معركة الفلوجة: جدلية الإقصاء والاحتواء
    الثلاثاء 19 يوليو / تموز 2016 - 19:15
    عبد العزيز نجاح حسن
    مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية
    تخوض القوات العراقية منذ 23/أيار من الشهر الفائت بمساعدة طيران التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة حرباً ضروساً لاستعادة مدينة الفلوجة والتي استولى عليها مسلحي تنظيم الدولة–داعش أواخر عام 2013. وتعد الفلوجة أولى المدن العراقية التي استولى عليها التنظيم قبل أن يستولى على الموصل في العاشر من حزيران /2014 والذي أعقب سقوطها تهاوى عدة مدن عراقية الواحدة تلو الأخرى وانتهى بحصار العاصمة بغداد وتهديد أسوارها في سابقة خطيرة سلطت الضوء على الفشل الذي تسببت به سياسات الحكومات المتعاقبة بعد 2003 في بناء مؤسسات الدولة على أسس مهنية ووطنية رصينة وتهديد أسس المجتمع واستقراره وسلامة العلاقات بين أفراده، كما كشفت عن حجم التأثير السلبي الذي تسبب به الفساد والصراع السياسي على المؤسسة العسكرية والأمنية.
     وتتمتع الفلوجة بسمعة ورمزية واسعتين سياسية وشعبية على المستويين المحلي والدولي حازت عليهما بعد معركتين خاضتهما ضد القوات الامريكية والعراقية على التعاقب بين نيسان وتشرين الثاني من عام 2004، اذ لطالما اشتهرت هذه المدينة بالتمرد ليس ضد النظام الساسي الحالي بل الى أبعد من ذلك تاريخيا، الأمر الذي أضفى ميزة إضافية على معركة الفلوجة الجارية الى جانب الأهمية التي تمثلها هذه المدينة التي تعتبر أحد أهم معاقل التنظيم ذات القيمة العسكرية والدعائية العالية، إذ أن موقعها المتميز يجعلها نقطة عقد استراتيجية مؤثرة في محافظات الأنبار وصلاح الدين وبابل بالإضافة الى العاصمة بغداد، كما أن الرمزية العالية والقيمة الدعائية الكبيرة التي تتمتع بها المدينة تهيئ للتنظيم فرصاً كبيرة لكسب الدعم والتأييد له وتجنيد أعضاء جدد الى صفوفه. ولأجل ذلك كله يعد حسم القوات العراقية المعركة لصالحها خسارة كبيرة للتنظيم كما يؤمن ما يصطلح عليه ب "المثلث السني" والذي يمتد بين ثلاث محافظات بغداد وصلاح الدين والأنبار الى حدٍ كبير.
    وفي الوقت الذي تبذل فيه الحكومة العراقية جهوداً كبيرة لاستعادة المدينة من ايدي تنظيم الدولة-داعش فان هنالك معركة لا تقل أهمية عن استعادة الأرض لم تعط القدر الكافي من الأهمية ألا وهي استعادة ثقة السكان المحليين. ففي ظل تواتر التقارير الدولية والأممية والمحلية عن حصول انتهاكات بحق السكان الفارين من المعارك الدائرة في المدينة قامت بها بعض الفصائل المنضوية في الحشد الشعبي، وتحدثت هذه التقارير عن عمليات قتل وتصفية واخفاء قسري وتعذيب. وهذه التقارير تبعث على القلق وتنطوي على مخاطر كبيرة قد تلقى بظلالها ليس على العمليات الجارية فحسب بل ستتعداها من خلال تأثيرها على جهود الحكومة لتعزيز ثقة سكان هذه المناطق بالنظام السياسي وإدماجهم وصولاً الى ترميم النسيج الاجتماعي الذي تضرر كثيراً واصلاح شبكة العلاقات الاجتماعية وتجسير الهوة بين المكونات وتقوية أواصر التضامن والتكافل للحفاظ على السلم والاستقرار الاجتماعي والسياسي والأمني تبعاً لذلك.
