قيادي سابق في "البعث" العراقي يكشف لـRT أسرار انقلاب صدام على البكر وتخريب الوحدة مع سوريا!(فيديو)
    الأثنين 25 يوليو / تموز 2016 - 19:11
    [[article_title_text]]
    موسكو (RT) - في 22 تموز/يوليو تمر الذكرى السنوية لما يعرف بـ"مؤامرة القيادة" أو "مجزرة قاعة الخلد"، التي دشنت حقبة انفراد صدام حسين بقيادة العراق بعد انقلابه على أحمد حسن البكر عام 1979.

    بهذه المناسبة كشف طاهر توفيق العاني، عضو القيادة القطرية لحزب البعث وعضو مجلس قيادة الثورة في العراق سابقا لـ RT الأجواء التي مهدت ورافقت لهذا الحدث المفصلي في حياة العراق.

    وسنقدم لقرائنا هذه المادة على حلقتين:

    (الحلقة الأولى)

    كثيرا ما نردد أنه، وبالرغم من صدور قرار مجلس قيادة الثورة أحكاما بالإعدام على كل من كان ينتمي إلى "حزب الدعوة" خلال الحرب مع إيران، لأنهم كانوا يعتمدون على الأجهزة الإيرانية عندما كانوا يقومون بعمليات ضد أجهزة ومؤسسات الدولة، فإن الإحصاءات تُظهر أن من أُعدم أو قُتل من قادة وكوادر "حزب البعث" على يد نظام البعث نفسه يفوق ما قُتل أو أُعدم من قياديي "حزب الدعوة".

    ولدى الحديث عن هذا الموضوع، تمر على الخاطر إعدامات واغتيالات فردية كثيرة طالت قيادات الحزب وكبار ضباط الجيش العراقي خلال الحرب مع إيران، والذين كان يظهر بعد إعدامهم عدم تقصيرهم فيكرَّمون ويُحسبون من الشهداء!

    بيد أن ما بات يعرف بـ "مجزرة قاعة الخلد"، التي وقعت في تموز/ يوليو من عام 1979، كانت أكبر عملية قتل وإعدام لقيادات الحزب. وقد قيل الكثير عن مؤامرة حاكها عدد من أعضاء القيادة القطرية في العراق مع القيادة السورية للاستيلاء على السلطة في بغداد وإعلان الوحدة مع سوريا. ولكن ذلك لم يثبت سواء في حينه أو بعد ذلك؛ حتى لقد تولدت قناعة لدى أكثر الحزبيين بأن الموضوع مفبرك للتخلص من بعض البعثيين القياديين البارزين، ولإتاحة الفرصة للانفراد بالسلطة، وهذا ما تحقق لاحقا.

    فقد كان معظم البعثيين يتطلعون إلى الوحدة مع سوريا باعتبارها تطبيقا عمليا لأهداف وشعارات الحزب، ولأنها تمحو الآثار السلبية لوحدة مصر وسوريا، نظرا لأن البعث يقود القطرين الشقيقين. وقد يكون بعض الذين اتُهموا بالتآمر وأُعدموا قد تحدثوا في مجالسهم الخاصة عن حماسهم للوحدة، أو عدم ارتياحهم لاستقالة الرئيس أحمد حسن البكر، التي أعلنها في السابع عشر من تموز/ يوليو من نفس العام.

    ولكن، لا شيء كان يشير إلى وجود مؤامرة كما أُعلن. وقد رافقت عمليات الاعتقال وتنفيذ أحكام الإعدام قساوة بالغة. فقد نفذها كوادر الحزب وأعضاء القيادة القطرية ومجلس قيادة الثورة، والذين كانوا أعضاء في لجنة التحقيق والمحكمة (أنا لم أحضر التنفيذ لأنني لم أكن عضوا في لجنة التحقيق أو في المحكمة.. والحمد لله وهذه رحمة من الله).

    كما أشيع الكثير عن تعذيب بعض المعتقلين حتى الموت، إضافة إلى حشر اسم عبد الخالق السامرائي، أحد أبرز القيادات التاريخية البعثية في العراق، وإعدامه. هذا، على الرغم من أنه كان معتقلا، ومحكوما بالإعدام قبل عام 1979 بسبع سنوات مع منع المواجهة عنه حتى لعائلته باستثناء والديه كل ستة أشهر مرة واحدة بحضور أحد منتسبي الاستخبارات.

    البداية

    في شهر مايو/أيار 1979، استدعاني الرئيس البكر إلى مكتبه في القصر الجمهوري وأسرَّ إلي بنيته الاستقالة، "لأنه لم يعد يتحمل الوضع"!

    وقال إن "هذا الجدار أيضا يضعف بمرور الزمن"، وأشار بيده إلى جدار مكتبه. فقلت له: "إنك أنت الذي جئت بالآخرين، وإن الآخرين لم يأتوا بك؛ وأنت كبير الجميع، ومن لا يقر بذلك فهو خاطئ وجاحد". فقال لي: "أنت تقول هذا لأنك ابن أوادم".

    وذهبت من فوري إلى دار عزة إبراهيم الدوري عند بوابة القصر الجمهوري، فوجدته يتناول الغداء، وكنت وقتها جائعا فشاركته الطعام، وخاصة أنني قابلت البكر في نهاية الدوام الرسمي. وكان عزة أقرب البعثيين إلي، كما أنني أقربهم إليه. وأعلمته بنية البكر الاستقالة. فقال: سنعمل أنا وأنت وعدنان خير الله على ثنيه عن الاستقالة. وقال لي: اِعلم أن البكر يقول ذلك كلما غضب. لكنني قلت له إنك لا تتصور الحالة التي هو عليها؛ و"أعتقد أنه جاد تماما هذه المرة".

