتى شملت تعطيل مؤسسات الدولة واكبر تظاهرات جماهيرية لم تشهدها فرنسا سابقا بالاضافة الى مجابهات بالحجارة واالقنابل المسيلة للدموع بين الطلبة من جامعة السوربون ونانتيير والشرطة الفرنسية. 
    ان الاسباب التى ادت الى هذه التطورات والاشتباكات  يرجع الى نوع وسرعة التطور الاقتصادى واعادة البناء بسرعة هائلة فى الوقت لم يحصل تطورا نوعيا فى الفكر والنظرية والتطبيق.
     مضى على نهاية الحرب العالميه الثانيه ثلاثة وعشرون سنه. وعاشت اوربا الغربيه افضل سنواتها: لقد تم اعادة بناء المدن وشبكة الخدمات الاساسيه بنجاح تام وبسرعه فاقت التصورات, واخذت الحياة مساراتها الاعتياديه المألوفه, بالعمل والراحه والاستجمام,   تاركين, بشكل مقصود ,او بالتناسى, احداث والالام وضحايا الحرب خلفهم, انهم فى الحقيقه لم يتوقعوا ان تتغير اوضاعهم المعيشيه والاجتماعيه بهذه السرعه وبهذه الصوره الجميلة, لقد اصبحت السياحة منهجا جديدا للنمو والتطور الاقتصادى وطريقا لتتعرف الشعوب على بعضها.
    لقد صعدت قيادات جديده  الى سلطة القرار السياسى فى دول اوربا الغربية  والتى قامت باعاده هيكلية الحكومه والتركيبه المجتمعيه كما كانت عليه قبل الحرب  مع تغيرات هنا وهناك دون المساس بالجوهر: كانت عملية اعادة بناء وليست عملية بناء جديده, حتى ان فى بعض البلدان الغربيه كانت شخصيات قياديه فى الانظمه السابقه اخذت مواقع مؤثره فى الحكومات الجديده وفى جميع السلطات. وبكل سهوله وبساطه اعتمدت الدول الغربية الديمقراطيه و التعددية نظاما للحكم, واصبحت ضمن المعسكر الغربى  وعلى عداء صارم  مع الشيوعيه والاتحاد السوفيتى
    لقد  نشط رجال الاعمال واصحاب الموسسات الخدميه والصناعيه من جديد واستطاعوا فى فترة قصيره فى اخذ مواقعهم المتقدمه النافذه فى الاقتصاد والدوله والمجتمع ونجحوا فى صياغة سياسته وتوجهاته وفقا لمصالحهم ومتطلباتهم, وبدأ التعاون المشوب بالحذر مع الراسمال العالمى وخاصة مع الدوله المنتصره والتى تمثل الراسماليه المتقدمه الولايات المتحده الامريكيه كما اصبحت اوربا الغربيه مرتعا للاىستثمارات ا لامريكيه  واستطاعت الشركات الامريكيه استثمار الارباح الهائله التى حصلت عليها فى سنين الحرب  فى مشاريع جديده ومشاريع مكمله, كما ان شركات اوربا الغربيه التى اعادة تكوينها قد حصلت على ارباحها وتوسعت نشاطاتها فى تقديم البضائع والخدمات لسد الحاجات والطلبات المتصاعده لمجتمعات  قد انهكتها الحروب, وجاءت الحرب الكوريه  وفتحت لها الابواب مشرعه  من خلال مشاركتها فى تامين احتياجات المنتجات الصناعيه والحربيه.  ان التطور والنمو الاقتصادى افرز الحاجه الكبيره للايدى العامله, واخذت الايدى العامله من ايطاليا واسبانيا ومختلف اقطار جنوب اوربا وخاصة من تركيا بالاضافه الى اقطار المغرب العربى تتوافد الى المانيا وفرنسا وهولنده وبلجيكا وتساهم فى عملية البناء والتطور, وتشكل واقعا جديدا فى هذه البلدان له مواصفاته الخاصه الفاعله لحد الان. ان النمو الاقتصادى والاستقرار الامنى قد ساعد على  ترسيخ عمليا ونظريا قواعد مجتمع الرفاهيه الذى يؤمن للمواطن التأمين الصحى ومختلف مفردات الضمان الاجتماعى. ومع ايديولوجية المجتمع الاستهلاكى اصبحت السياره ضمن مفردات الاستهلاك ورمزا مؤثرا فاعلا لارجحية النظام الرأسمالى: واسطة شخصيه للنقل والحركه وبنفس الوقت من مقومات النجاح والوجاهه, لقد اصبح قطاع صناعة السيارات حقلا اقتصاديا حاسما من حيث اجمالى مبيعاته وعدد الايدى العامله التى تقدر ب20%- 25 % التى ترتبط بصناعة السياره.  