شكر وتقدير وعبرة
    الأحد 24 يوليو / تموز 2016 - 19:15
    لقمان عبد الرحيم الفيلي
    سغير العراق في الولايات المتحدة
    بفخر واعتزاز، انهيت سبع سنوات كسفير في خدمة بلدي العراق، في دوليتن هما من اهم دول العالم بالنسبة للعراق، واقصد بهما اليابان والولايات المتحدة الاميركية على التوالي. ولقد تصدر العراق، خلال فترة خدمتي هذه، عناوين الاخبار اثناء مرحلة تغيرت خلالها الحياة والمنظومة العالمية ككل في أكثر دول العالم نفوذاً.

    ولقد تاثرت حياتي بالعديد من التجارب الغنية  على المستوى المهني والشخصي، اطلعت فيها على ثقافات مختلفة من مشارق الارض ومغاربها، عن طريق التعايش والغور بشكل عميق بين ثنايات مجتمعات متقدمة ومختلفة عن بعضها البعض تماماً مثل المجتمع الياباني والامريكي وتذوقت معها امّر وأحلى أيامها. شهدت السنوات الثلاث التي قضيتها في اليابان وقوع ثلاث كوارث متزامنة، هي زلزال تهوكو الكبير وأعصار تسونامي وانصهار نووي في مفاعل فوكوشيما، وتعايشت لحظة بلحظة مع كيفية تعاطي اليابانيين بكل نبل وعزة وهمه واخلاص لبلدهم مع تلك الكوارث، في حين إن أي كارثة منها لوحدها بأمكانها ان تهز أمة بأكملها.

    كما سنحت لي فرصة زيارة العديد من الولايات الامريكية والمحافظات اليابانية، واطلعت عن كثب على سر تقدم تلك الدول وديمومة تفوقها، وبهرني فيها مدى احترام وتقدير تلك الشعوب المتقدمة لتاريخ العراق وشعبه، خصوصاً بعد ان لمسوا عن قرب مدى سعينا لحماية ديموقراطيتنا الوليدة من الاعداء والمتربصين والارهابيين والجهلة، ولقد كان لي شرف تمثيل بلدي خلال هذه المرحلة التي تعتبر من أصعب مراحل تاريخه المعاصر واثناء ذروة حاجته للمساعدة من الخارج وهو يصد ويواجه في كل يوم أعتى وأشرس موجات الارهاب نيابة عن العالم.

    زاد قناعتي بان التنوع العرقي نقطة إيجابية إن أُحسن التعامل معها، وان الشعب الياباني أقرب من يستطيع ان يرسخ مفهوم تكامل الشعوب، حيث تكاد ان لا ترى وجود وأثر لكلمة "أنا" في قاموسهم الاجتماعي والسياسي، وان تطور المسيرة والسعي الدائم نحو الكمال خصلة يمكن اكتسابها عبر المراجعة والزمن. كما لمست واقعاً بان الشعب الأمريكي شعب كريم ومحب للخير ومستعد للعطاء إذا كسبت ثقته وتعاملت معه من منطلقات الصراحة والوضوح والمنافع المشتركة، وادركت ان سر تماسك هذه المجتمعات ينبع من سلطة القانون واحترام النظام قبل كل شيء.

    حرصت خلال خدمتي لبلدي على تقديم أفضل ما يمكن تقديمه ضمن الإمكانيات المتاحة والمتواضعة، ولعلي لم أكن لاتمكن من هذا الشئ  البسيط من دون الدعم والاسناد اللامحدود الذي تلقيته من قبل والدتي الحنون وشريكة حياتي واولادي وعائلتي، ووقوفهم معي في أصعب الظروف واحلك الأوقات في كل خطوة خطوتها من مشوار حياتي ومسيرة عملي المهنية والاجتماعية والسياسية.

    وكنت وعائلتي نعلم بأن حياتنا الخاصة قد تكون عرضة للتجاوزات كما هي سمعة البلد والدولة التي نمثلها، وذلك من قبل المغرضين وضعاف النفوس والجهلة، ولكننا في الوقت نفسه كنا ندرك بأن خدمة الوطن تأتي اولاً وقبل كل شيئ، وهذا ما وضعته نصب عيني في اتخاذ قرارات كانت لي في غاية الصعوبة تمكننا فيها من السير قدماً ودحض اكاذيب واشاعات تمس بلدي العراق الذي امثله قبل ان تمسني شخصياً.

    لقد  ايقنت خلال واجبي كسفير بان جميع كادر السفارة، على اختلاف المناصب والمهام، هو السند الحقيقي للسفير، ولا يمكن التقدم وتقديم ابسط الامور والمهام من دون هكذا اسناد، فشكرًا لجميع السواعد، الدبلوماسية والمحلية، التي لولاها لما تمكنت من انجاز ابسط نجاح.

    ولعل البعض يعتقد بان ما افتخر به هو بهرج المنصب وما يبدو للعيان من ظاهِره كزيارات ووفود مسؤولي الدولة والمباحثات الرسمية العالية وما الى ذلك، ولكن الحقيقية هي ان مبعث الفخر والاعتزاز الحقيقي بالنسبة لي يكمن في تلبية حاجات أي عراقي من الجالية او من الطلبة المبتعثين او الزائرين اثناء زياراتهم الرسمية او غير الرسمية للولايات المتحدة الامريكية واليابان.