    لقد كان واضحا مذ أن بدأت خطوات الوحدة بين العراق وسوريا أن صدام لا يحبذها؛ في حين أن موقف البكر والأسد كان معاكسا. فهما كانا متحمسين لها، وكان البكر مستعدا للتنازل عن كل مواقعه لإقامة الوحدة. وفي عام 1978 ترأست وفدا حزبيا شكلته القيادة (من كوادر الحزب المتقدمة وعضو القيادة القطرية حكمت العزاوي)، ومكث الوفد في سوريا مدة تزيد عن الشهر، واطَّلعنا على واقع التنظيم الحزبي والمهني في جميع المحافظات السورية.

    والتقينا الرئيس حافظ الأسد، الذي كان واضح الحماس للوحدة. وفي ذلك اللقاء، تحدثت بحماس عن أهمية تحقيق الخطوات الوحدوية، وقلت: قبل أن ينجز العرب الوحدة عليهم ألا يحاولوا استرداد حق أو كرامة أو أرض سليبة، لأنهم سيفشلون حتما.

    فعلق الرئيس الأسد قائلا: "يجب أن نسلمكم إياها أنتم الشباب".

    وفي اجتماع مشترك للقيادتين القطرية والقومية، كانت المسألة المطروحة للمناقشة تتعلق بالوحدة بين العراق وسوريا؛ حيث قال الرئيس البكر: "لا تحسبوا حسابي" كناية عن أنه لا يريد أيا من المنصبين: رئاسة دولة الوحدة أو الأمانة العامة للقيادة القومية للحزب الموحد. فقال صدام: أبو هيثم (الرئيس احمد حسن البكر) يريد أن يبيعنا إلى حافظ الأسد. فقال البكر: "أنا ما بعتكم ولن أبيعكم".
    [[article_title_text]]

    وعلى الرغم من أن المجتمعين استهجنوا كلام صدام، فإن أيا منهم لم يعلق عليه حتى ميشيل عفلق، الذي لم تتلاءم مواقفه في سنواته الأخيرة مع تاريخه العتيد بالتقشف والزهد والمبدئية. فقد باع نفسه للامتيازات، التي مُنحت له ولعائلته. حتى أنه تخلى عن حلمه بالوحدة التي كرس لها حياته. فتحول إلى مداح وشاعل بخور، وخضع لإملاءات الدولة التي حُسبت على حزب البعث ظلما وجورا.

    صفحات عفلق

    في أوائل السبعينيات من القرن الماضي كانت العلاقة بين ميشيل عفلق الأمين العام لحزب البعث، والذي كان يقيم في بيروت، والقادة في العراق يشوبها التوتر. وبعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر، كتب ميشيل عفلق مقالا بعنوان "الفراغ الكبير"، أشاد فيه بقيادة عبد الناصر، وساوى بين النظامين في العراق وسوريا، وانتقد مواقف وسياسة السلطة في القطرين وبالأخص في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية؛ ما أغضب البكر وصدام والقيادة العراقية، وجعلهم يتهجمون عليه في اجتماعاتهم المغلقة.

    وفي عام 1975، كلفت برئاسة لجنة شكلتها القيادة القومية للإشراف على الانتخابات القطرية في لبنان؛ وكان الخلاف محتدما بين أعضاء القيادة السابقة بعد حجب مسؤولية قطر لبنان عن بشارة مرهج الفائز بالانتخابات (وزير داخلية لبنان بعد انفصاله عن الحزب)، ومعاقبه نائبه معن بشور بتخفيض مستواه الحزبي.

    وكان ميشيل عفلق  يقف مع بشارة ومعن، اللذين استطاعا كسب الجهاز الحزبي وكانا الأنشط والأقوى على الساحة الحزبية. وفي الجانب الآخر، كان الدكتور عبد المجيد الرافعي ونقولا الفرزلي، الذي كان أمين سر قطر لبنان لفترة سابقة. وفي لقائي الأول مع ميشيل عفلق، كان غير راض وغاضبا لتوقيع اتفاقية الجزائر بين العراق وإيران، ورأى فيها تنازلا عن نصف شط العرب، وسأل لِـمَ هذه الاتفاقية؟؟!!

    فقلت له إن الرفيق صدام فور عودته من الجزائر، عقد اجتماعا مشتركا للقيادة القطرية ومجلس قيادة الثورة، وتحدث فيه صدام قائلا: إنه ذهب إلى لقاء شاه إيران بتفويض من القيادة. وإنه إذا كانت إيران قد حصلت على خط التالوك في شط العرب، فإن العراق قد حصل على أراض حدودية واسعة ومهمة، وإن إيران ستتوقف عن إرسال السلاح إلى المتمردين الأكراد ودعمهم. وبذلك، ينتهي التمرد في الشمال الذي شكل نزيفا لاقتصاد العراق. كما ستوقف إيران تدخلها في الشؤون الداخلية للعراق ودول الخليج العربي، وستعتمد سياسة حسن الجوار، وحل المشكلات كافة بالمفاوضات.

    وذكر صدام أنه قال للشاه إن العراق لا يمكنه السكوت إذا ما حصلت مشكلة بين إيران ودول الخليج العربية، وأنه تحدث مع الشاه لكي تقبل إيران بالتحكيم بشأن الجزر العربية (طمب الكبرى وطمب الصغرى وأبو موسى)، وأن الشاه لم يرفض ذلك.

    وأضاف صدام أن العراق بهذه الاتفاقية سيتفرغ للتنمية الاقتصادية وقضية فلسطين، وقال: "كلما توجهنا نحو فلسطين نظل نلتفت خلفنا صوب الحدود مع إيران". وذكر أن العراق ضمَّن المعاهدة فقرةً مهمة جدا تنص على أن اتفاقية الجزائر كل لا يتجزأ، وأن الإخلال بأي فقرة منها تجعل الاتفاقية برمتها لاغية. وقال: "عندما نجد أن الاتفاقية لا تحقق مصلحة العراق فسنلغيها".