اوربا الغربيه تتبنى ايديولوجيه المجتمع االاستهلاكى وسوف تفرضها بقيادة الرأسماليه الامريكيه على العالم  مستقبلا. فى حقيقة الامر ان الدول ومجتمعات اوربا الغربيه قد اعيد بنائها كما كانت عليه فى هيكليتهاالمجتمعيه من ناحية تقسيم العمل الاجتماعى والسلطه والثروه, اما التغيرات الذى حصلت فلم تكن مؤثره وكافيه لصياغة بداية جديده تقوم اساسا على مراجعة التجربه التاريخيه لحرب مدمره كان الضحايا حوالى 55 مليون انسان تقريبا, ولم تحاول الانظمه فى دول اوربا الغربيه  الشروع بتجارب مجتمعيه جديده وتشكل بدايات لمجتمعات تسودها العداله الاجتماعيه ويبعدها عن الارهاب واستغلال العالم والحروب المدمره .ان "المصالحه الفرنسيه- الالمانيه" التى كانت تشكل الاوليات للاتحاد الاوربى تعتبر ايضا عملية اعادة البناء. 
    ان جيل جديدا قد نشأ, ولد اثناء الحرب وما بعد الحرب, وتوفرت له بكل معنى الكلمه ظروف افضل مما كانت سائده لابائهم وامهاتهم, ماديا, صحيا, فى التعليم والتشريعات الاجتماعيه, فى التنقل والسياحه والتعرف والاتصال والتبادل مع ثقافات وبشر من مختلف الجنسيات والتى جعلت منه اكثر انفتاحا وتقبلا  لافكار وتجارب جديده, هذا بالاضافه الى شعورا جديدا بالذات والحياة والمجتمع, وبشكل خاص انه لم يعيش تحت ضغوط العوز والحاجه الماديه. هذه الظروف لم تتاح للوالدين ان يتمتعوا بها وكانت همومهم فى اطار تأمين شروط الحياة الماديه, تحملهم الرغبه الصادقه فى توفير شروط افضل لاولادهم وبناتهم فى التعليم والحياة, فى الوقت الذى كانوا فيه مهددين بالعطاله دائما.
       هذا الجيل, بنفس الوقت, كان يعيش صراعات وافرازات الحرب البارده بين العالم الراسمالى الذى اخذت تقوده وتوجهه الولايات المتحده الامريكيه وكتلة الدول الاشتراكيه بقيادة الاتحاد السوفيتى, وقد قادت بعض هذه الصراعات الى ازمات عالميه كانت تنذر بانفجار حروب كونيه,الحرب الكوريه, ازمة كوبا واختراق الاتحاد السوفيتى "المجال الحيوى" لامريكا, حرب فيتنام, دخول القوات العسكريه السوفيتيه الى براغ /جيكوسلوفاكيا ونهاية ما يسمى "ربيع براغ" والاشتراكيه الانسانيه. عدا ذلك فقد كانت المنظمات اليساريه فى دول اوربا الغربيه تنظم مسيراتها السنويه التقليديه من اجل توطيد السلام والتاكيد على موقفها الرافض للاحلاف العسكريه, بما فى ذلك حلف الاطلسى وحلف وارشو, هذا وقد تطورت لدى هذا الجيل احساسا وشعورا ايجابيا  بقضايا العالم الثالث وحركات التحرر ودرسوا عن الاستعمار والازمات الاقتصاديه وقضايا التربيه والتسلط, متأثرين باليسار الجديد الذى اخذ يظهر فى  العالم الغربى كما توفرت لهم امكانية الاطلاع ودراسة مواد علميه كانت قد منعت اوحرقت فى عهود سابقه وتطورت لديهم نظره نقديه عن الحياة والمجتمع رافضا للعادادات والتقاليد التى عفى عليها الزمن والتى لم تعد ملائمه لمجارات تطور الراسماليه الحديثه, لقد اصبحت احد معوقات التطور الاجتماعى وذلك لكونها تتطلع نحو الماضى, هذا بالاضافه الى عودة العديد من العلماء والكتاب والفنانين الذين هربوا من بلدانهم خوفا من القتل والارهاب والتعسف, او كانوا غير مرغوب بهم من قبل الانظمه الحاكمه. وجاؤا تحملهم الاراده والرغبه فى المساهمه فى بناء مجتمع على اسس متينه تسمح باعادة التفكير وترفض الحكم الشمولى ونقد النظام الرأسمالى.