    ومن خلال تعاملي المباشر مع الحكام، في العراق وخارجها،ادركت ان الجلوس على كرسي الحكم لا يعني دوما ان الحاكم يملك مقومات الحكم، وان المنصب ابتلاء ومحنة أكثر منه ترقية ونعمة، خصوصاً في هذه الفترة العصيبة والمعقدة، من جانب اخر الوظيفة بشكل عام لا تستحق التمسك بها الا بقدر ما تعلق الامر بخدمة المجتمع او تغيير حال المجتمع نحو الافضل.

    وجدتُ من خلال تجربتي المتواضعة هذه ومعايشتي للشعوب والمجتمعات المختلفة ان شعبنا العراقي ، رغم غنى البلاد في الثروات البشرية والطبيعية، مغلوب على أمره، فهو ضحية للدكتاتوريات المتلاحقة والعنف والأنانية السياسية. العراق بحاجة الى الكثير من الرجالات ليرسوا به الى بر الأمان، رجالات تمتلك الرؤى وتعيش الايثار من اجل العراق بعيداً عن المنطلقات الفئوية الضيقة والطائفية والقومية والمذهبية والحزبية، وادركتُ أن العراق الان دولة لا تمتلك الكثير من مقومات القوة في العديد من المجالات، وتحتاج الى جهود جبارة من كوادر مؤمنة ومخلصة تمتلك المهنية والكفاءة والاخلاص وتسعى وتركز لبناء وطن لاولادهم واحفادهم قبل كل شيئ مع معرفة كاملة لمستلزمات إعمارها من مختلف النواحي العمرانية والعقلية والنفسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

    كما تبين لي عن كثب ان المنظومة الادارية العراقية تكاد تكون كجسد بلا روح، وان جهاز الحكومة خامل ويحتاج بسرعة عاجلة الى جرعات من الطاقة والروئ السليمة، علماً ان المعالجات المطلوبة لمواجهة حجم التحدي الذي يواجهنا في العراق لا يدركه إلّا قلة، وان المسار الحالي للبلاد يسير نحو حلول ترقيعية لا أكثر.

    واتضح لي ان معنى الدبلوماسية ومعطياتها تحتاج الى شرح وتوعية في شارعنا العراقي لكي نتمكن، كدبلوماسيين، من ان نقدم وننتج في ساحات المضيف المختلفة، لا ان نتردد ونحن في دولة المضيف ألف مرة قبل ان نخطو الى الامام خشيةً من ردود الافعال داخل الساحة السياسية والجماهيرية العراقية.

    التخطيط الاستراتيجي كفعل يحتاج ان يقوى من جديد في برنامج وكيان الدولة العراقية ككل، اذ مثلا اننا لم نستفد كثيراً من المساعدات التي كانت ولا زالت تقدمها لنا البلاد الصديقة، وللأسف فاننا، كمجتمع وحكومة، نحتاج ان نحسن ادارة علاقاتنا مع الآخرين لكي نضع خارطة طريق مدروسة وواضحة لتخرجنا من عنق زجاجة الطائفية والعرقية والحزبية والقومية التي وُضِعنا فيها، او وضَعنا أنفسنا فيها.

    كان بأمكاني ان استمر في عملي جكسفير للعراق هنا في واشنطن او شرف تمثيل في سفارة عراقية اخرى او داخل مركز الوزارة في بغداد، فعمل السفير من أجمل وأنفع وأرقى الاعمال إن هيأت لها الحكومة مقومات الكافية للنجاح، ولكنني قررت ان انهي ارتباطي الرسمي بجهاز الدولة العراقية حين وصلت الى قناعة بعد مراجعة عميقة وطويلة ان كيان الدولة يضعف كل يوم وان هيبتها تنزف بسرعة مع حاجتنا، كدولة، الى وقفة ومراجعة حقيقية لواقعنا الحزين والحاجة أيضاً الى معالجات آنية وضرورية بافساح المجال للطاقات التي ممكن ان تعالج جزء من هذه الحاجة. أصبحنا كدبلوماسيين كالجنود العزّل في ساحات القتال من دون تموين كافي او تواصل مؤثر، ولا نملك الا القليل من ما تتطلبه المهمة الصعبة في المعتركات الدبلوماسية من اهداف استراتيجية واضحة او توجهات ودعم مدروسة من اركان الدولة واجهزتها.

    وبالرغم من انني قد انهيت عملي الرسمي وشرف تمثيل بلادي كسفير للدولة العراقية، الا ان ذلك لا يعني إنني سأنقطع عن الاستمرار في خدمة العراق تحت مظلات اخرى، فالحاجة لبناء العراق يزداد كل يوم والامل لتحسين الحال يجب ان يستمر، فشغف خدمة العراق لم ينته ابداً لانه شرف لا يعلوه شرف، والقسم الذي رددته مع نفسي لخدمة بلدي ومجتمعي باقٍ ما بقيت.

    كل الشكر والتقدير للمسؤولين في دوائر خارجية البلدان المضيفة الذين من دونهم لا يستطيع الشخص منا ان ينجح ويقدم خدمة لبلده، وكل الشكر والتقدير والامتنان للزملاء والمسؤولين في وزارة الخارجية وعموم الدولة العراقية الذين سعوا لإنجاح عملي ومهامي الرسمية. وشكري ايضاً لأبناء جاليتنا العراقية الكريمة في الخارج على دعمهم ومسنادتهم.

    كل الامتنان لمن ساعدني في أي يوم، بكلمة او مقترح او خدمة. منا الدعاء ومنه تعالى الإجابة ومنا الجهد وعليه سبحانه الاتكال.

    السفير لقمان عبد الرحيم الفيلي
    ٢٤ تموز ٢٠١٦.
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media