    وقد أبلغت أنا عفلق بكل هذه التفاصيل.

    زيارة لم تتحقق

    وقام صدام بزيارة إلى طهران على إن يقوم الشاه بعدها بزيارة إلى بغداد. وعند بحث ترتيبات زيارة الشاه، طلب الإيرانيون ألاَّ يكون الخميني في مدينة النجف عندما يزورها الشاه (الخميني كان لاجئا في العراق ويقيم في مدينة النجف منذ عام 1963)، فكان الرد عليهم أن الخميني ضيف على العراق ورجل دين كبير السن وتقاليدنا العربية لا تسمح بذلك. والمهم ترتيب الإجراءات الأمنية الصارمة، وهذه مسألة قادرون عليها بكل تأكيد.

    وعندما تأخرت الزيارة، قابل سفير العراق في طهران الشاه، وطلب تحديد موعد للزيارة، ففاجأه الشاه، قائلا: إن الوضع الداخلي في إيران سيئ جدا، وهو يلتمس تأجيل الزيارة إلى وقت مناسب. وعندما اندلعت الثورة في إيران وتصاعدت التظاهرات والاحتجاجات، قامت زوجة الشاه فرح ديبه بزيارة مدينة النجف والتبرك بالأضرحة، وكانت في وضع مُزرٍ ومنهارة، كما ذكر لنا محافظ النجف آنذاك المرحوم جاسم الركابي.

    وفي لقائي الثاني بميشيل عفلق، كان هادئا وقال لي إن الدكتور عبد المجيد الرافعي ونقولا الفرزلي يترددان على بغداد لنقل صورة غير صحيحة عن الآخرين، فقلت له إن القيادة في العراق يكنون لكم الاحترام وخصوصا البكر وصدام، لذلك فإنهما لن يستطيعا فعل أي شيء لتغيير القناعات، وإن البكر وصدام على قناعة تامة بأن الحزب سيكون في نهاية المطاف مع الطرف الذي يؤيده الأستاذ ميشيل عفلق، وذلك مترسخ منذ عام 1963، حين حاولت لجنة تنظيم القطر السيطرة على تنظيمات الحزب في العراق. لذلك أرى أن تذهب أنت أيضا إلى بغداد لقطع الطريق على الرافعي والفرزلي، فقال سأفعل وأسافر إلى بغداد، لذلك قلت له لن أعود إلى بغداد إلا معك.

    غير أنه اعتذر بأنه ينتظر أن ينهي أولاده امتحاناتهم السنوية، وامتدحني قائلا أنت رفيق أصيل وصادق ونقي. وفعلا، جاء إلى بغداد عام 1975، وأعلن إسلامه، وكان يريد إشهار إسلامه، لكن البكر أخبرني بأنهم طلبوا منه تأجيل الإشهار بسبب ظروف لبنان والحرب الطائفية فيه؛ ما قد يولد انعكاسا سلبيا على موقف قواعد الحزب.

    استقالة البكر

    في اجتماع القيادة القطرية الذي قدم فيه البكر استقالته، لم يعترض أحد على تنحي البكر غيري. إذ طلبت منه بإلحاح العدول عنها وبقاءه قائدا للمسيرة. وعندما رفض، قلت له: أتوسل إليك أن تبقى أبًا وخيمة للجميع.. شكرني، لكنه أصر على الاستقالة. وقال عدنان الحمداني في ذلك الاجتماع: أنتم عودتمونا (يقصد البكر وصدام) أن لا نعارض ما تتفقون عليه. كما أن محيي الشمري قال مرات عدة بصوت منخفض جدا وكأنه يحدث نفسه: لا- السيد الرئيس لا يستقيل. فغضب البكر، وقال له: هل أنت تتحدث بالنيابة عني؟

    وعندما تحدثت مع عزة الدوري نائب رئيس مجلس قيادة الثورة عن موقفي وحديثي في القيادة، اقترح علي أن أذهب إلى الرئيس صدام وأتحدث معه بشأن الموضوع لأنه غضب لموقفي، فكان أن ذهبت إليه في مكتبه ببناية ندعوها بناية المجلس الوطني، لأنها بنيت لتكون مقرا للبرلمان لكنها لم تستخدم لهذا الغرض، فوجدته يهم بالمغادرة وقد رد على تحيتي بتثاقل وبرود، ليقول لي إنك خرجت في كلامك أمس على إجماع القيادة، والمفروض أن لا تكون عضوا في القيادة في المؤتمر المقبل. فرددت قائلا: إذا شئتَ، فإنني أستقيل من الآن؛ وكان الحديث وهو في طريقة إلى الباب الخارجي للبناية، فغادر المكان وافترقنا.

    فعدت إلى عزت الدوري، وأخبرته بما جرى وأضفت أنني لن أحضر اجتماعات القيادة بعد الآن. بيد أنه لامني على ذلك، وعندما أجبته: ألم نتفق على أن نتصدى للاستقالة، قال بلهجته الشعبية المعروفة ("ماتوا أهلك لقد تغيرت الأمور")، وكان قلقا ويخشى علي من عاقبة موقفي هذا. لذلك طلب مني أن أحضر الاجتماعات، وأحاول إصلاح الأمور وعدم ذكر ما حصل لأحد وكأن شيئا لم يكن؛ مشددا على ضرورة حضوري اجتماعات القيادة. وقد كتبت إلى الرئيس صدام رسالة أوضحت فيها الأمور، وذكر لي عبد حميد سكرتير الرئيس صدام أن عضوين في القيادة حرضا صدام ضدي، وقالا له في لقاء مغلق إنني اعترضت على استقالة البكر، فرد عليهما قائلا إن اعتراضه كان بحسن نية.

