باريس , ايار 1968 ... انتفاضة الطلبة (2)
    الأربعاء 25 مايو / أيار 2016 - 20:30
    د. حامد السهيل
    2 - جامعة السوربون مركز انتفاضة الطلبه

         لم يكن تبادل الكلام بين السيد الوزير الذى يرافقه عميد الكليه وطالب السوسيولوجى, " دانييل –كون بندت" بمناسبة افتتاح المسبح فى "جامعة نانتيير" موفقا واعتبر ان الوزير لا يصلح للحوار مع الطلبه وفهم قضاياهم, كما كانت جماعه من اليساريين الفوضويين يشاركونه الراى, والذين تنسجم مع تصوراتهم حول سلطة الدوله, وعملوا سريعا على نقل ونشر الحادثه الى"جامعة السوربون". اخذت الاخبار تتسرب حول امكانيه ترقين قيد الطالب, ابن المهاجر اليهودى الالمانى وترحيله الى المانيا. ان الحادثه اخذت مسارها الى  الميديا و"فضيحة الوزير ميسو" ونجما جديدا عصريا ظهر فى الافق "دانييل –كون بندت".اعلنت النقابه الوطنيه للطلبه تضامنها مع الطالب, وبدأت موجات الاحتجاج تتوسع: ظروف العمل الصعبه فى جامعة نانتيير التى تقع فى اطراف المدينه التى يدرس فيها 12 الف طالب,فى 22 اذار قام 142 طالب باحتلال البناية الادارية للجامعة, وعلى اذر ذلك قامت ادارة الجامعة بغلق الجامعة لشهر كامل. من هنا انتقل الصراع الى جامعة السوربون, اخذ النقد يشمل اوضاع الطلبة, والحرب المتصاعدة فى فيتنام ومسؤلية الرأسمالية, بالاضافة الى العملية الاحتجاجية ضد"بنك امريكان اكسبريس والقاء القبض على احد طلبة نانتيير.   . اعلن حوالى 100 ناشط من الجماعات الصغيره المتطرفه فى كامبوس الجامعه"حركة 22 اذار" التى كان هدفها: تجاوز كل النقاشات العقائديه المتزمته وتشكيل "وحده قتاليه ثوريه" واعلنت بواكير نشاطها يوم النقاش الشامل والذى يتضمن المواضيع "الجامعه والجامعه النقديه, النضال ضد الامبرياليه, الرأسماليه 1968 ونضال الطبقه العامله". ان المشروع لم يتحقق وذلك لان العميد قد اغلق الجامعه فى ليلة انعقاد الندوه النقاشيه, وعند وصول رئيس رابطة الطلبه الاشتراكين الالمان SDS) بدعوه من الطلبه من اجل تبادل الخبرات واللافكار, ومن اجل المحاضره احتل الطلبه القاعه الكبرى لقسم الفلسفه. لقد تسرب خبر وصول جماعه يمينيه متطرفه تنوى الهجوم على مشروع الندوات التى دعى اليه كون- بندت "ايام ضد الاستعمار", وبذلك انطلقت الشراره لتحل فى جامعة السوربون. ان رئيس جامعة السوربون "روخييه" امر بأغلاق قاعات المحاضرات. ان جامعة السوربون لم تغلق منذ الاحتلال الالمانى  فى بداية الحرب العالميه الثانيه.  فى 3 ايار تم فتح الجامعه بواسطه الفرقه الخاصه لحرس الجمهوريه ( CRS) وقوات الشرطه الراجله. لقد كانت قوات الشرطه عنيفة جدا باستخدامها الهراوات   والغازات المسيله للدموع ضد الطلبه الذين كانوا فى حاله الانسحاب من الساحه المركزيه للجامعه. ان 200 من متظاهرى السوربون ومعهم جميع القاده قد تم القبض عليهم, ومع تحرك الشاحنه لنقل الموقوفين انتفض الحى اللاتينى.
    لاول مره ومنذ فترة طويله يقوم بضعة الالاف من المتظاهرين مقاومتهم لقوات الشرطه, ان فرق كوماندو الشرطه التى تدخل شوارع الحى اللاتينى اخذت تستقبل بوابل من الحجاره التى اقتلعت من الشوارع التى كانت مبلطة بها ولم تستطيع قوات الشرطة لساعات طويله السيطره على شارع سان- ميشيل والشوارع الفرعيه له. لقد تم توقيف 600 شخص من قبل قوات الشرطه.