    لم يكن الامر غريبا, من ان المجتمع والاقتصاد بحاجه ماسه الى ايدى عامله مدربه وذات قدرات مهنيه عاليه فى مختلف القطاعات, الا ان اوضاع الثانويات والجامعات فى اقطار اوربا الغربيه لم تكن مؤهله لاستقبال اعداد التلاميذ والطلبه الناتجه عن سنين الولادات القويه, من حيث عدد المدارس والجامعات, ناهيك عن توفير الاجهزه الحديثه والمختبرات وانظمه الاداره الديمقراطيه, وليس اخيرا الكوادر العلميه التدريسيه الذين اخذوا مواقعم فى الجامعات والمعاهد العلمية وكانت المواد الدراسية معادة ومكررة واخذوا يجترون ما كانوا يجترون به سابقا., وكذلك بالنسبة للحكام والقضاة الذى لم يطرأ اى تغيير على منظومتهم الفكرية التى كانوا يطلقون الاحكام بموجبها قبل واثناء الحرب, وتفهم من قبل للطلبة, ان النخبة غير مؤهلة لتفهم الطلبة , ناهيك عن الشروع بحل مشاكلهم. كانت الاقسام الداخلية والثانويات وحتى الجامعات تدار وفق نظام ادارى صارم. بذلك لم  تتوفر المجالات النظريه والعمليه للممارسات والسلوكيات الديمقراطيه. ان هذه الاوضاع انعكست على سلوك وافكار التلاميذ والطلبه الذين وجدوا انفسهم فى النصف الثانى من الستينات فى نظام جامعى وتربوى قد عفى عليه الزمن حيث لا يجدون فيه مكان لهم. ان هذه الحاله اخذت تتبلور فى ظروف تتصاعد فيها الايرادات الضريبيه فى جميع دول اوربا الغربيه, ومع ذلك فان الحكومات لم تقدم حلولا ناجعه لاصلاح نظام التربيه والتعليم العالى, كان انعكاس هذه الحاله الى تحشيد وتوعيه سياسيه فى جامعات اوربا الغربيه بلغت ذروتها فى الفتره 1967/ 1968 وقد استطاع الطلبه والناشطون فى "حركة الاحتجاج" من تطوير اساليب وصور متنوعه فى التعبير عن الرأى والمقاومه لم تكن معروفه سابقا, وكان  الاصرار والتحدى الذى كان الطلبه عليه فى التعبير عن افكارهم والدفاع عن حقوقهم حالة جديده لم يألفها المجتمع سابقا, بحيث اخذ مصطلح جيل "68" يعبر عن افكار وطموحات فى التحرر والمشاركه وتحقيق الذات فى اطار مجتمع ديمقراطى افضل يشمل مجتمعات اوربا الغربيه والولايات المتحده الامريكيه والذى امتد وشمل مجتمعات اوربا الشرقيه وبشكل خاص جيكوسلوفاكيا وبولنده. من ناحية اخرى ان الحرب الباردة والصراع بين المعسكر الغربى والشرقى وتطور الانظمة التسليح, والحرب فى فيتنام كانت مواضيع ذو اهمية كبيرة فى فكر ونشاط الطلبة فى اوربا الغربية والولايات المتحدة الامريكية.

    د. حامد السهيل/ المانيا
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media