    وفي يوم (19/07/1979)، قال محيي الشمري في اجتماع القيادة القطرية إنه قابل البكر، وهو لا يرغب بالاستقالة، وإن بإمكان القيادة التأكد من البكر نفسه، وكان يضحك مستهزئا.

    فقال له صدام غاضبا: "حتى هذا تستكثره على أبو هيثم والله لأطلع خيوطك أين ترتبط"، وطرده من الاجتماع إلى قاعة جانبية صغيرة؛ موجها كلامه إلى فرَّاشه الخاص كامل حنا لاعتقاله. وبعد اعتقال محيي، توالت الاعتقالات. فاعتُقل أعضاء القيادة القطرية عدنان الحمداني وغانم عبد الجليل ومحمد عايش، ثم محمد محجوب (بعد عودته من خارج العراق، التقى عزت الدوري، الذي نقل إلى صدام أن محمد محجوب قد اعترف له بمشاركته في المؤامرة).

    كما اعتقُل العديد من كوادر الحزب المتقدمة العسكريون والمدنيون، منهم: مرتضى سعيد عبد الباقي الحديثي وشقيقه كردي وشكري صبري الحديثي وشقيقه محمد وبدن فاضل وخالد عبد عثمان الكبيسي وماجد السامرائي ووفيق السامرائي ومحمد مناف ووليد الأعظمي وإسماعيل النجار ومعز الخطيب وطالب صويلح (فلسطيني) وحسن محمود طه (فلسطيني) وخليل القصاب وعلي جعفر..

    أما العسكريون فقد اعتقل منهم سليم شاكر الإمام وحامد الدليمي ورياض قدو ومحمد عبد اللطيف ونافع الكبيسي ووليد سيرت وفارس حسين وصالح الساعدي وغيرهم. ومعظمهم إما أُعدم وإما دُبر موضوع وفاتهم في السجن، ولم ينج منهم إلا القليل. حتى أن صدام قال في اجتماع للقيادة القطرية، محاولا تبرير هذا العدد الكبير من المعتقلين، إن المتآمرين يذكرون أسماء كثيرة وهو يخشى أنهم يريدون من ذلك توريط الآخرين معهم. وطلب من أعضاء القيادة كتابة تقارير يذكرون فيها العلاقات التي كانت تربطهم بالمتآمرين والأحاديث التي كانت تدور بينهم. وأعتقد أن غرضه من ذلك لم يكن الخشية التي تحدث عنها، بل تخويف الآخرين لكي يظن كل واحد من أعضاء القيادة أنه قد يُتهم ويُعدم، فكانت أيام وساعات رعب. حتى أن عبد الله فاضل بكى ونفى علاقته بهم واستشهد بي بأن له رأيا سلبيا فيهم فأيدت صحة أقواله (فقد سبق أن نصحته بالابتعاد عن جلسات الشراب الليلية فانتقد تلك اللقاءات)، وكانت تلك إجابته على قول صدام "بس لا عبد الله متورط وياهم؟". وقال طارق عزيز بصوت منخفض جدا: والله ما ندري فقد كنا نجلس معهم ونتحدث ولا ندري ماذا قالوا عنا وماذا يخبئون. وكان قلقا جدا ومرتبكا، فقد كان يحضر معهم أحيانا جلسات الشراب وتربطه علاقة متينة بالقيادة السورية منذ أن كان لاجئا في دمشق خلال الفترة (1963 الى 1967). ثم أحضر محمد محجوب وعدنان الحمداني وغانم عبد الجليل ومحيي الشمري إلى اجتماع القيادة القطرية في المجلس الوطني، وطلب منهم صدام أن يعترفوا وأن يبينوا الأسباب التي دعتهم إلى التآمر، قائلا: "إذا أقنعتمونا، نترك المسؤولية ونسلمها لكم ونحن ذاهبون إلى المؤتمر، فقال محمد محجوب مخاطبا صدام: إنك تعلم أنني أكثر من يكره حافظ الأسد، وكانت تخنقه العبرات، فأجابه صدام هذا ما نقوله لرشيد محسن (مدير الأمن العام قبل 17/تموز/1968) وليس بيننا، أما عدنان الحمداني، فأقسم ألاَّ علاقة له ولا علم بأي مؤامرة، وأصروا على مواقفهم فأمر صدام فرَّاشه الخاص كامل حنا بإخراجهم من قاعة الاجتماع، قائلا لعدنان الحمداني: أنت مدلل حتى في تآمرك "والله لأسوي روسكم طوس"، وهذا تعبير ريفي يعني: "لأجعلن رؤوسكم جماجم".

    (الحلقة الثانية)

    في 22 تموز/يوليو تمر الذكرى السنوية لما تعرف بـ"مؤامرة القيادة" أو "مجزرة قاعة الخلد"، التي دشنت حقبة انفراد صدام حسين بقيادة العراق بعد انقلابه على أحمد حسن البكر عام 1979.
    بهذه المناسبة كشف طاهر توفيق العاني، عضو القيادة القطرية لحزب البعث وعضو مجلس قيادة الثورة في العراق سابقا، لـ RT الأجواء التي مهدت ورافقت لهذا الحدث المفصلي في حياة العراق.