    وحسناً فعلت الحكومة العراقية عندما أدانت هذه التصرفات مشددة على أنها حالات فردية ولا تمثل نهجاً حكومياً منظماً وأعلنت أنها اتخذت عدة إجراءات للحد من تكرارها وانها بصدد اعتقال المتورطين ومحاسبتهم. إن وقوع هذه الانتهاكات قد زاد من الضغوط على الحكومة وأثر كثيراً على سمعتها الدولية كما أثر على جهودها الميدانية لاستعادة المدينة والتي تسببت بإيقاف العمليات تارة وإبطائها تارة أخرى. وفضلا عن ذلك والأخطر منه أنه يبعث برسائل سلبية لسكان تلك المناطق قد لا تساعد على بناء الثقة كما أنها قد لا تشجعهم على أبداء مزيد من التعاون مع الدولة العراقية في إيجاد حلول لما يعانونه من مشكلات وهو وضع ربما يدفع بهم الى مزيد من العزلة والتقوقع، مما يجعل الباب مفتوحاً على مصراعيه امامهم للبحث عن "مخلص" يعمل على "حمايتهم ورفع الظلم" عنهم ويجعل من تلك المناطق بيئة خصبة ومنتجة لانعدام الاستقرار الأمني والسياسي.
     يعاني العراق من مشكلات جمة وأن الطريقة المثلى لتجاوزها هو الإقرار بوجودها ابتداء ثم مواجهتها بشجاعة والعمل على دراسة أسبابها وإيجاد الحلول الناجعة لمعالجتها ومنع تكرارها. وعليه، فان اعتراف الحكومة بوقوع الانتهاكات أمر مهم باتجاه تعزيز دورها وتحسين صورتها وإعادة ثقة السكان بها ولكن لا يعد أمراً كافياً فلازال هناك الكثير من العمل لإعادة ترميم العلاقة بين الحكومة ومواطني تلك المناطق.
    وفي سبيل تحقيق هذه الأهداف الحكومية في الاحتواء وإعادة الثقة بها لدى سكان المناطق التي لازالت تحت سيطرة تنظيم الدولة -داعش، يتوجب على الحكومة التقدم بخطاب ودي اتجاه تلك المناطق وساكنيها لكسب العقول والقلوب يعرض لهم ضمان مصالحهم بشكل أفضل مما هي عليه في ظل سيطرة تنظيم الدولة لكسب تأييديهم ودعمهم، الأمر الذي سيساعد الحكومة على اعادة الاستقرار لتلك المناطق بشكل دائم.
    كما يجب على الحكومة مراقبة والسيطرة على الخطاب الإعلامي الموجه في الفضائيات وشبكات التواصل الاجتماعي والحد من غلواء خطاب الكراهية وعبارات الانتقام والثأر الموجه ضد تلك المناطق وساكنيها والتي تتوعدهم بالفناء والدمار! وتتهمهم بالخيانة! ولأجل تجاوز هذه الأخطاء واستشعاراً منها لخطورة ما حدث من انتهاكات دعت المرجعية الدينية في النجف برسائل عدة الى تجاوز خطاب الكراهية والابتعاد عن لغة التعميم، موصية بضرورة تجنيب المدنيين ويلات الحرب ومشددة على دور القانون في محاسبة من تثبت صلته بالتنظيم!