    كان رد فعل النقابه الوطنيه للمدارس العليا والجامعات اعلان الاضراب العام لقطاع التعليم العالى وكان اعلان احكام السجن للطلبه الاربعه فى يوم الاحد المصادف 5 ايار قد صعد من  الازمه واعلن اتحاد النقابات العام اضرابا ليوم واحد فى 13 ايار, كما اعلن الطلبه ليوم 6 ايار مظاهرة للضغط على ادارة الجامعه. لقد حولت الجكومة وادارة الجامعة ان تجعل من معارضة ومقاومة الطلبة فى الحى اللاتينى كعمل فوضوى جاء بتحريض من جماعات صغيرة من المتطرفيين.جاء مقال رئيس الحزب الشيوعى جورج مارشييه الذى نشرة فى جريدة الحزب الرسمية جاء فيه كثيرا من التهكم على حركة الطلبه ووصف اساليبهم بالصبيانيه, لقد اثار هذا هذا المقال وموقف الحزب الشيوعى  حفيظة الطلبه وتمت القطيعه مع الحزب, الذين يوصفون من قبل الطلبة بـ (الستالينين) ويذلك منع اعضاء الجزب ومؤيديه من االكلام فى نشاطات الطلبه. منذ ذلك الوقت اخذت جاذبية وتاثير الحزب الشيوعى الفرنسى بالانحسار وفقد بريقه وتأثيره الكبير فى صفوف الطبقه العامله الفرنسيه. كان يوم  الـ 6 من ايارحافلا بالمظاهرات التى تحولت بعد الظهيره الى انتفاضه ونصبت اولى الحواجز فى بضعة شوارع والتى تم الدفاع عنها لمده 3 ساعات, وفى نفس الوقت حصلت صراعات فى شارع سان – ميشيل والتى امتدت الى منطقه اسواق الجمله الشهيره فى باريس. فى المساء احتل حوالى 10000 من المتظاهرين ميدان سان- جيرمان, كما التحقت بالميدان مظاهرة كبيره اخرى.. ان ما استخدم من عنف وقوه من قبل الطرفين لم يكن فى الحسبان, وكانت مواقع يتم تصفيتها وسرعان ما يتم اعادة احتلالها, ان اى ضربه تقابلها ضربه مشابهه. جاءت جماعات (الروكر- جماعات من الشباب الذين يرتدون الملابس الجلديه ويستخدمون الموتورات الناريه التقيله وينتضمون فى نوادى وجماعات وهم يحملون خزينا كبيرا من العنف وغالبا ما يكونوا من العاطلين عن العمل,) الذى جاؤا من اطراف باريس مسلحين بقضبان حديديه, نهضوا فى صفوف الطلبه ورفعوا الشعار "السوربون للطلبه" وبعد اسبوعين يكون لهؤلاء وجودا فى الجامعه, ويرقع الطلبه الشعار "السوربون للعمال."
    ان جيش من المصورين بالاضافه الى عدد من اساتذة الجامعه, كما قد اخذ حوالى 1500 شرطى من امن الجمهوريه مواقعهم فى محيط جامعة السوربون التى كانت مغلقه رسميا.  لقد تطورت الامور بسرعه وتكونت مسيره احتجاجيه من بضعة الالاف وكان بينهم عدد من الاساتذه, وحصلت المجابهات فى ساعات العصر المتاخره: استخدمت الشرطه غاز الكلور وخراطيم المياه, اما المتظاهرون فقد احتموا بالسيارات التى قلبت على جوانبها كما وشبت النيران فى عدد منها.
    اخذت حركة الاحتجاج تتوسع: فى باريس يعلن طلبة الثانويات الاضراب ويقوم الطلبه بمسيره كبرى فى 7 ايار 1968 الى ساحة "قوس النصر".ان الشباب فى المدن والولايات اخذ يتحرك وحصلت تجمعات كبيره فى (بوردو, مارسيليا ولامان) وتم احتلال الجامعات فى (ديجون, ليون,رين, تولوز) ان طلبة السوربون ما زالوا ممنوعين من الدخول وتم فتحها فى 9 ايار مؤقتا.
    لقد اصبح من الصعب, فى باريس تحديدا, ما هوعمل احتجاجى وما هو رد فعل عليها, يكون الطلبه احيانا, ويكون المؤيدون للحكومه, الحدث يمكن ان يكون مخطط له وفى احيان اخرى ينبعث عفويا. وعلى اى حال فقد كان الوضوح ساريا: ان الاحتجاج لم يعد قضيه لنخبه متعاليه منعزله, وكما هو معروف, فان موقف التضاد والخلاف بين الفرق اليساريه يغلب على العمل المشترك. ان حركة الاحتجاج اخذت تنمو واكتسبت حركة ذاتيه ولقيت قبولا وتايدا واسعا من قطاعات واسعه من الجمهور. كان الراى الذى تبلور, انهم يجابهون قوى الامن ويتحملون الاضرار ويدافعون عن حقوقهم. ان تحريض الحكومة وبعض وسائل الميديا لم تستطيع رسم صورة بشعة للطلبة. ان البلد كان منزعج ومصدوم من القوة والعنف واسلوب عمل الشرطة وقوات امن الطوارىء حيث تنقل محطات الرايو الاحداث على الهواء.  انه خطأ كبير, اذا اقتصرنا تفسير ديناميكية الحركه على وقائع الايام والاسابيع الاخيره:, لقد اخذ الاحداث تتسارع والمظاهرات فى باريس تنمو يوميا وتنتقل الى مدن اخرى, لقد ارتفعت الاصوات المطالبة باطلاق سراح الطلبة المحتجزين. ان الثانويات بدات الاضراب, وفى 8 ايار يحصل لاول مرة اضراب عام ليوم واحد. عاشت فرنسا ليلة 10-11 ايار واحده من اعنف المجابهات بين الطلبة والشرطة  منذ  نهاية الحرب العالميه الثانيه, انها "ليلة المتاريس" فى الحى اللاتينى وقد اقتحمتها قوات الطوارى  فى الساعة الثانية بعد منتصف الليل مستخدمة الغاز المسيل للدموع  والهراوات, وكانت النتيجة بضعة مئات من الجرحى. بعد 48 ساعى تعيش باريس اكبر مظاهرة جماهيرية فى تاريخها.