    نقدم لقرائنا الحلقة الثانية والأخيرة من هذه المادة:

    (الحلقة الثانية)
    توجهنا من اجتماع القيادة  القطرية إلى قاعة "الخلد" لحضور الاجتماع الموسع لقيادات الحزب الذي دعي "مؤتمرا". وهناك تحدث محيي الشمري عضو القيادة القطرية، زاعما وجود مؤامرة لها علاقة بسوريا. وفي ذلك الاجتماع، دفعت الاستخبارات صلاح السمرمد سفير العراق في إيران ليقول إنه رفع تقريرا حول المؤامرة، وإن "الرفيق طاهر العاني مسؤول تنظيم بغداد حجبه ولم يرفعه إلى القيادة"، فتدخل الرئيس صدام على الفور مدافعا عني وأسكته. وفي حينه، قلت إنني رفعت تقريره إلى أمانه سر القطر، وإن التقرير يتعلق بموضوع نقله من سفارة العراق في طهران إلى مقر وزارة الخارجية في بغداد ولم يكن له علاقة بأي موضوع آخر. فأيد علي حسن المجيد مدير مكتب أمانة سر القطر أقوالي.

    "مؤامرة 1979"
    وعند محاكمة أعضاء القيادة في ما سمي في حينه "مؤامرة 1979"، توزع أعضاء القيادة القطرية ومجلس قيادة الثورة بين عضوية المحكمة، التي كانت برئاسة عزت الدوري ثم نعيم حداد، وعضوية لجنة التحقيق برئاسة طه ياسين رمضان باستثنائي؛ إذ لم أشترك في أي منهما. وكنت قبل الحادث غير راض عن سلوكية محمد عايش ومحيي الشمري وغانم عبد الجليل بسبب جلسات الشراب الليلية، التي كانوا يعقدونها في بيت محمد عايش مع عدد من الكوادر المتقدمة، ومن بينهم أعضاء قيادة فرع بغداد، الذي أتولى مسؤوليته، وكانت تنتهي إلى مسامعي هذه الأخبار ممن كان يحضر هذه الجلسات.

    جلسات الليل
    مع أنني لم أسمع بما يشي بالتآمر، فإنني كنت أعتقد أن مثل هذه الاجتماعات لا تتلاءم مع سلوكية البعث المنضبط، وخصوصا أنهم ليسوا على مستوى تنظيمي واحد. لذلك طلبت من محمد عايش إيقاف الدعوة إلى هذه اللقاءات. لكنه لم يشأ الاستجابة لكلامي. وكان من بين المشاركين في هذه اللقاءات أصدقاء لي، سمعت أن محمد عايش يعطيهم مبالغ عن طريق محيي الشمري أمين السر العام لمجلس قيادة الثورة. لذلك اتصلت هاتفيا بمحمد عايش وتكلمت معه بقسوة قائلا: إن ما يجري هو تخريب لحصانة القائد البعثي. وإننا إذ نركز على البناء الأخلاقي والقيمي للبعثي، فإن هذه السلوكية تؤدي إلى تدهور سلوك البعثي إلى أسفل سافلين، وأضفت أنه بعثي مناضل، ولكن ما يجري يجعله غير بعثي.

    صدام والاستخبارات
    كان صدام مولعا بالنشاطات الأمنية والاستخبارية، وكان يعين على رئاستها أقرب الناس إليه، ولم ينج من رقابة هذه الأجهزة حتى المسؤولون في الحزب والدولة. ولقد أخبرني أحد المديرين العامين في جهاز الاستخبارات في معتقل "كروبر" الأمريكي في مطار بغداد أن هواتفنا وهواتف بقية أعضاء القيادة والوزراء والمسؤولين تحت تنصتهم، قبل الاحتلال، وأنهم كانوا يسجلون مكالمات المسؤولين ويرفعون الخلاصات إلى سكرتير رئيس الجمهورية. أما أعضاء القيادة، الذين أعدموا عام 1979، فكانوا تحت رقابة أشخاص عينهم صدام ويرتبطون به شخصيا؛ حتى أنه قال لي عام 1979 أثناء مجلس الفاتحة لوفاة أخته (زوجة غالب المحمود) إن "الجماعة (يقصد غانم عبد الجليل ومحمد عايش ومحيي الشمري) إذا لم يصيروا "أوادم" فإننا سنرميهم خارج الحزب مستخدمين خرقة قماش حتى لا نوسخ أيدينا" (كناية عن قذارتهم)، مع أن غانم كان مديرا  لمكتبه فترة غير قصيرة، وأنه لا يوجد لدي شيء ضدهم سوى انتقادي لهم لمجالس الشراب التي يلتئمون فيها مع كوادر الحزب، وكنت آنذاك مسؤولا لتنظيمات بغداد.

    سلاح الكراهية
    ذكرت أن الخلافات بين البكر وصدام كانت ظاهرة منذ الأيام الأولى للثورة وحتى قبلها بسبب اختلاف التربية والثقافة والعقلية ونمط التفكير. بيد أن منزلة البكر وسنه وحكمته كانت تغطي على ذلك. فصدام غالبا ما كان يتحدث عن التمسك بمبادئ الحزب وضوابط الحياة الداخلية للحزب والعلاقات الرفاقية وممارسة التقاليد النضالية. ويرى أن القيادات الإدارية والعسكرية من أصحاب المناصب والرتب العالية من البعثيين أقل وعيا وإخلاصا واستيعابا لفكر الحزب، وأنهم مصدر تهديد للحزب والثورة؛ لذلك كان يسعى للتخلص منهم. في حين أن البكر على العكس من ذلك كان شديد التشبث بهذه القيادات الإدارية والعسكرية والأمنية ذات الممارسة والخبرة في إدارة الدولة والقوات المسلحة والمحافظة على الأمن الداخلي. وعلى سبيل المثال، فقد كان صدام يسعى للتخلص من مهدي الرفاعي مدير أمن بغداد وعبد محمد صالح مدير شرطة بغداد، بينما كان البكر يحول دون ذلك لأنهما سهَّلا تحرك الحزب ليلة 17 تموز 1968. وينطبق هذا الأمر على كل الحزبيين من المدنيين والعسكريين: كالفريق صالح مهدي عماش عضو القيادتين القومية والقطرية ونائب رئيس الجمهورية والفريق حردان التكريتي نائب رئيس الجمهورية ويحيى ياسين رئيس ديوان رئاسة الجمهورية والعميد شفيق الدراجي أمين سر مجلس قيادة الثورة وغيرهم.
    وكانت تبدر من صدام خلال السبعينيات مواقف كثيرة تدل على نفس ديمقراطي والتزام حزبي عال، وعلى أنه لم يكن يريد أن تنغمر البلاد بالدكتاتورية والفردية؛ لكن السلوك العام لاتجاهاته في القيادة وإدارة الدولة لم يكن ينسجم مع هذه الومضات بعد أن احتل الموقع الأول في قيادة الدولة.