    فمن المهم جداً العمل على تجاوز أخطاء الماضي التي دفعت سكان تلك المدن الى الارتماء في أحضان الجماعات المسلحة ذات التوجهات "القومية والوطنية والإسلامية الصوفية والإخوانية" مبكراً مروراً بالقاعدة وانتهاءً بتنظيم الدولة–داعش واستخلاص العبر منها. فما الذي يدفع بجماعة سكانية أو مكون ما للتمرد على النظام السياسي الذي تعيش في ظله؟ إن الإجابة على هكذا تساؤل سيسلط الضوء على أزمة النظام الساسي القائم منذ 2003 والمشكلات التي يعانيها ليس مع المكون السني فحسب بل مع المكونين الشيعي والكردي. وبالتالي فاننا في الوقت الذي نعتقد فيه بالتهديد الحقيقي لتنظيم الدولة–داعش للنظام السياسي فاننا نرى ان أسباباً داخلية ذاتية خاصة بأزمة المكون السني نفسه الناجمة عن غياب القيادة الواعية وأسباباً موضوعية متعلقة بنظرة الحكومة السابقة وطبيعة خطابها السياسي وطريقة تعاملها، استغلها التنظيم فمهدت الطريق أمامه للاستحواذ نفسياً وفكرياً على مناطق المكون السني وأدت فيما بعد الى استفحال خطره ومن ثم سيطرته فعلياً على تلك المناطق.
    ان المرحلة السابقة لأحداث العاشر من حزيران 2014 قد أسست لما بعدها، وألحقت الضرر الجسيم بعلاقة النظام السياسي بأفراده. فقد كان للسياسات الخاطئة والأداء الهزيل للحكومات السابقة الى جانب الأنانية التي طبعت الطبقة السياسية ولهاثها وراء مصالحها الخاصة وعدم استشعارها للمسؤولية الملقاة على عاتقها تأثيرها السلبي والخطير على الدولة والمجتمع. فأفرزت واقعاً سياسيا واقتصاديا وأمنياً مزرياً فضلا عن تراجع الحريات وانتهاكات حقوق الانسان وتغييب القانون واضعاف القضاء، كل ذلك تسبب في فقدان المواطنين للثقة السياسية في نظامهم السياسي وتراجع الدعم والتأييد له الأمر الذي أعتبر مؤشراً واضحاً على حجم وعمق الأزمة التي كان يعيشها النظام السياسي، والتي لا زالت ماثلة، واختبارا جديا لقدرته على الاستمرار.
    هذا الوضع كانت نتيجته المنطقية هو الانهيار الكبير الذي تعرضت له الدولة في العاشر من حزيران بسقوط الموصل وما تبعها من تداعيات لازال العراق يعاني منها ومن المتوقع ان تستمر لوقت أطول. وبالتالي فان على الحكومة العراقية أن تستخلص العبر مما حصل والتركيز على استمالة السكان وكسب تعاطفهم لأهمية ذلك في دعم السياسات والإجراءات الحكومية فان حصول ذلك مرهون بإظهار الحكومة تفهماً أكبر لمشكلاتهم واستيعابها للمخاوف التي تساور وجودهم ومصالحهم.
    ختاما، لا يجب أن ينصب تركيز الحكومة خلال العمليات العسكرية على جهود استعادة الأرض فحسب، بل العمل على احتواء ساكنيها واستمالتهم والحفاظ على حياتهم وكرامتهم ووضمان مصالحهم. فهذه المعركة تمثل فرصة مناسبة لإثبات جدية النظام السياسي في التغيير واختبارا لتوجهاته في اصلاح نظرته الى قضايا مواطنيه ومشكلاتهم وتعزيز علاقته به.
     فالتحديات الجسام التي تعترض مسيرة النظام السياسي وتهدد بقاءه لن يتم تجاوزها الا بمزيد من الفاعلية والحيوية وتكثيف الأداء في جميع الجوانب؛ ليكون أقدر على حماية الحقوق وتعزيز الحريات، فالدولة التي تحترم حق مواطنيها في الحياة وتحفظ لهم كرامتهم وتضمن لهم العيش الكريم هي فقط القادرة على تجاوز التحديات الداخلية والخارجية، وتمثل الحصانة الأكيدة ضد مخاطر عدم الاستقرار الأمني والسياسي وتصدع السلم الاجتماعي.
    * مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2016
    www.fcdrs.com
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media