    اعلن رئيس الوزراء جورج بومبيدو اعادة فتح جامعة السوربون واطلاق سراح الطلبة الموقوفين, ولكن هذه البادرة لم تستطيع تهدئة الاوضاع. ان النقابات بمشاركة النقابات  القوية الكبيرة للحزب الشيوعى الفرنسى( CGT ) قد دعت الى اضراب عام فى 13 ايار وليوم واحد, ضد العنف الذى تمارسة قوى امن الدولة وخوفا  من فقدان السيطرة على العمال الذين يتضامنون مع الطلبة.
    ان نداء الاضراب العام لقى صدى كبير , مدن عديدة عاشت اكبر مظاهرات جماهيرية منذ الحرب العالمية الثانية, وفى باريس تظاهر فى مسيرة كبيرة 800 الف متظاهر, اخذت مطاليب سياسية المقام الاول وطالبوا بسقوط الحكومة وادانة الحرب فى فيتنام, وفى المساء احتل الطلبة جامعة السوربون  وجامعات اخرى.
     ان خكة النقابات فى تحديد الاضراب العام فى يوم واحد لم تتحقق. فى اليوم التاى , فى 14 ايار  يقوم العمال باحتلال المصنع فى (Nantes) وتستمر سيطرة العمال لمدة شهر كامل, والاعلام الحمراء ترفرف على بناية الادارة, ويكتشف بان المدير الاقليمىالذى تم احتجازه لمدة 16 يوما كان , بالاضافة الى المدير العام كانوا ضمن المتعاونيين مع سلطات الاحتلال الالمانى, وضد المقاومة الفرنسية.  ان نموذج احتلال هذا المصنع يصبح اسلوبا فى العمل, فى الفترة 15 -20 ايار تنتشر موجة عفوية تارة ومنظمة تارة اخرى فى احتلال المصانع شملت حميع محافظات فرنسا والتى تقدر ببضعة مئات, ومن ضمنها المصنع الرئيسى لصناعى السيارات "رينو" فى  مدينة  بلانكور(Billancourt).كانت مطاليب العمال تنحصر فى البدايةفى تحسين ظروف العمل , الاجور, العطلة السنوية, رفض الاستغناء عن العمال...الخ, الا انه تم لاحقا تشكيل لجان من العمال والفنيين والاداريين لتنظيم حركة الاضراب, وقد تطور النقاشات واخذت بعدا سياسيا, ومع مشاركة الطلبة اصبحت المواضيع الاجتماعية والاقتصادية والديمقراطية والحرياتاثرا مهما فى الوعى الجمعى والذاتى للمضربين.
     فى يوم 20 ايار كانت فرنسا فى حالة هدؤ تام : فى واقع الامر ان 15-20 مليون عامل فرنسى فى حالة الاضراب العام والذى لم تدعو اليه النقابات او منظمات اخرى, معامل, مكاتب , مدارس وجامعات كانت محتلة,الانتاج وقطاع النقل كان فى خالة شللية. انفنانين وصحافيين وحتى لاعبى كرة القدم التحقوا بالانتفاضة. انه اكبر اضراب عام فى تاريخ فرنسا. وفقا لتقديرات وزارة العمل الفرنسيهتقدر عدد ايام الاضراب لسنة 1968 بـ150 مليون يوما, فى حين بلغ عدد ايام اضراب عمال المناجم فى بريطانيافى عام 1974والذى اسقط حكومة المحافظين(ادوارد هيث), 14 مليون يوما.
    فى يوم 20 ايار فقدت الحكومة سيطرتها, كان شعار"عشرة سنوات كافية" حاضرا فى كل مكان ويطالب باقالة ديغول وحكومته. فى 24 ايار يحاول ديغول من خلال خطاب تليفزيونى اعادة سيطرته: انه يوعدبأستفتاء حول مشاركة الطلبة فى الجامعات والعمال فى المصانع, الا ان خطابة الكان تعبيرا عن عدم القدرة وبذلك لم يكن للخطاب اى تأثير.
    لقد تطورت فى فرنسا فى شهر ايار 1968 اوضاع ثوريةوالتى نادرا  حصلت مثلها فى التاريخ. لو تتوفرت قيادة ثورية قوية وحازمة, كان يمكن ان تكون نهاية رئاسة الجنرال ديغول والجمهورية الخامسة .   

    يتبع  

    د. حامد السهيل/ المانيا

  • باريس فى ايار 1968 ....انتفاضة الطلبه (1) - د. حامد السهيل

  • © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media