    صدام الديمقراطي
    في عام 1989، زار صدام مدينة الموصل، وكنت محافظا لها وكانت الحرب مع إيران قد انتهت منذ فترة ليست طويلة، وجماهير شعبنا تنتظر حياة جديدة تنتشلها من ويلات الحرب وخسائرها البشرية والمادية؛ فكانت تأمل الكثير من قيادة البلد ومن الرئيس صدام بالذات. وفي هذه الزيارة، قال الرئيس صدام اطلبوا ما شئتم من مشروعات. لأنه سيكون لنا بعد فترة قصيرة برلمان يضع لنا ضوابط تصرف وحركة الدولة، وسياقات صارمة تمنع العمل بالصيغ الاستثنائية، وتنهي الحالة التي فرضتها ظروف الحرب. حتى انه خلع نطاقه العسكري ومسدسه ورمى بهما على أريكة قريبه، قائلا: ألا تكفي خمس وعشرون سنة ونحن على هذه الحالة.
    لكن المؤسف أن بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة أخذوا يتباكون على التفريط بمجلس قيادة الثورة معتبرين إياه رمزا للثورة. الأمر الذي دفع صدام إلى ترك الموضوع ولم تنته الأوضاع الاستثنائية. واستمر المجلس بعد أن كانت عدة لجان قد درسته من عدة جوانب، وأعدت مقترحات للعودة إلى الوضع الطبيعي.

    "طبيب يداوي الناس وهو عليل"
    ومن المفارقات أن احتجاجات جماهيرية وقعت في الأردن في تلك الفترة اتسمت بالعنف، سقط فيها قتلى وجرحى. فبادر الرئيس صدام إلى زيارة عمان ومعه مئة مليون دولار منحة مالية للمملكة الأردنية، وقدم نصيحة للملك حسين تتمثل في التحول الديمقراطي السريع، وانتخاب برلمان يتولى تشكيل حكومة تتحمل المسؤولية أمام الشعب؛ وقد عمل الملك حسين بتلك النصيحة.
    وهنا يصح القول بحق صدام "طبيب يداوي الناس وهو عليل"، وعلته البطانة الجاهلة وغير المخلصة وغير النزيهة التي كانت حوله - ابتداءً من اللجنة الخماسية إلى سكرتيره وبقية الحاشية والمرافقين، الذين كانوا ينتظرون ما يفكر به ليتبنوه ويقولونه أمامه وهو بنرجسيته وثقته الزائدة بنفسه كان يرحب بذلك، ولم يستمع إلى نصائح مستشاريه المخلصين وبعض وزرائه وكبار عسكريي الجيش، وكانت فردية القرار هي السر وراء الانهيار المريع للعراق والنهاية المأسوية لما يسمى حكم الحزب والحزب منه براء.
    وكان قبل أن يصبح رئيسا يتصرف بمبدئية وينتقد كل ظاهره سلبية ويضع كل تقصير على عاتق الدولة ويتناغم مع كل من ينتقد او يشكو بعد الثورة، إلى أن ترأس الدولة. عندها، بدأت تظهر عليه بوادر الفردية حتى أصبح على ما يعرفه الناس عنه. ذلك أنه لم يعد يسمع إلا المداحين والنفعيين والمنافقين.

    البكر وصدام
    في أوائل عام 1978، غضب البكر على نائبه صدام حسين لسبب لم أعد أتذكره جيدا، فأصدر أمرا بعدم السماح له بدخول القصر الجمهوري. لذلك منعه العقيد الركن عدنان شريف شهاب آمر فوج الحرس الجمهوري عندما أراد الدخول إلى القصر، قائلا لصدام: أنت ممنوع بأمر الرئيس البكر؛ فما كان منه إلا أن غادر المكان ولجأ إلى بيت الدكتور علي الصافي واختفى فيه، وكان الدكتور علي الصافي وزيرا للمالية في الأربعينيات وهو شقيق كل من حسين وزير العدل في السبعينيات وفاتك الصافي عضو القيادة القطرية القديم. وعندما علم البكر بمكان اختفاء صدام ذهب ومعه أعضاء القيادة القطرية إليه في دار علي الصافي، فقابله صدام وهو يبكي، فقال له البكر: أنا مقصر وحقك علي. وقبل مغادرتنا الدار، قال صدام إنه لم يحاول الاتصال بأحد أو يفعل شيئا، وإن أخاه غير الشقيق برزان إبراهيم التكريتي رئيس جهاز المخابرات وابن خاله عدنان خير الله وزير الدفاع عرفا بمكان اختفائه واتصلا به، فوجههما بالاستمرار في مسؤولياتهما في المسيرة مع الآخرين. وهنا اقتاده البكر من يده ليغادرا الدار معا وخلفهما أعضاء القيادة. وبعد ذلك الحدث، قال عدنان شريف للبكر: لقد جرحنا صدام وهذا شخص شرس وخطير ولا ينسى، دعني أصفيه ونخلص منه، فرفض البكر وعين عدنان سفيرا للعراق في المغرب، وعاد إلى العراق في بداية الحرب مع إيران وعين رئيسا لأركان الفيلق الثاني. وقد توفي في الأيام الأولى للحرب في حادث سقوط طائرة مروحية غامض. وعدنان كان رجلا شجاعا وصادقا وكريما ومن ضباط الدرع اللامعين، وهو الذي صعد بالدبابة الروسية "تي-55" إلى قمة جبل كورك في شمال العراق في السبعينيات؛ ما أذهل حتى الضباط السوفييت.
    كما أن إبراهيم الدليمي مرافق البكر عندما علم بنية البكر الاستقالة، قال له لماذا تقدم استقالتك؟ أنا "أطشر" رأس صدام بطلقة عندما يدخل القصر الجمهوري، فمنعه البكر. وقد توفي إبراهيم في أوائل الثمانينيات في ظروف غامضة حيث وجدته عائلته ميتا في مزرعته في منطقة التاجي في بغداد بعد بضعة أيام من وفاته.
    وفي المؤتمر القطري التاسع، الذي انعقد في قاعة المجلس الوطني عام 1982، قال صدام إن البكر دبر عملية قنص لاغتياله أثناء دخوله إلى القصر الجمهوري، وإن طارق حمد العبد الله رئيس ديوان الرئاسة آنذاك والذي كان قبلها مرافقا للبكر قد أعلمه بذلك، وطلب منه توخي الحذر والحيطة. وأعتقد أنا أن ذلك كان محض افتراء. وبعد المؤتمر التاسع أُبعد طارق عن ديوان الرئاسة وعين وزيرا للصناعات الخفيفة، وبعد فترة قصيرة مات منتحرا في داره في ظروف غامضة.
    كما ذكر لي العقيد الركن هزاع الفيزي آمر اللواء العاشر أنه أبدى للرئيس البكر مرات عديدة استعداده لتطويق مدينة بغداد ليقوم البكر بإبعاد من يريد من أعضاء  القيادة والمسؤولين. وقد ذكر هذا أيضا لأصدقاء له في مدينة الموصل ومنهم عبد الهادي العاني وفالح الصفار وآخرين.

    قضية صالح مهدي عماش
     وفي أوائل السبعينيات لم يلق إسقاط عضوية القيادة عن صالح مهدي عماش وكريم الشيخلي وسمير عبد العزيز النجم قبولا من الرئيس البكر. وكان أكثر همه على صالح مهدي عماش، فطلب نادما وغاضبا مراجعة إسقاط عضوية القيادة عنه. غير أن صدام حسين وعبد الخالق السامرائي أجاباه بأن القرار صدر عن القيادة القطرية ووصل إلى الإذاعة والتلفزيون ولا يمكن التراجع عنه. فأخذ البكر يتوعد ويهدد، قائلا: "إذًا، كلٌ منا يعرف طريقه". وغادر الاجتماع إلى مكتبه في القصر الجمهوري. فقد كان يحب صالح ويريد بقاءه في القيادة، وكان المفروض أن يعمل شيئا فهو قادر على استثناء صالح، لكنه لم يفعل شيئا!
    أما موقف صدام فتمثل بمغادرته بغداد واعتكافه في داره في قرية العوجة قرب تكريت. وفي هذه الأثناء توقفت اجتماعات القيادة القطرية ومجلس قيادة
    الثورة على مدى أسابيع.
    وخلال هذه الفترة حاول عبد الخالق السامرائي مقابلة البكر أو الاتصال به هاتفيا فلم يفلح، وقد استعان بي فقد كنت آنذاك سكرتيرا للرئيس البكر.
    وفي حادث يستوقف الانتباه، أعرب الرئيس البكر عن ثقته بصالح مهدي عماش؛ حيث وجدته في صباح أحد الأيام بعد إعفاء صالح غاضبا وفي حالة عصبية شديدة، فقال لي مستنكرا: "صالح عميل؟ هل يصح هذا الكلام؟!" وكان يتوعد بأشد الأمور واستدعى عددا من قادة القوات المسلحة في بغداد - كلاً على حدة -، ومنهم: العميد الركن داوود الجنابي آمر لواء الحرس الجمهوري والعميد عمر الهزاع آمر موقع بغداد والعقيد مجيد الفدعم آمر الانضباط العسكري والعقيد الركن هزاع الفيزي آمر اللواء العاشر وآخرين.
    وكنت أتوقع أن يقوم بعمل عسكري يبعد فيه عددا من أعضاء القيادة، غير أنني لا أعلم ما الذي منعه من ذلك، فقد منح الذين حضروا اللقاءات هدايا نقدية تعدُّ كبيرة آنذاك على غير عادته.
    وصالح مهدي عماش رجل وطني وشجاع وذكي جدا لكنه طيب وعاطفي ومتسرع ومندفع أحيانا.
    وفي أواخر عام 1978 حضرت إلى قاعة الاجتماعات في القصر الجمهوري، فوجدت الرئيس البكر يتمشى في القاعة وبعض أعضاء القيادة القطرية واقفون حول طاولة الاجتماعات. والمعتاد هو أن يحضر أعضاء القيادة أو مجلس قيادة الثورة، ثم يحضر الرئيس البكر. وكان الجو مشحونا بالتوتر.

    البكر وإيران
    كنت أراقب الاختلاف العميق  بين البكر وصدام. فقد كانت هناك ملاحظات حاول الاثنان إخفاءها لكنها تعطي الانطباع للمراقب بوجود الاختلاف.
    وأرى من المفيد أن أذكر مثلا يدل على حنكة البكر وحكمته وعدم اندفاعه وتهوره.
    ففي أوائل عام 1974، اندلعت اشتباكات عسكرية واسعة بين العراق وإيران على الحدود في محافظة واسط – بدرة وجصان (سيف سعد) اشتركت فيها أسلحة وصنوف الجيش كافة باستثناء الطائرات الحربية. وكنت آنذاك مسؤولا لتنظيم الجنوب لحزب البعث (محافظات واسط وذي قار وميسان والبصرة)، فذهبت لمقابلة البكر فلم أجده في مكتبه في القصر الجمهوري. وانتظرته حتى عاد من زيارة إلى منطقة الاشتباكات. وكان يرافقه الفريق أول عبد الجبار شنشل رئيس أركان الجيش (منذ مقتل الفريق حماد شهاب وزير الدفاع احتفظ البكر لنفسه بحقيبة وزارة الدفاع إلى أن اضطر إلى تعيين عدنان خير الله وزيرا للدفاع) ودخلت على الفور وراءه إلى مكتبه. وكان البكر قد عاد من تلك الزيارة وهو في غاية السرور والرضا والانتعاش. فقلت له: "والله ستحدث الحرب مع إيران". فضحك، وقال: لا - كيف ستحدث الحرب؟ قلت له: جحفل اللواء بأمرة العقيد الركن ضياء توفيق (أصبح قائد الفيلق الثاني خلال الحرب مع إيران) يشتبك مع القوات الإيرانية وقاعدة أبو عبيدة الجوية وآمرها العقيد الركن محمد جسام الجبوري (أصبح قائدا للقوة الجوية العراقية خلال الحرب مع إيران) متهيئة للمشاركة في الاشتباكات. يضاف إلى ذلك أن أرتال الدبابات والمدفعية متواصلة من مدينة تكريت ومعسكر التاجي إلى الحدود مع إيران. لكنه ذهب إلى المغاسل ثم عاد قائلا: طاهر يقول ستنشب حرب! هل الحرب مزحة؟ أو نزهة يا طاهر؟ نحن لا نريد الحرب ولا الإيرانيون يريدون الحرب أيضا. الحرب ليست لعبة.
    وقد كانت تلك الاشتباكات واسعة جدا، وتواصلت لمدة تزيد عن الأسبوع، وفي حينه أبدى سفير الاتحاد السوفييتي في بغداد لوزير الخارجية قلق بلاده من تصاعد الموقف العسكري. وعندما أجابه وزير الخارجية بأنها مجرد اشتباكات حدودية، رد السفير: كيف؟ الطائرات فقط لم تشترك في القتال حتى الآن؟!
    وكان التفوق العسكري واضح لمصلحة العراق؛ حيث استرد أراضي كانت إيران قد استولت عليها في الماضي ولم تتوقف المعارك إلا بعد انسحاب القوات الإيرانية وتوقفها عن إطلاق النار بعد أن تكبدت خسائر كبيرة جدا. وآنذاك علق الإعلام الغربي ساخرا من ضعف أداء الجيش الإيراني - القوة العسكرية الخامسة في العالم!
    [[article_title_text]]
    طاهر توفيق العاني
    وفي بداية السبعينيات، صدر عن إيران موقف سيئ تجاه العراق لم اعد أتذكره جيدا، فخرجت مسيرات جماهيرية حاشدة في بغداد والمحافظات استنكارا لذلك الموقف. وتجمعت تظاهرات بغداد في ساحة التحرير، وألقى البكر كلمة في المتظاهرين قال فيها بالحرف الواحد: "لست عربيا ولست مسلما إن نسيت هذا الموقف النذل لإيران". ويبدو لي أنه لم يكن يقصد أو يفكر بالحرب مع إيران. فقد رفض تأييد الحرب التي اندلعت مع إيران عام 1980 بالرغم من طلب صدام وإلحاحه عليه مرات عدة.
    كما ذكر لي الأستاذ صلاح عمر العلي أن إيران في بداية السبعينات كانت تقوم بتجاوزات واستفزازات في شط العرب، وعندما نوقش موضوع التصدي لتلك التجاوزات في اجتماع القيادة، قال البكر: تغاضوا وأظهروا أنفسكم كأنكم لا ترون هذه التجاوزات، وأنكم غير مكترثين بها، لأننا الآن لا نمتلك القوة لردعهم.
    والرئيس البكر ضابط كفء عمل مساعدا لآمر الكلية العسكرية وآمر فوج في الجيش العراقي قبل ثورة 14 تموز 1958. أما الفريق عبد الجبار شنشل، فيمثل نموذج العبقرية للقيادة العسكرية وقمة الإيمان والصدق والنزاهة والعفة والتقشف رحمه الله.
     وأخيرا، أقول إن البعثيين اليوم مطالبون بأن يعاودوا سيرتهم الأولى نقاء وصفاء وصدق، وأن يقدموا نقدا جريئا وصريحا وموضوعيا لتجربة الحزب في العراق والأخطاء والممارسات والتجاوزات التي وقعت فيها القيادات الطارئة وأدت إلى احتلال العراق وتمزيقه. وأن يعيدوا تأهيل حزبهم وتربية أعضائه وأنصاره وجماهيره، والعودة إلى النوعية والقدوة والتخلص من ورم الكمية ونبذ وطرد المنافقين والنفعيين والكذابين والمطبلين.
    عندها يكسبوا رضا وارتياح الجماهير وقبولها لهم، وبغير ذلك يبقى الحزب معزولا يراوح مكانه ويعيش أزماته القاتلة. 

    طاهر توفيق العاني
    عضو القيادة القطرية لحزب البعث وعضو مجلس قيادة الثورة في العراق سابقا.
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media